كتاب الرسالة/باب: بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص
وقال الله تبارك وتعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } 1
قال الشافعي: فإذْ كان مَن مع رسول الله ناسً 2، غيرَ مَن جمَعَ لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسً غيرَ مَن جمُع لهم، وغيرَ من معه ممن جمُع عليه معه، وكان الجامعون لهم ناسا، فالدلالة بيِّنة مما وصفت من أنه إنما جمع لهم بعضُ الناس دون بعض.
والعلم يحيط أنْ من لم يَجمع لهم الناسُ كلهم، ولم يُخبرهم الناسُ كلهم، ولم يكونوا هم الناسَ 3 كلَّهم.
ولكنه لما كان اسم الناس يقع على ثلاثة نفر، وعلى جميع الناس، وعلى مَن بين جمعهم وثلاثةٍ منهم، كان صحيحا في لسان العرب أن يقال: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ } 4
وإنما الذين قال لهم ذلك أربعةُ نفر { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } 5 يعنون المنصرفين عن أُحُدٍ.
وإنما هم جماعة غيرُ كثير من الناس، الجامعون منهم، غيرُ المجموع لهم، والمخبرون للمجموع لهم غيرُ الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غيرُ الجامعين، ولا المجموع لهم ولا المخبرين.
وقال: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } 6
قال: فمَخْرَجُ اللفظ عامٌّ على الناس كلهم. وبيِّنٌ عند أهل العلم بلسان العرب منهم: أنه إنما يُراد بهذا اللفظ العامِّ المخرجِ بعضُ الناس، دون بعض؛ لأنه لا يُخاطَب بهذا إلا من يدعو من دون الله إلَهًا، تعالى عما يقولون عُلُوًّا كبيرا؛ لأن فيهم من المؤمنين المغلوبين على عقولهم، وغير البالغين ممن لا يدعو معه إلها.
قال: وهذا في معنى الآية قبلها عند أهل العلم باللسان، والآية قبلها أوضحُ عند غير أهل العلم، لكثرة الدلالات فيها.
قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } 7
فالعلم يحيط - إن شاء الله - أن الناس كلهم لم يحضروا عرفة في زمان رسول الله ﷺ، ورسول الله ﷺ المخاطبُ بهذا ومَن معه، ولكنَّ صحيحا من كلام العرب أن يقال: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }، يعني بعضَ الناس.
وهذه الآية في مثل معنى الآيتين قبلها، وهي عند العرب سواء. والآية الأولى أوضح عند من يجهل لسان العرب من الثانية، والثانيةُ أوضح عندهم من الثالثة، وليس يختلف عند العرب وضوح هذه الآيات معا؛ لأن أقل البيان عندها كاف من أكثره، إنما يريد السامعُ فَهْمَ قول القائل، فأقل ما يفهمه به كافٍ عنده.
وقال الله جل ثناؤه: { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } 8
فدل كتاب الله على أنه إنما وقودها بعضُ الناس، لقول الله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } 9
هامش
- ↑ [آل عمران: 173]
- ↑ [ هكذا رُسمت في الموضعين بغير ألف وهي منصوبة والرسم بغير ألف جائز وقد ثبت في أصول صحيحة عتيقة من كتب الحديث. انظر تعليق شاكر ص 59]
- ↑ [ الصواب أن هذا الضمير للفصل لا محل له من الإعراب ويكون ما بعده خبرا]
- ↑ [آل عمران: 173]
- ↑ [آل عمران: 173]
- ↑ [الحج: 73]
- ↑ [البقرة: 199]
- ↑ [البقرة: 24]
- ↑ [الأنبياء: 101]