كتاب الزهرة/الباب التاسع والأربعون لا يعرف المقيم على العهد إلا عند فراق أو صد


الباب التاسع والأربعون لا يُعرف المقيمُ علَى العهدِ إلاَّ عندَ فراقٍ أو صدٍّ

من شأن من كان مجاوراً لأحبَّائه وسامحته الأيَّام ببلوغ محابّه أن يصرف خواطره إليهم وان لا يؤثر صحبة أحد غيرهم عليهم بل الجاري من عادة أهل الأدب إذا أقبل عليهم يستثقلون أن يظهروا له المودَّة بل يعتقدونها في الحقيقة فإذا كانت هذه حال أهل الأدب مع من يعاشرهم من غير الأحباب كان أحبابهم أحرى أن يغلبوا على قلوبهم وإنَّما يبين الصَّادق في هواه إذا فارقه أو صدَّ عنه من يهواه فأقام حينئذ عليه ولم ينتقل إلى ما سواه.

أنشدني أحمد بن يحيى النحوي لعمر بن أبي ربيعة:

يقولونَ إنِّي لستُ أصدقُ في الهوَى
وإنِّي لا أرعاكَ حينَ أغيبُ
فما بالُ طرفِي عفَّ عمَّا تساقطتْ
لهُ أنفسٌ مِنْ معشرٍ وقلوبُ
عشيَّةَ لا يستنكرُ القومُ إنْ رأوْا
سفاهَ الحِجى ممَّنْ يُقالُ لبيبُ
ولا نظرةً مِنْ عاشقٍ إنْ مضتْ لهُ
بعينِ الصِّبى كسلَى القيامِ لعوبُ
يُروِّحُ يرجُو أنْ تحطَّ ذنوبهُ
فراحَ وقدْ عادتْ عليهِ ذنوبُ
وما الشَّكُّ أسلانِي ولكنْ لذِي الهوَى
علَى العينِ منِّي في الفؤادِ رقيبُ

ولقد أحسن ذو الرمة حيث يقول:

إذا غيَّرَ النَّأيُ المحبِّينَ لم أجدْ
رسيسَ الهوَى مِنْ حبِّ ميَّةَ يبرحُ
تصرَّفُ أهواءُ القلوبِ ولا أرَى
نصيبكِ مِنْ قلبِي لغيركِ يُمنحُ
أرَى الحبَّ بالهجرانِ يُمحَى فيمتَحِي
وحبّكِ ممَّا يستجدُّ ويذبحُ
أبِينُ وشكوَى بالنَّهارِ شديدةٌ
عليَّ وما يأتِي بهِ اللَّيلُ أبرحُ
هيَ البرءُ والأسقامُ والهمُّ ذكرُها
وموتُ الهوَى لولا التَّنائِي المبرّحُ
إذا قلتُ تدنُو ميَّةُ اغبرَّ دونَها
فيافٍ لطرفِ العينِ فيهنَّ مطرحُ
فلا القربُ يُبدي مِنْ هواهَا ملالةً
ولا حبُّها إنْ تنزحِ الدَّارُ ينزحُ

وقال أيضاً

هواكِ الَّذي ينهاضُ بعدَ اندِمالهِ
كما هاضَ حادٍ متعبٌ صاحبَ الكسرِ
إذا قلتُ قدْ ودَّعتهُ رجعتْ بهِ
شجونٌ وأذكارٌ تردَّدُ في الصَّدرِ
وإنْ قلتُ يسلُو حبَّ ميَّةَ قلبهُ
أبَى حبُّها إلاَّ بقاءً علَى الهجرِ

وقال أيضاً

يزيدُ التَّنائِي وصلَ خرقاءَ جدَّةً
إذا خانَ أرماثَ الحبالِ وصولُها
لقدْ أُشربتْ نفسِي لميٍّ مودَّةً
تقضَّى اللَّيالي وهيَ باقٍ وسيلُها

