كتاب الرد على ابن النغريلة/الصفحة الثامنة


الفصل الثامن


ثم ذكر هذا الزنديق الجاهل قول الله تعالى : {ونزلنا من السماء ماء مباركا) (ق: 9)

وقال : كيف يكون مباركاً وهو يهدم البناء ، ويهلك كثيراً من الحيوان ؟

قال أبو محمد : من لم يكن مقدار فهمه وعقله إلا هذا المقدار ، لقد عجل الله له العقوبة في الدنيا والحمد لله رب العالمين .

وليت شعري أما درى هذا الجاهل انه لولا شرب الماء لم يكن في الأرض حيوان أصلاً لا إنسان ولا ما سواه ، وأن عناصر جميع المياه الظاهرة على وجه الأرض والمختزنة في أعماقها إنما هي من مواد القطر النازل من السماء ؟

أما راى هذا الأنوك ان الأمطار إذا كثرت غزرت العيون وفهقت الأنهار وطفحت البرك وامتلأت الآبار وسالت السيول وتفجرت في الأرض ينابيع ؟

حتى إذا قلت الأمطار وضعفت العيون ونقصت الأنهار وجفت البرك والآبار وانقطعت السيول وغارت الينابيع ، خشنت الصدور وفسد الهواء ؟

أما رأى أنه لا نماء لشيء من النبات كله ، منزرعه وصحراويه ، وجميع الشجر بساتينها وشعرائها إلا بالماء النازل من السماء ؟

أما قرأ في هذيانهم الذي يسمونه "توراة" امتنان الله تعالى في صفة الأرض المقدسة بأنها لا تسقى من النيل ، كما تسقى أرض مصر لكن من ماء السماء ؟

أتراه إنما من عليهم بضد البركة لا بالبركة ؟ إن هذا لعجب .

أما علم أن الأمطار ترطب الأجسام وتذهب بقحلها وأن بالماء الذي عنصره ماء السماء تزال الخسيس وجهله وهو عميد اليهود وعالمهم وكبيرهم ، وهذا مبلغه من الجهل والسخف ، ونستعيذ بالله من الجهل والضلالة ، والحمد لله رب العالمين .

قال أبو محمد : ها هنا انتهى كل ما ظن المائق أنه اعترض به ، قد بان فيه كله زوره وجهله واغتراره ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

ثم نحن عن شاء الله تعالى ذاكرون بحول الله تعالى وقوته قليلاً من كثير من قبائحهم يديرونها وينسبونها إلى الباري تعالى في كتبهم التي طالعناها ووقفنا عليها ، وتضاعف بذلك شكرنا لله تعالى على عظيم ما منحنا من نعمة الإسلام والملة التي ابتعت بها محمداً صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً وعلى آله الطيبين والحمد لله على ما أولانا من فضل الإسلام وشرف الإيمان .


فصل في قبائحهم يديرونها وينسبونها إلى الباري تعالى

اعلموا أيها الناس ، علمنا الله وإياكم ما يقربنا منه ويزلف حظوتنا لديه أن اليهود أبهت الأمم وأشدهم استسهالاً للكذب ، فما لقيت منهم أحداً قط مجانباً للكذب القبيح على كثرة من لقينا منهم ، إلا رجلاً واحداً في طول أعمارنا ، فطال تعجبي من ذلك إلى أن ظفرت بسرهم من ذلك في هذا الباب ، وهو انهم يعتقدون بسخفهم وضعف عقولهم أن الملائكة الذين يحصون أعمال العباد لا يفقهون العربية ولا يحسنون من اللغات شيئاً إلا العبرانية ، فلا يكتب عليهم كل ما كذبوا فيه بغير العبرانية ، فحسبكم بهذا المقدار من الجهل العظيم والحمق التام !

فمن طوامهم أن علماءهم يقولون : إن الله عز وجل إنما ستر عن يعقوب أمر يوسف وكونه في مصر ثلاثة عشر عاماً كاملاً ، لأن أولاد يعقوب لعنوا كل من ينقل إلى أبيهم ان يوسف حي .

قالوا : فدخل الله تحت هذه اللعنة إذا أطلع يعقوب على حياة يوسف ، تعالى الله عن إفك هؤلاء المجانين وكفرهم .

