كتاب الزهرة/الباب التاسع والتسعون ذكر ما سمع من الأشعار ولم يظهر قائله للأبصار


الباب التاسع والتسعون ذكر ما سمع من الأشعار ولم يظهر قائله للأبصار

أبو جعفر محمد بن علي قال: دخل سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب فقال: نشدتك الله يا سواد هل تحسن اليوم من كهانتك شيئاً؟ فقال: سبحان الله والله ما استقبلتَ أحداً من جلسائك بمثل الَّذي استقبلتني به. فقال: سبحان الله يا سواد ما كنَّا فيه من شركنا أعظم ما كنت عليه من كهانتك، والله يا سواد لقد بلغني عنك حديث إنَّه لعجب قال: أي والله لعجب من العجب. قال: فحدثنيه. قال: كنت كاهناً في الجاهلية، فبينا أنا ذات ليلة إذ أتاني نجيّ فضربني برجله وقال: يا سواد اسمع اسمع أقلْ لك. قلت: هات. فقال:

عجبتُ للجنّ وأنجاسها
ورحلها العيس بأحلاسها
نبغ إلى مكَّة نبغي الهدى
ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فارحل إلى الصّفوة من هاشمٍ
واسمُ بعينيك إلى رأسها

قال: فنمت ولم أحفل بقوله شيئاً، فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: يا سواد بن قارب اسمع أقل لك قلت: هات فقال:

عجبت للجنّ وتطلابها
ورحلها العيس بأقتابها
تهوى إلى مكَّة تبغي الهدى
ما صادف الجنّ ككذَّابها

قال: فحرَّك قوله منِّي شيئاً، ونمت فلمَّا كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: يا سواد أتفعل أم لا؟ قال: قلت ولم ذاك؟ قال: قد ظهر بمكة بنيّ يدعو إلى عبادة ربه فالحق به اسمع ما أقول. قال: قلت: هات. قال:

عجبت للجنّ وأخبارها
ورحلها العيس بأكوارها
تهوى إلى مكَّة تبغي الهدى
ما مؤمنوها مثل كفَّارها
فارحل إلى الصّفوة من هاشمٍ
بين روابيها وأحجارها

قال: فعلمت أن الله عز وجل قد أراد بي خيراً فقمت إلى بردةٍ لي ففتقتها ووضعت رجلي في عرر ركاب الناقة ثمَّ أقبلت إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم، فعرض علي الإسلام فأسلمت وأخبرته بالخبر فقال: " إذا اجتمع النَّاس فأخبرهم " ، فلما اجتمع النَّاس قمت فقلت:

أتاني نجيُّ بعد هدْءٍ ورَقدةٍ
ولم يكُ فيما قد تلوت بكاذبِ
ثلاث ليالٍ قَوله كلّ ليلةٍ
أتاك رسولٌ من لُؤي بن غالبِ
فشمَّرت عن ذَيْلي الإزار وأدلجت
بي الذعلبُ الوجناءُ غُبر السَّباسبِ
فأعلم أنَّ الله لا ربَّ غيرهُ
وأنَّكُ مأمون علَى كلِّ غائبِ
وأنَّك أدنَى المرسلينَ وسيلةً
إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايبِ
فمُرْنا بما يأتيك يا خير مرسلٍ
وإنْ كانَ فيما حال شيب الذوائبِ
فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةٍ
سواك بمغنٍ عن سواد بن قاربِ

قال: فسُرَّ المسلمون بذلك. فقال عمر: هل تحسنن اليوم منها شيئاً؟ قال: أما مذ علمني الله القرآن فلا. وفي حديث أم معبد الطويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة فذكر كلاماً كثيراً فيه، فأصبح صوت بمكة عال، يسمعون ولا يدرون من قائله وهو يقول:

جزَى اللهُ ربّ النَّاس خير جزائهِ
رَفيقين حلاَّ خيْمتي أُمِّ معبدِ
هُما نزلاها بالهُدى واهتدتْ به
فقد فازَ من أمسى رفيق محمَّدِ
فيا لقصيٍّ ما زوَى الله عنكُمُ
به من فعالٍ لا يُجازى وسؤددِ
ليهنئ بني كعب مقامٌ فتاتهم
ومقعدُها للمؤمنينَ بمرْصَدِ
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنَّكُم إن تسألوا الشاة تشهدِ

فلما سمع حسان بهتاف الهاتف قال يجاوبه:

لقد خابَ قومٌ زالَ عنهم نبيُّهمْ
وقُدِّسَ من يَسري إليهم ويغتدي
ترحَّلَ عن قوم فضلَّت عُقولهمْ
وحلَّ على قومٍ بنورٍ مجدّدِ
هَداهُمْ به بعدَ الضَّلالةِ ربُّهم
وأرشدهمْ من يتْبع الحقّ يرشدِ
نبيٌّ يرَى نا لا يرَى النَّاسُ حولَهُ
ويتلو كتابَ الله في كلِّ مسجدِ

وذكر عن ابن عيينة عن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: لما قتل هابيل قابيل قال آدم عليه السلام:

تغيَّرت البلاد ومن عليها
فوجه الأرض مغبرٌّ قبيحُ
تغيَّر كلّ ذي طعمٍ ولونٍ
وقلَّ بشاشةَ الوجه المليحُ

فأجابه إبليس لعنه الله:

تنحّ عن البلادِ وساكنيها
ففي الخلدِ ضاقَ بك الفسيح
وكنتَ بها وزوجكَ في رجاءٍ
وكنتَ من أذَى الدُّنيا مريح
فما انفكَّت مكايَدَتي ومكري
إلى أنْ فاتَكَ الثَّمن الرَّبيح

قال: بكت الجنّ على عمر ثلاثة أيام يسمع النَّاس أصواتهنّ في طرقات المدينة وقالت:

ليبكي على الإسلامِ مننْ كانَ باكياً
فقد أوشكوا هلكاً وما قدم العهدِ
وأدبرتِ الدُّنيا وأدبَرَ أهلُها
وقدْ ملَّها من كانَ يؤمن بالوعدِ

ونظر رجلٌ فإذا هاتفٌ يقول:

كذاكَ الزَّمان وتكراره
ومرّ اللَّيالي وطول القدم
يشيب الصَّغير ويفني الكبير
وينأى الشَّباب ويبدي الهرم



هامش