وقال أيضاً

فلمْ يبقَ ممَّا كانَ بيني وبينَها
منَ الوصلِ إلاَّ ما تجنُّ الجوانحُ
أصيداءُ هلْ قيظُ الرَّمادةِ راجعٌ
لياليهِ أوْ أيَّامهنَّ الصَّوالحُ
سواءٌ عليكَ اليومَ انصاعتِ النَّوى
بصيداءَ أمْ أنحَى لكَ السَّيفَ ذابحُ
إذا لمْ تزرْها مِنْ قريبٍ تناولتْ
بنا دارَ صيداءَ القِلاصُ الطَّلائحُ

وقال أيضاً

ولمْ تُنسِني ميّاً نوًى ذاتُ غُربةٍ
شطونٌ ولا المستطرفاتُ الأوانسُ
إذا قلتُ أسلُو عنكِ يا ميُّ لمْ يزلْ
محلّ لدارٍ مِنْ دياركِ ناكسُ
فكيفَ بميٍّ لا تؤاتيكَ دارُها
ولا أنتَ طاوِي الكشحِ منها فيائسُ

وقال هدبة بن خشرم:

يُجدُّ النَّأيُ ذكركِ في فؤادِي
إذا وهلتْ علَى النَّأيِ القلوبُ
وقدْ علمتْ سُليمى أنَّ عودِي
علَى الأحداثِ ذو وتدٍ صليبُ
عسَى الكربُ الَّذي أمسيتُ فيهِ
يكونُ وراءهُ فرجٌ قريبُ

وقال آخر:

وإنِّي وإسماعيلَ يومَ افتراقِنا
لكالجفنِ يومَ الرَّوعِ زايلهُ النَّصلُ
فإنْ أغشَى قوماً بعدهُ أوْ أزُرهمُ
فكالوحشِ يدنيها منَ الأنسِ المحْلُ

وقال العرجي:

ألا أيُّها الرَّبعُ الَّذي بانَ أهلهُ
فأمسَى قفاراً موحشاً غيرَ آهلِ
هَلَ انتَ مجيبٌ أينَ أهلكَ ذا هوًى
وأنتَ خبيرٌ إنْ نطقتَ لسائلِ
وأيُّ بلادِ اللهِ حلُّوا فإنَّني
علَى العهدِ راعٍ للحبيبِ المزايلِ

وقال الحسين بن الضحاك:

لشتَّانَ إشفاقِي عليكِ وقسوةٌ
أطلتِ بها شجوَ الفؤادِ علَى العمدِ
وما حلتُ للهجرانِ عنْ حالِ صبوةٍ
إليكِ ولكنْ حالَ جسمِي عنِ العهدِ

وقال الحسحاس الأسدي:

فما بيضةٌ باتَ الظَّليمُ يحفُّها
ويرفعُ عنها جؤجؤاً مُتجافيا
ويكشفُ عنها وهيَ بيضاءُ ظلَّهُ
وقد راجعتْ قرناً منَ الشَّمسِ ضاحيا
بأحسنَ منها يومَ قالتْ أرائحٌ
معَ الرَّكبِ أمْ ثاوٍ لدَينا لياليا
فإنْ تبقَ لا تملكْ وإنْ تُضحِ عادياً
تزوَّدْ وترجعْ عنْ عُميرةَ واقِيا

وقال تأبَّط شرَّا:

ألمْ تشلِ اليومَ الحمولُ البواكرُ
بلَى فاعترف صبراً فهلْ أنتَ صابرُ
وشاقتكَ هندٌ يومَ فارقَ أهلُها
بها أسفاً إنَّ الخطوبُ تغادرُ
فإنْ تصرِميني أوْ تُسيئي لعشرَتِي
فإنِّي لصرَّامُ القرينِ معاشرُ

وقال أبو ذؤيب الهذلي:

فإنْ وصلتْ حبلَ الصَّفاءِ ندُمْ لها
وإنْ صرمتهُ فانصرفْ عنْ تجاملِ
لعمرِي لأنتَ البيتُ أُكرمُ أهلهُ
وأقعدُ في أفنائهِ بالأصائلِ
وفيكَ الَّتي لا يبرحُ القلبُ حبَّها
وأذكرُها ما أرزمتْ أُمُّ حائلِ
وحتَّى يؤوبَ الفارطانِ كلاهُما
ويُنشرُ في الهلكَى كُليبٌ لوائلِ