واغوثاه من عظيم هذا الحمق! أفيكون في البقر والحمير أو الكلاب أضل من قوم هذا مقدار عقولهم ، ان يجيزوا أن تكون لعنة مخلوق تلحق الخالق ؟

اللهم فإنا نحمدك على توفيقك إيانا للإسلام وهدايتك إليه ، ونسألك الثبات عليه إلى ان نلقاك مسلمين ، برحمتك آمين .

ثم العجب انهم قالوا في إخوة يوسف إنهم كانوا المخبرين ليعقوب بحياة يوسف ، فهكذا في نص الكتاب المسمى عندهم "التوراة" ، فما نرى اللعنة إلا قد لحقتهم .

ثم نجدهم لا يستحيون من أن ينسبوا إلى الأنبياء عليهم السلام انهم زنوا ، وانهم من نسل الزنا ، فإن السفر الأول من كتابهم ذلك المسمى "توراة" : أن يهوذا زنى بامرأة ولده ورشاها على ذلك جدياً من الغنم ، ورهنها بالوفاء بذلك عصاه وزناره وخاتمه .

وقد وقفت بعضهم على هذا فقال لي : كان ذلك مباحاً عندهم ، فقلت له : إنك تقول الباطل ، إذ ان في توراتهم أن يهوذا الذي جامعها أمر بها أن تحرق إذ ظهر حملها .

فإن كان ذلك ، فلم أمر بحرقها ؟ ثم لا يستحيون ان يقولوا : إن من ذلك الزنا حملت بفارص ابن يهوذا الذي من نسله كان داوود وسليمان عليهما السلام ، وكثير من الأنبياء كعاموص وشعيا وغيرهم .

ومن عجائبهم انهم يقولون : عن كل نكاح كان على غير حكم التوراة فهو زنا والمتولد منه ولد زنا ، حتى إنهم يبيحون لمن تهود من سائر الأديان ان يتزوج أخته من أبيه .

ثم لا يستحيون ان يقولوا إن موسى وهرون أخاه تولدا من نكاح عمران بن قاهث بن لاوي عمته أخت أبيه يوخابد بنت لاوي .

وأن سارة أم إسحق كانت أخت إبراهيم ابنة والده تارح ، وأن سليمان بن داود كان ابن امرأة زنى بها داود ، وولدت منه ابناً من الزنا وتزوجها او زنى المحمى حتى لم يطلقها ويقولون : إن الجمع بيت الأختين زنا ، وان وطء الإماء بملك اليمين زنا ، والمتولد من هذه النكاحات زنا ، وهم يقرون أن جميع ولد يعقوب عليه السلام كانوا من أختين نكحهما معاً ، وهما ليا وراحيل ابنتا لابان ، فولدت له ليا ستة ذكور ، وولدت له راحيل يوسف وبنيامين ، وأن الأربعة الباقين من ولد يعقوب ولدوا له من زلفاء وبلها ، أمتي راحيل وليا، وطئهما بملك اليمين لا بزواج أصلاً ، لأن في توراتهم ان لابان أخذ عليه العهد عند كوم الشهادة أن لا يتزوج على ابنته ، فكلهم من أبناء هذه الولادات .

وهاتان مقدمتان تنتج ان جميع بني إسرائيل وجميع اليهود أولاد زنا .

فإن قالوا : كان ذلك حلالاً قبل أن يحرم ، أقروا بالنسخ ، وإن قالوا : إن ذلك خاص لبني إسرائيل مذ أنزلت التوراة ، لزمهم ترك قولهم : إن كل مولود في الأمم بخلاف حكم التوراة فهو ولد زنا ، وعلى كل حال يلزمهم أن أولاد سليمان عليه السلام كانوا أولاد زنا بحت ، لأنهم مقرون انهم كانوا من أبناء العمونيات والموآبيات وسائر الأجناس ، ورؤوس الجواليت إلى اليوم من أبناء من ذكرنا ، تعالى الله تعالى وتنزه أنبياؤه عليهم السلام عن هذه المخازي ؛ وإسحق أبوهم ، وهرون وموسى وداود وسليمان ويوسف على قول هؤلاء الكفرة، لعنهم الله ، ولدوا لغير رشدة ، لعن الله قائل هذا معتقداً له ومصدقاً له .

ومن عجائبهم أنهم يقرون في كتابهم المسمى بالتوراة ان السحرة فعلوا بالرقي المصري مثلما فعل موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم من قلب العصا حية ، ومن قلب ماء النيل ، ومن استجلاب الضفادع ، حاشا البعوض فلم يقدروا عليه .

قال أبو محمد : لو صح هذا ، وأعوذ بالله ، وأعوذ بالله ، لما كان بين موسى عليه السلام والسحرة فرق إلا قوة العلم والتمهر في الصناعة فقط ، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من أن يكون آدمي يقدر بصناعته على خرق عادة ، أو قلب عين ، وننكر ان الله تعالى يولي ذلك أحداً غير الأنبياء صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ، الذين جعل الله تعالى ظهور المعجزات عليهم شاهداً لصدقهم .

ومن عجائبهم قولهم في نقل أحبارهم الذي هو عندهم بمنزلة ما قال الأنبياء : إن فرعون كان بنى في المفاز صنماً يقال له باعل صفون ، وجعله طلسماً باستجلاب بعض قوى الأجرام العلوية ، ليحير به كل هارب من أرض مصر ، وان ذلك الطلسم حير موسى وهارون وجميع بني إسرائيل حتى تاهوا أربعين سنة في فحص التيه إلى أن ماتوا ملوكهم في المفاز ، أولهم عن آخرهم ، حاشا يوشع بن نون الافراهيمي ، وكالب بن يوفنا اليهوذاني .

فتباً وسحقاً لكل عقل يزعم صاحبه ان صناعة آدمية وحيلة سحرية غلبت قوة الله تعالى ، وأعجزت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات تائهاً في المفاز حائراً في القفار .

ومن تكاذيبهم قولهم في الكتاب الذي يسمونه "التوراة" : ان الله تعالى قال لهم : سترثون الأرض المقدسة وتسكونها في الأبد .

ونحن نقول : معاذ الله أن يقول الله تعالى الكذب ، وقد ظهر هذا الوعد ، فما سكنوه في الأبد وما عمروه إلا مدة يسيرة من آباد الأبد ، ثم أخلوه وأخرجوا عنه وورثه الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

ومن عجائبهم قولهم فيه : إن الله عز وجل قال لموسى : إذا أراد بنو إسرائيل الخروج عن مصر أن يأخذ أهل كل بيت من بني إسرائيل خروفاً أو جدياً ويذبحونها مع الليل ويأخذون من دمائها ويمسون بها أبوابهم وعتب بيوتهم ، ثم قال : قلت سأمسح بأرض مصر هذه الليلة ، وأهلك كل بكر ولد بأرض مصر من أبكار الآدميين وبكور نتاج المواشي ، واحكم في مصر أنا السيد وعند ذلك يكون الدماء.

الدم لكم في البيوت التي تكونون فيها ، فإذا نظرت إلى ذلك تجاوزكم ولا يصل إليكم ضر .

ثم قال بعد أسطار حاكياً عن موسى انه قال لبني إسرائيل : اذهبوا وليذبح أهل كل بيت منكم الضأن ، وعيدوا واصبغوا في دمائها رانا ، ورشوا به أبوابكم وأعتابكم ولا يخرج أحد عن باب بيته إلى الصبح ، فإن السيد سيمسخ ويهلك المصريين ، فإذا نظر إلى الدم على العتب وفي الأبواب لم يجاوز الباب ، ولا يأذن للقاتل بالدخول إلى بيوتكم وقتلكم .

قال أبو محمد : فيكون أسخف من عقول من ينسبون إلى الله تعالى مثل هذا الكلام الفاسد ؟

أوترى الله عز وجل لا يعرف أبوابهم حتى يجعل عليها علامات ؟! إن هذا لعجب .

لو عقل هذا المجنون لشغله هذا السخام الذي في دينه الذي يباهي به ، عن التعرض للحقائق يروم إبطالها ، فكان كما قال الله عز وجل : {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} (الصف: 8).

ومن عجائبهم أنهم يلتزمون أكل الفطير في مرور الوقت المذكور في كل عام ولا يلتزمون أكل الخروف ، على ما ذكرنا ، وهم يقرون في كتابهم انهم مأمورون بذلك كله .

فغن قالوا : إنما أمرنا بذلك ما دمنا في أرض القدس .

قيل لهم : اتركوا أيضاً استعمال أكل الفطير حتى تكونوا في أرض القدس فلا فرق في كتابكم بين الأمر بالفطير والخروف .