وقال زهير:

تأوَّبني ذكرُ الأحبَّةِ بعدَما
هجعتُ ودونِي قلَّة الحزنِ والرَّملُ
وكلُّ محبٍّ يُحدثُ النَّأيُ بعدهُ
سلوَّ فؤادٍ غيرَ حبّكِ ما يسلُو

وقال جميل بن معمر:

وما أحدثَ النَّأيُ المفرِّقُ بيننا
سلوّاً ولا طولُ اجتماعٍ تقالِيا
كأنْ لمْ يكنْ بينٌ إذا كانَ بعدَهُ
تلاقٍ ولكنْ ما إخالُ تلاقيا

وقال عروة بن حزام:

فواللهِ لا أنساكِ ما هبَّتِ الصَّبا
وما أعقبتْها في البحارِ جنوبُ
ولستُ أرَى نفسِي علَى طولِ نأيكمْ
وبُعدكِ منِّي ما حييتُ تطيبُ
فأوَّلَ ذكرِي أنتِ في كلِّ مصبحٍ
وآخرُ ذكرِي عندَ كلِّ غروبِ
فوا كبدَا أضحتْ قريحاً كأنَّما
تلذِّعُها بالكيِّ كفُّ طبيبِ

وقال آخر:

لا والَّذي عمدَ الحجَّاجُ كعبتهُ
فهمْ سراعٌ إلى مرضاتهِ وفُقُ
لا تذهلُ النَّفسُ عنْ ليلَى وإنْ ذهلتْ
ما دامَ للهضبِ هضبِ الغايةِ البرُقُ

وقال البحتري

تقضَّى الصِّبى إلاَّ خيالاً يعودُني
بهِ ذُو دلالٍ أحورُ الطَّرفِ فاترهْ
فيذْكِرني الوصلَ القديمَ وليلةً
لدَى سمُراتِ الجزعِ إذ نامَ سامرهْ
وعهداً أبيْنَا فيهِ إلاَّ تبايُناً
فلا أنا ناسيهِ ولا هو ذاكرهْ
إذا التهبتْ في لحظِ عينيهِ غضبةٌ
رأيتُ المنايا في النُّفوسِ تؤامرهْ

وقال الضحاك بن عقيل:

أسمراءُ إنَّ اليأسَ مُسلٍ ذوِي الهوَى
ونأيكِ عندِي زادَ قلبِي بكمْ وجدَا
أرَى حرجاً ما نلتُ مِنْ ودِّ غيركمْ
ونافلةً ما نلتُ مِنْ ودِّكمْ رُشدا

وقال الهذلي:

وإنِّي علَى أنْ قدْ تجشَّمتُ هجرَها
لِما ضمَّنتني أُمُّ عمرٍو لضامنُ
يُوافيكَ منها طارقٌ كلَّ ليلةٍ
حبيبٌ كما وافَى الغريمَ المُداينُ

وقال ابن الدمينة:

وإنِّي لأستحييكِ حتَّى كأنَّما
عليَّ بظهرِ الغيبِ منكِ رقيبُ
حذارَ القِلَى والصَّرمِ منكِ وإنَّني
علَى العهدِ ما داومْتِني لصليبُ
فيا حسراتِ النَّفسِ مِنْ غربةِ النَّوى
إذا اقتسمتها نيَّةٌ وشعوبُ
ومِنْ خطراتٍ تعتريني وزفرةٍ
لها بينَ جلدِي والعظامِ دبيبُ

أما هذا فقد أحسن في البيت الأول وبرد في البيت الثاني إذ جعل علَّته في الوفاء لها حذار قِلاها وصرمها وعلى أنه لم يرض أيضاً بذلك حتَّى جعل مداومته عليها متَّصلة بمداومتها عليه لا غير وهذه حال مفرطة الخساسة متناهية القباحة.