ومن عجائبهم في الكتاب المسمى عندهم "التوراة" ان موسى عليه السلام مجد الله تعالى يوم أغرق فرعون فقال في تمجيده : ذلك قولي ومديحي للسيد الذي صار لي مسلماً ، هذا إلاهي أمجده وإله آبائي أعظمه ، السيد قاتل كالرجل القادر .

أفيسوغ لذي عقل أن ينسب إلى نبي الله تعالى انه شبه قوة ربه عز وجل بقوة الرجل القادر ؟ وهل في الافتراء اعظم من هذا لو عقلوا ؟

ومن عجائبهم قولهم في السفر الثاني من كتابهم : ثم صعد موسى وهرون وناداب وأبيهو وسبعون رجلاً من المشايخ ، ونظروا إلى إله إسرائيل وتحت رجله كلبة زمرد فيروزي .

وفي بعض الفصول ان موسى عليه السلام قال ، أو يعقوب : رأيت الله مواجهة وسلمت نفسي .

مع قولهم عن الله تعالى قال لموسى عليه السلام : من رأى وجهي من الآدميين مات ، ولست تقدر تراني ، لكن سترى مؤخري .

فهل في التناقض اعظم من هذا : مرة يقول من رأى وجهي مات ، ومرة يقول رأيته مواجهة وسلمت نفسي .

وكل ما ذكرناه ففي كتابهم الذي يسمونه "توراة" لا في نقل ضعيف ولا غيره .

ومن عجائبهم قولهم في السفر الثاني إن هرون أخا موسى بإقرارهم قال لبني إسرائيل في مغيب موسى : اقلعوا أقراط الذهب عن آذان نسائكم ومواليكم وأولادكم وبناتكم ، ايتوني بها .

ففعلت العامة ما أمر به وأتوا بالأقراط إلى هرون ، فلما أقبضها أفرغها وجعل لهم منها عجلاً ، فلما بصر به هرون بنى مذبحاً بين يدي وصرخ مسمعاً : غداً عبد السيد .

ثم ذكر بعد فصول بأن موسى عليه السلام وجد بني إسرائيل عراة بين يدي العجل يتغنون ويرقصون ، وكان عراهم هرون بجهالة قلبه .

هذه نصوص كتابهم .

أفيسوغ في عقل من له أدنى مسكة أن يكون نبي يعمل عجلاً للعبادة من دون الله تعالى ويأمر قومه يعبدوا له ، ويرقص هو وهم تعظيماً للعجل على أنه إلاههم الذي من مصر ؟

وإذا جاز ان يكون عجلاً وثناً ويعبدوه ، جاز لنبي بالقبول من كلامه وأمره في العجل ؟ وما الذي جعل سائر عمله أصح من زناه وفتحه بيوت الأوثان وتقريب القرابين لها ؟

ولعل سائر ما أمر به وما عمل مفتعل كل ذلك من جنس عمل العجل والزنا .

والذي لا شك فيه عندي ان من يدل توراتهم وأدخل فيها مثل هذا ، إنما قصد إلى إبطال النبوة جملة، وبالله تعالى التوفيق .

ومن عجائبهم قولهم في السفر الرابع : إن بني إسرائيل إذ طلبوا أكل اللحم وضجوا من أكل المن ، ان الله تعالى قال لموسى : تقدسوا غداً تأكلون اللحمان ، فأنا أسمعكم قائلين من ذا الذي يعطينا . قد كنا بخير .

يعطيكم السيد اللحمان فتأكلون ، ليس يوماً واحداً ولا اثنين ولا خمسة ولا عشرة إلا حتى تكمل أيام الشهر ، حتى يخرج على مناخركم وتصيبكم التخم .

فقال له موسى : هؤلاء هم ستمائة ألف رجل وأنت تقول : أنا أعطيكم اللحوم طعماً شهراً ، أترى تكثر ذبائح الغنم والبقر فيقتاتون بها ، أو تجمع حيتان البحر معاً لتشبعهم ؟ فقال السيد : ماذا يهم السيد ؟ أترى السيد عاجزاً ؟ فالآن ترى إن تم قوله .

ثم ذكروا ان الله تعالى أنزل السمانى حول العسكر فأكلوا حتى تخموا ومات كثير منهم بالتخمة ، فسمي ذلك الموضع قبور الشهوات .

قال أبو محمد : فلو تدبر هذا اللعين الجاهل كذبهم في هذا الفصل ، لردعه عن أن يظن بقول الله تعالى لنبيه {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} ، وليعلم ان الشك المجرد قد نسبوه إلى موسى عليه السلام في هذا الفصل ، فإنه لم يثق بقول ربه ولا صدق قدرته على إطعام بني إسرائيل اللحم شهراً كاملاً ، وهذا مع ما فيه من الشك المكشوف الذي لا يجوز ان يخرج له تأويل يبعده عن الشك ، ففيه من السخف غير قللي ، لان من رأى شق البحر ، وإنزال المن المشبع لهم ، فواجب عليه ان لا يستعظم إشباعهم بلحم ينزله عليهم .

ولكن الكذب والتوليد لا يكون إلا هكذا ليفضح الله تعالى به أهله .

والحمد لله على ما من به علينا من طهارة الإسلام ، ووضوح حجته ، وله الشكر على ما كفانا من دنس الكفر ، وتناقض عراه .

وبعد هذا الفصل أيضاً في السفر الرابع ما ذكره من قول الله تعالى لموسى عليه السلام إذ ضج بنو إسرائيل من دخول الأرض المقدسة ، قالوا : فقال السيد لموسى ابن عمران : "حتى متى تتناولني هذه الأمة التي لا يؤمنون بي على ما آتيتهم من العجائب التي فعلت أمامهم ، سأضربهم بالوبأ حتى أمسخهم ، وأجعلك مقدماً على أمة عظيمة أشد قوة من هذه" ، وان موسى لم يزل يرغب إلى الله عز وجل حتى قال : قد غفرت لك كما سألتني .

ففي هذا الفصل من إطلاق الكذب في الحلف على الله عز وجل ما لا يجوز ان ينسب مثله إليه تعالى .

وقد ذكرنا في كتابنا الموسوم "بالفصل في الملل والنحل" الفصل الذي في توراتهم في ذكر أنسابهم ، وبينا عظيم الكذب فيه : وهو انهم ذكروا ان سبعة نفر من بني إسرائيل من ولد قاهث بن لاوي نسلوا ثمانية آلاف ذكر قبل موتهم في التيه ، وأولئك السبعة أحياء قائمون وهم حينئذ أكثر ما كانوا .

وقد قال بعضهم : إن هذا من المعجزات .

فأجبناه بان المعجزات إنما تكون للأنبياء عليهم السلام ، وأما لكفار عاصين فلا .

هذا سوى ما في توراتهم من شرائعهم التي يلتزمونها الآن كالقرابين ، وكمن مس نجساً فإنه ينجس إلى الليل ، ومن حضر على مقبرة ينجس إلى الليل حتى يغتسل كله بالماء .

وأما الصلوات التي يصلونها الآن فمن وضع أحبارهم ، فيكفيهم انهم على غير شريعة موسى عليه السلام ولا على شريعة نبي من الأنبياء.

ومن طرائفهم قولهم في كتاب لهم : يعرف ( بشعر توما ) ان تكسير ما بي جبهة خالقهم إلى أنفه كذا وكذا ذراعاً .

وقالوا في كتاب لهم من "التلمود" وهو فقهم يسمى "سادر ناشيم" ومعناه حيض النساء : ان في رأس خالقهم تاجاً من كذا وكذا قنطاراً من الذهب ، وان صديقون الملك هو يجلس التاج على رأس خالقهم ، وان في إصبع خالقهم خاتماً تضيء من فصه الشمس والكواكب .

ومن طوامهم قولهم عن رجل من أحبارهم الذين يريدون ، ان من شتم أحداً منهم يقتل ، ومن شتم أحد الأنبياء لا يقتل .

فذكر عن لعين منهم يدعونه إسماعيل انه قال لهم، وكلامه عندهم والوحي سيان ، فقال : كنت أمشي ذات يوم في خراب بيت المقدس ، فوجدت الله تعالى في تلك الخرب يبكي ويئن كما يئن الحمامة ، وهو يقول : ويلي هدمت بيتي ، ويلي على ما فرقت من بني وبناتي ، قامتي منكسة حتى أبني بيتي وأرد بناتي وبني ، قال هذا الكلب لعنه الله : ثم قبض الله على ثيابي وقال لي : لا أتركك حتى تبارك علي .