ولبعض أهل هذا العصر:

يا غارسَ الحبّ بينَ القلبِ والكبدِ
هتكتَ بالهجرِ بينَ الصَّبرِ والجلدِ
إذا دعَا اليأسُ قلبِي عنكَ قالَ لهُ
حسنُ الرَّجاءِ فلمْ يصدرْ ولم يردِ
يا مَنْ نقومُ مقامَ الموتِ فرقتهُ
ومَنْ يحلُّ محلَّ الرُّوحِ مِنْ جسدِي
فقدْ جاوزَ الشَّوقُ بي أقصَى مراتبهِ
فإنْ طلبتُ مزيداً منهُ لمْ أجدِ
واللهِ لا ألفتْ نفسِي سواكَ ولوْ
فرَّقتْ بالهجرِ بينَ الرُّوحِ والجسدِ
إنْ توفِ لي لا أردْ ما دمتُ لي بدلاً
وإنْ تعزَّيتُ لمْ أُرِكْنَ إلى أحدِ

وقال آخر:

أهجراً وقيداً واشتياقاً وغربةً
وهجرَ حبيبٍ إنَّ ذا لعظيمُ
وإنْ امرءاً دامتْ مواثيقُ عهدهِ
علَى مثلِ ما قاسيتهُ لكريمُ

وقال معاذ ليلَى:

وللنَّفسِ ساعاتٌ تهشُّ لذكرِها
فتحيَى وساعاتٌ لها تستَكِينُها
فإنْ تكُ ليلَى استودَعَتْني أمانةً
فلا وأبي ليلَى إذاً لا أخونُها

وقال المؤمّل:

لسْنا بسالينَ إنْ سلَوْا أبداً
عنهمْ ولا صابرينَ إنْ صبرُوا
نحنُ إذاً في الجفاءِ مثلهمُ
إذا هجرناهمُ كمَا هجرُوا
إنْ يقطعُونا فطالَما وصلُوا
وإنْ يغيبُوا فربَّما حضرُوا

وقال البحتري

أُلامُ علَى هواكِ وليسَ عدلاً
إذا أحببتُ مثلكِ أنْ أُلاما
أعيدِي فيَّ نظرةَ مُستثيبٍ
توخَّى الهجرَ أوْ كرهَ الأثاما
ترَيْ كبداً محرَّقةً وعيناً
مؤرَّقةً وقلباً مُستهاما
لئنْ أضحتْ محلَّتنا عِراقاً
مشرِّقةً وحِلَّتها شآما
فلمْ أُحدثْ لها إلاَّ وداداً
ولمْ أزددْ بها إلاَّ غراما

وقال أيضاً

هجرتْنا عنْ غيرِ جرمٍ نوَارُ
ولدَيْها الحاجاتُ والأوطارُ
وأقامتْ بجوِّ بِطْياسَ حتَّى
كثُرَ اللَّيلُ دونَها والنَّهارُ
إنْ جرَى بيننا وبينكِ هجرٌ
وتناءتْ منَّا ومنكِ الدِّيارُ
فالغليلُ الَّذي علمتِ مقيمٌ
والدُّموعُ الَّتي عهدتِ غزارُ

وقال مجنون بني عامر:

وتعذُبُ لي مِنْ غيرِها فأعافُها
مشاربُ فيها مقنعٌ لوْ أُريدُها
وأمنحُها أقصَى هوايَ وإنَّني
علَى ثقةٍ مِنْ أنَّ حظِّي صدودُها

وقال نصيب:

أصدَّتْ غداةَ الجزعِ ذِي الطَّلحِ زينبُ
تقطِّعُ منها حبلَها أمْ تقضِّبُ
وقدْ عبثتْ فيما مضَى وهيَ خلَّةٌ
صديقٌ لنا أوْ ذاكَ ما كنتُ أحسبُ
ترَى عجباً في غبطةٍ أنْ نزورَها
ونحنُ بها منها أسرُّ وأعجبُ
وفي الرَّكبِ جثْماني ونفسِي رهينةٌ
لزينبَ لمْ أذهبْ بها حينَ أذهبُ
فبانتْ ولا يُنسيكَها النَّأيُ إنَّها
علَى نأيِها نصبٌ لقلبكَ منصبُ

وقال آخر:

حلفتُ لها بِما نحَّتْ قريشٌ
يميناً والسَّوانحِ يومَ جمعِ
لأنتِ علَى التَّنائِي فاعْلَميهِ
أحبُّ إليَّ مِنْ بصري وسمعِي