فباركت عليه وتركني .

قال أبو محمد : أشهد الله تعالى خالقي وباعثي بعد الموت والملائكة والأنبياء والمرسلين والناس أجمعين والجن والشياطين أني كافر برب يكون بين الخرب ويطلب البركة من كلب اليهود .

فلعن الله تعالى عقولاً جاز فيها مثل هذا .

ومن عجائبهم قولهم في السفر الخامس من توراتهم ان موسى عليه السلام قال لهم : إن الله تبارك وتعالى يقول لكم : إني لم أدخلكم البلاد لصلاحكم ولا لقوام قلوبكم ، ولكن لكفر من كان فيها .

ثم يقولون في عيدهم الذي يكون في عشر تخلو من أكتوبر ، وهو تشرين الأول ، ساخطين على الله تعالى غضاباً عليه تعالى إذ قصر بهم ولم يؤدهم حقهم الذي يجب لهم عليه فيقولون لعنهم الله : إن الميططرون ومعناه الرب الصغير ، تحقيراً لربهم تعالى وتهاوناً به يقوم هذا اليوم قائماً وينتف شعره ويقول : ويلي إذ أخرجت بيتي وأيتمت بني ، قامتي منكسة لا أرفعها حتى أبني بيتي .

فهم كما ترى يلعنون ربهم ويصغرونه ويقولون ذلك بأعلى أصواتهم في أكبر أعيادهم وأعظم مجامعهم .

فكيف يجتمع هذا الحمق العظيم قوله لهم في توراتهم : "لم أدخلكم البلاد لصلاحكم ولا لقوام قلوبكم" ؟

فهل التناقض والفساد والتبديل الظاهر إلا هذا كله لو عقلوا ؟

وفي السفر الخامس أيضاً أن موسى عليه السلام قال لهم : إن السيد إلاهكم الذي هو نار آكلة .

وفي موضع آخر من كتبهم ان الله تعالى هو الحمى المحرقة ؛ وفي الذي يسمونه "الزبور" : احذر ربك الذي قوته كقوة الجريش .

فهذا وشبهه هو الحمق والتناقض وتوليد زنديق سخر منهم وأفسد دينهم .

وهم يحققون على سليمان عليه السلام انه بنى بيوت الأوثان لنسائه وقرب لها القرابين ، وهو عندهم نبي .

وقد مضى الكلام في بطلان كل كلام وعمل يظهر ممن هذه صفته ، وانه ليس مأموناً ولا صادقاً ، لعنهم الله فإنهم كذبوا على أنبياء الله وافتروا.

ويقرءون في السفر الرابع من توراتهم أن الله تعالى أمرهم أن يضربوا القرن ضرباً خفيفاً ، حتى إذا لقوا العدو فليضربوا القرن بشدة ليسمعه فيبصرهم ، وفي هذا من السخف والكفر غير قليل ، ولكن حق لمن غضب الله عليه وتبرأ منه وألحقه لعنته وألحقه سخطه ان يكون مقدار علمهم وعقولهم التصديق لكل ما اوردنا ، والحمد لله رب العالمين على منته علينا بالإسلام ، ومحمد .

وهم معترفون بان التوراة طول أيامهم في دولتهم لم تكن عند أحد إلا عند الكاهن وحده ، وبقوا على ذلك نحو ألف ومائتي عام ، وما كان هكذا لا يتداوله إلا واحد فواحد فمضمون عليه التبديل والتغيير والتحريف والزيادة والنقصان ، لا سيما وأكثر ملوكهم وجميع عامتهم في اكثر الأزمان كانوا يعبدون الأوثان ويبرءون من دينهم ويقتلون الأنبياء ، فقد وجب باليقين هلاك التوراة الصحيحة وتبديلها مع هذه الأحوال بلا شك .

وهم مقرون بان يهوآحاز بن يوشيا الملك الداوودي المالك لجميع بني إسرائيل بعد انقطاع ملوك سائر الأسباط ، بشر من التوراة أسماء الله تعالى وألحق فيها أسماء الأوثان .

وهم مقرون أيضاً أن أخاه الوالي بعده وهو الياقيم بن يوشيا احرق التوراة بالجملة وقطع أثرها ، وهو في حال ملكه قبل غلبة بخت نصر عليهم .

وهم مقرون بان عزرا الذي كتبها لهم من حفظه بعد انقطاع أثرها ، إنما كان وراقاً ولم يكن نبياً ، إلا أن طائفة منهم قالت فيه إنه ابن الله، قد بادت هذه الطائفة وانقطعت .

فأي داخلة أعظم من هذه الدواخل التي دخلت على توراتهم ؟

وأما القرآن ، فإنه لا يختلف ملي ولا مي أنه لم يزل من حين نزوله إلى يومنا هذا مثبوتاً عند الأحمر والأسود لم ينفرد به أحد دون أحد ، بل أبيح نسخه لكل من مضى وجاء ، فنقله نقل كواف لا يحصرها عدد ، كنقل ان في الدنيا بلداً يقال له الهند ، وسائر ما لا يجوز للشك فيه مساغ ولا مدخل ، والحمد لله كثيراً ، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً .

قال أبو محمد : إن أملي لقوي وإن رجائي مستحكم في أن يكون الله تعالى يسلط على من قرب اليهود وأدناهم وجعلهم بطانة وخاصة ، ما سلط على اليهود ، وهو يسمع كلام الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم عن الله لا يهدي القوم الظالمين } (المائدة: 51)

وقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم اكبر} (آل عمران: 118) ، وقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون بالمودة} (الممتحنة:1) ، وقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين} (المائدة: 57) ، وقوله تعالى : {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} (البقرة: 61) ؛ وقوله تعالى : {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} (المائدة: 82) .

فمن سمع هذا كله ، ثم أدناهم وخالطهم بنفسه من ملوك الإسلام فإنه إن شاء الله تعالى قمين أن يحيق الله عز وجل به ما أحاق بهم من الذلة والمسكنة والهوان والصغار والخزي في الدنيا سوى العذاب المؤلم في الآخرة .

وإن من فعل ذلك لحري أن يشاركهم فيما أوعد الله تعالى في توراتهم في الصفر الخامس إذ يقول لهم تعالى : سنأتيكم وسيأتي عليكم هذه اللعنة التي أصف لكم فتكونون ملعونين في مدائنكم وفدادينكم وتلعن أجدادهم وبقاياكم ويكون نسلكم ملعوناً ، وتكون اللعنة على الداخل منكم والخارج ، فيبعث الله عليكم الجوع والحاجة والنصب في كل ما علمته أيديكم حتى يهلككم ويقل عددكم لتخليكم منه .

ثم يلقي الوبأ على بقيتكم ليقطع آثاركم من الأرض التي أورثكموها ويبعث الرب عليكم الجدب ويهلككم بالسموم والثلوج ، ويحيل آثاركم ويطلبكم حتى يندركم ويجعل سماءه فوقكم نحاساً وأرضكم التي تسكنونها حديداً ، فتمطر عليكم الغبار من السماء ، وينزل عليكم الدماء حتى تهلكوا عن آخركم ويظفر الرب بكم أعداءكم فتدخلون إليهم على طريق واحدة وتنهزمون على سبعة ، ويفرقكم في آخر أجناس الأمم ، فتكون جيفكم طعم السباع وطيور السماء ولا يكون لهم عنكم دافع ، ويبتليكم الرب بما ابتلى به المصريين في أدبارهم من الحكة والأكال الذي لا دواء له ، ويبتليكم الرب بالبلية والغم حتى تماسكوا بالحيطان القليلة كتماسك العميان ، ولا تقوموا على إقامة سبلكم فتكونوا في هضيمة طول دهر وفي سخره لا يكون لكم منفذ. ويتزوج أحدكم امرأة فتخالفه إلى غيره ، ويبني أحكم بيتاً ويسكنه غيره ؛ ويغترس كرماً ويقطفه غيره ، ويذبح بين قدمي أحدكم ثوره ولا يطعم منه ، وينزع من أحكم حماره معاينة ولا يرد إليه ، وتعطى مواشيكم الأباعد ، ولا تجدون ناصراً على ردها وتغلب على أولادكم وبناتكم ، ولا يكون فيكم قوة للدفع عنهم ، وتأكل حبوبكم أجناس تجهلونها وفواكه ارضكم ، وتكونون مع ذلك في هضيمة أبداً وفي جزع منهم ، فيبتليكم الرب بأجناس الأمراض وأضرها التي لا دواء لها من أقدامكم إلى رؤوسكم ، ويذهب بالملك الذي تقدمونه على أنفسكم إلى قوم لم تعرفوهم ولا آباؤكم ، لتجدوا عندهم أصنامهم المصنوعة من الخشب والرخام ، وتكونون مثلاً لمن سمع بكم من جميع الأجناس التي أندركم فيها ، فتزرعون كثيراً وترفعون قليلاً ، لان الجراد يأتي عليه ، وتعمرون كرومكم وتحفرونها ولا تقطفون منها شيئاً ، لان الدود يأتي عليها .

ويكثر زيتونكم ولا تدهنون لأنها لا تعقد .

ويولد لكم الأولاد والبنات ولا تنتفعون بهم لأنهم يساقون في السبي .

ويأتي على جميع فواكه بلدكم القحوط والجدب فلا تنتفعون بها .

ومن كان بين ظهرانيكم من أهل القرى يلعنونكم ولا يشفقون عليكم ، فتتواضعون ويكون الأرذال يشتمونكم وتكونون لهم ساقة فيأتي عليكم جميع هذه اللعنات وتتبعكم حتى تحزوا ، إذ لم تسمعوا للرب إلاهكم ، ولم تحفظوا رسالاته التي عوهدت إليكم ، وتكون فيكم العجائب والمسوخ في ذريتكم في الأبد ، إذ لم تقفوا عند أمر الرب إلاهكم بطيب أنفسكم ، فتخدمون أعداءكم الذين يبعث الرب عليكم في الجوع والعطش والعري والحاجة ، وتحملون على رقابكم أغلال الحديد وتجرونها ؛ ويأتي الرب عليكم بجيش من مكان بعيد في سرعة العقبان من الذين لا يكرمون شيخاً ولا يرحمون صغيراً ، فيأكلون نتاجكم وما أنبتت أرضكم ، ولا يدعون لكم سمناً ولا خمراً ولا زبيباً ولا ثوراً ولا شاة حتى يأتوا عليكم ويخرجوكم من جميع مدائنكم التي يرثكم الرب إلاهكم وتضيق عليكم حتى تأكلوا وسخ أجوافكم ولحوم أولادكم وبناتكم الذين يولدون لكم في زمان حصاركم ، فمن كان منكم مترفاً أو متملكاً يمنع أخاه وامرأته لحوم بنيه شحاً عليها إذ لا يجد ما يقتات به سواه من شدة الحصار من أعدائكم لكم. ومن كانت فيكم رخصة البنان التي لا تقوى على المشي من رخوصتها تحسد زوجها على أكل لحوم أولادها ، والسلى الذي يخرج من فرجها ، إذ لا تجد مطمعاً سواه .

قال أبو محمد : هذه بشارة من الله تعالى لهم ، ومنحته التي خصهم بها بإقرارهم ألسنتهم ، وفي كتابهم الذي يقرءونه .

فليتق الله تعالى امرؤ آتاه الله تعالى نعمة من نعمه ، ومنحه عزة ، وليجتنب هؤلاء الأنجاس الأنتان الأقدار الذين أحاق الله تعالى بهم من الغضب واللعنة والذلة والقلة والمهانة والسخط والخساسة والوسخ ما لم يحق بأمة من الأمم قط .

وليعلم أن هذه الكسى التي كساهم الله تعالى إياها أعدى من الجرب ، وأسرع تعلقاً من الجذام ، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ، ومن معارضة الله تعالى في حكمه بإرادة إعزاز من أذله الله تعالى ، ورفعة من حطه الله ، وأكرام من أهانه الله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

قال أبو محمد : قد أوردنا في هذا الكتاب من شنعهم أشياء تقشعر منها الجلود ، ولولا ان الله تعالى نص علينا من كفرهم ما نص كقوله تعالى عنهم : إنهم قالوا عزير ابن الله ، ويد الله مغلولة ، وأن الله فقير ونحن أغنياء ، لما استجزنا ذكر ما يقولون لشنعته وفظاعته .

ولكننا اقتدينا بكتاب الله عز وجل في بيان كفرهم ، والتحذير منهم .

والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه

كتاب الرد على ابن النغريلة
مقدمة المؤلف | الفصل الأول | الفصل الثاني | الفصل الثالث | الفصل الرابع | الفصل الخامس | الفصل السادس والفصل السابع | الفصل الثامن وفصل في قبائحهم