كتاب الزهرة/الباب الثامن عشر بعد القلوب على قرب المزار أشد من بعد الديار من الديار


الباب الثامن عشر بُعد القلوب علَى قرب المزار أشدُّ من بعد الدِّيار من الدِّيار

الهجر على أربعة أضرب هجر ملالٍ وهجر دلالٍ وهجر مكافاةٍ على الذُّنوب وهجرٌ يوجبه البغض المتمكِّن في القلوب فأمَّا هجر الدَّلال فهو ألذُّ من كثير الوصال وأما هجر الملال فيطلبه من الأيَّام واللَّيالي إما بنأي الدَّار وإمَّا بطول الاهتجار.

وفي مثل ذلك يقول الشاعر:

لا تجزعَنْ من هجرِ ذي ملَّةٍ
أظهرَ بعدَ الوصلِ هِجرانا
يملُّ هذا مثلَ ما ملَّ ذا
فيرجعُ الوصلُ كما كانا

وأما الهجر الَّذي يتولَّد عن الذَّنب فالتَّوبة تخرجه عن القلب وأما الهجر الَّذي يوجبه البغض الطَّبيعي فهو الَّذي لا دواء له وقد قال الجاحظ لكلِّ شيءٍ رفيقٌ ورفيق الموت الهجر وليس الأمر كما قال بل لكلِّ شيءٍ رفيقٌ ورفيق الهجر الموت.

ألم تسمع قول ذي الرمة:

سألتُ ذوي الأهواءِ والنَّاس كلَّهُمْ
وكُلَّ فتًى دانٍ وآخرَ ينزِحُ
أتُقرحُ أكبادُ المحبِّينَ كالذي
أرى كبدي من حبِّ ميَّةَ تُقرحُ
لئنْ كانتِ الدُّنيا عليَّ كما أرى
تباريحَ من ميٍّ فلَلْموتُ أرْوحُ

وفي مثله يقول بعض أهل هذا العصر:

ما لي أُلفِّتُ وجهاً غيرَ مُلْتفتٍ
نحوي وأعطفُ قلباً غيرَ مُنعطِفِ
يُغرى بهجري كما أُغرى بأُلْفتهِ
هذا لَعمري ودادٌ جدُّ مُختلفُ
حجبتُ عيني عنِ الدُّنيا ونضرتِها
شوقاً وأبرزتُها للحُزنِ والأسفِ
إلاَّ تكنْ تلفَتْ نفسي عليكَ فقدْ
أصبحْتُ والله مشتاقاً إلى التَّلفِ

وفي نحو ذلك يقول قيس بن الملوح:

فوالله ثمَّ الله إنِّي لَدائبٌ
أُفكِّرُ ما ذنبي إليها فأعجَبُ
ووالله ما أدري علامَ صرَمْتني
وأيَّ أُموري فيكِ يا ليلُ أركبُ
أأقْطعُ حبلَ الوصلِ فالموتُ دونهُ
أمَ اشربُ كأساً منكمُ ليس تُشربُ
أمَ اهْربُ حتَّى لا أرى لي مُجاوراً
أمَ افْعلُ ماذا أمْ أبوحُ فأغلبُ
وإنَّهما يا ليلُ إنْ تفعلي بنا
فآخرُ مهجورٌ وأوَّلُ مُعتبُ

وما قيل في هذا المعنى من الأشعار القديمة والمحدثة أكثر من أنْ يحيط به كتاب فضلاً عن أن يتضمَّنه بابٌ.

وقال خالد الكاتب:

أراني ذليلَ النَّفسِ مُذْ أنتَ عاتبٌ
وأيَّةَ نفسٍ لا تذِلُّ علَى الهجرِ
يعاتبُ بعْضي فيكَ بعضاً وكلُّهُ
إليكَ وحبُّ العفوِ يسمحُ بالعُذرِ

وقال بعض الأعراب:

خليليَّ هلْ يُستخْبَرُ الأثْلُ والغضا
وميثُ الرُّبى من بطنِ نُعمانَ والسِّدْرُ
وهلْ يتقالى بعدَ ما كانَ صافياً
خليلانِ بانا ليسَ بينهما وِترُ
نأتْ بهما دارُ النَّوى وتراقبا
علَى الضِّغْنِ حتَّى لجَّ بينهما هجرُ
إذا رُمتَ إلاَّ ما عدا الدهرُ بيننا
وبينكَ لم نُلْزمْكَ ما صنعَ الدَّهرُ

وقال ذو الرمة:

ألا لا أرى مثلي يحنُّ من الهوَى
ولا مثلَ هذا الشَّوقِ لا يتصرَّمُ
ولا مثلَ ما ألقى إذا الحيُّ فارقوا
علَى أثرِ الأظعانِ يلقاهُ مُسلمُ
كفَى حسرةً في النَّفسِ يا ميُّ أنَّني
وإيَّاكِ في الأحياءِ لا نتكلَّمُ
أدورُ حواليكِ البيوتَ كأنَّني
إذا جئتُ عنْ إتيانِ بيتكِ مُحرمُ

وقال أيضاً:

هوًى لكَ لا ينفكُّ يدعُو كما دعَا
حَماماً بأجزاعِ العقيقِ حمامُ
إذا هملتْ عينِي لهُ قالَ صاحبِي
بمثلكَ هذا فتنةٌ وغرامُ
علامَ وقدْ فارقتَ ميّاً وفارقتْ
فمَيُّ علَى طولِ البكاءِ تُلامُ
أطاعتْ بكَ الواشينَ حتَّى كأنَّما
كلامكَ إيَّاها عليكَ حرامُ

وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر قال: أنشدني أبو سعيد المخزومي:

ثِقي بجميلِ الصَّبرِ منِّي علَى الدَّهرِ
ولا تثقِي بالصَّبرِ منِّي علَى الهجرِ
فإنِّي لصبَّارٌ علَى ما ينوبُني
وحسبكِ أنَّ اللهَ أثنَى علَى الصَّبرِ
ولستُ بنظَّارٍ إلى جانبِ الغنَى
إذا كانتِ العلياءُ في جانبِ الفقرِ

وقال الوليد بن عبيد الطائي:

عذيرِي منَ الأيَّامِ رنَّقنَ مشرَبي
ولقَّيننِي نَحساً منَ الطَّيرِ أشأما
وألبسنَنِي سخطَ امرئٍ بتُّ موهناً
أرَى سخطهُ ليلاً معَ اللَّيلِ مُظلِما
تبلَّجَ عن بعضِ الرِّضا وانطوَى علَى
بقيَّةِ عتبٍ شارفتْ أنْ تصرَّما
إذا قلتُ يوماً قدْ تجاوزَ حدَّها
تلبَّثَ في أعقابِها وتلوَّما
وأصْيدُ إنْ نازعتهُ الطَّرفَ ردَّهُ
كليلاً وإنْ راجعتهُ القولَ أحجما
ثناهُ العدَى عنِّي فأصبحَ مُعرضاً
ووهَّمهُ الواشونَ حتَّى توهَّما
ولوْ أنَّني وقَّرتُ شَيبي وقارهُ
وأجللتُ شِعري فيكَ أنْ يُتهضَّما
لأكبرتُ أنْ أُومي إليكَ بإصبعٍ
تضرَّعُ أوْ أُدنِي لمعذرةٍ فمَا
وكانَ الَّذي يأتي بهِ الدَّهرُ هيِّناً
عليَّ ولوْ كانَ الحِمامُ المقدَّما
ولكنَّني أُعلي محلَّكَ أنْ أرَى
مُدلاًّ وأستحييكَ أنْ أتعظَّما
ولمْ أدرِ ما الذَّنبُ الَّذي سُؤتَني بهِ
فأقتلُ نفسِي حسرةً وتندُّما

وأنشدني أحمد بن يحيى عن أبي عبد الله بن الأعرابي:

ألا أبلغْ أخا قيسٍ رسولاً
بأنِّي لمْ أخنكَ فلا تخنِّي
ولكنِّي طويتُ الكشحَ لمَّا
رأيتكَ قدْ طويتَ الكشحَ عنِّي
فلستَ بمُدركٍ ما فاتَ منِّي
بلهفَ ولا بليتَ ولا لَوَانِّي
ولستُ بآمنٍ أبداً خليلاً
علَى شيءٍ إذا لمْ يأتَمنِّي
وصلتُكَ ثمَّ عادَ الوصلُ أنِّي
قرعتُ ندامةً مِنْ ذاكَ سِنِّي
فإنْ أعطفْ عليكَ بفضلِ حلمٍ
فما قلبي إليكَ بمطمئنِّ

وقال العباس بن الأحنف:

لو كنتِ عاتبةً لسكَّنَ عبرَتِي
أملِي رضاكِ وزرتُ غيرَ مُراقبِ
لكنْ مللتِ فلمْ تكنْ لي حيلةٌ
صدُّ الملولِ خلافُ صدِّ العاتبِ

وقال آخر:

ومُستوحشٍ لمْ يمشِ في أرضِ غُربةٍ
ولكنَّهُ ممَّنْ يودُّ غريبْ
إذا رامَ كتمانَ الهوَى نمَّ دمعهُ
فآهٍ لمحزونٍ جفاهُ طبيبُ
ألا أيُّها البيتُ الَّذي لا أزورهُ
وهجرانُهُ منِّي إليكَ ذُنوبُ
هجرتكَ مشتاقاً وزرتكَ خائفاً
ومنِّي علَيَّ الدَّهرَ فيكَ رقيبُ
سلامٌ علَى الدَّارِ الَّتي لا أزورُها
وإنْ حلَّها شخصٌ إليَّ حبيبُ

وقال أبو نواس:

غصصتُ منكِ بما لا يدفعُ الماءُ
وصحَّ هجركِ حتَّى ما بهِ داءُ
قدْ كانَ يُقنعكمْ إذْ كانَ رأيكمُ
أن تهجُروني منَ التَّصريحِ إيماءُ
وما جهلتُ مكانَ الآمريكِ بذا
منَ الوُشاةِ ولكنْ في فَمي ماءُ
ما زلتُ أسمعُ حتَّى صرتُ ذاكَ بمنْ
قامتْ قيامتهُ والنَّاسُ أحياءُ

وقال أيضاً:

صليتُ مِنْ حبِّها نارَينِ واحدةً
جوفَ الفؤادِ وأُخرى بينَ أحشائِي
وقدْ منعتُ لسانِي أن يبوحَ بهِ
فما يعبِّرُ عنِّي غيرُ إيمائِي
يا ويحَ أهلِي أبلَى بينَ أعيُنهمْ
علَى الفراشِ ولا يدرُونَ ما دائِي
لوْ كانَ زهدكِ في الدُّنيا كزهدكِ في
وصلِي مشيتِ بلا شكٍّ علَى الماءِ

وبلغني عن سفيان بن عيينة أنَّه قال: بينا أنا بالكعبة إذ رأيتُ أبا السَّائب المخزومي متعلِّقاً بأستار الكعبة وهو يقول:

يا هجرُ كُفَّ عنِ الهوَى ودعِ الهوَى
للعاشقينَ يطيبُ يا هجرُ
ماذا تريدُ منَ الَّذينَ جُفونُهمْ
قرحَى وحشوُ صدورهمْ جمرُ
وسوابقُ العَبراتِ بينَ خدودهمْ
دررٌ تفيضُ كأنَّها القطرُ
متحيِّرينَ منَ الهوَى ألوانهمْ
ممَّا تكِنُّ صدورهمْ صفرُ

قال: فقلتُ يا أبا السَّائب في مثل هذا الموضع تُنشد مثل هذا؟ فقال: إليك عنِّي يا أبا محمد فوالله للدُّعاءُ لهم في مثل هذا الموضع أفضل من حجةٍ وعمرةٍ.

ولقد أحسن الفرزدق حيث يقول:

عزفتَ بأعشاشٍ وما كدتَ تعزفُ
وأنكرتَ مِنْ حدراءَ ما كنتَ تعرفُ
ولجَّ بكَ الهجرانُ حتَّى كأنَّما
ترَى الموتَ في البيتِ الَّذي كنتَ تألفُ

وقال:

لئنْ كانَ في الهجرانِ أجرٌ لقدْ مضَى
ليَ الأجرُ في الهجرانِ مذْ سنتانِ
فواللهِ ما أدرِي أكلُّ ذوِي هوًى
علَى ما بِنا أمْ نحنُ مُبتليانِ

وقال الحارث بن خالد المخزومي:

إنْ يمسِ حبلكِ بعدَ طولِ تواصلٍ
خلِقاً وأصبحَ بيتكمْ مهجُورا
فلقدْ أرانِي والجديدُ إلى بلًى
زمناً بوصلكِ راضياً مسرُورا
كنتِ الهوَى وأعزُّ مِنْ وطئِ الحصَى
عندِي وكنتُ بذاكَ منكِ جديرا

وقال آخر:

وقالَ نساءٌ لسنَ لي بنواصحٍ
ليعلمْنَ ما أُخفِي ويعلمْنَ ما أُبدي
أأحببتَ ليلَى جهدَ حبِّكَ كلِّهِ
لعمرُ أبي ليلَى وزدتُ علَى الجهدِ
علَى ذاكَ ما يمحُو ليَ الذَّنبُ عندَها
وتمحُو دواعِي حبِّها ذنبَها عندِي
ألا إنَّ قربَ الدَّارِ ليسَ بنافعٍ
وقلبُ الَّذي تهواهُ منكَ علَى البعدِ

ولبعض أهل هذا العصر:

لعمركَ ما قربُ الدِّيارِ بنافعٍ
إذا لمْ يصلْ حبلَ الحبيبِ حبيبُ
وليسَ غريباً مَنْ تناءتْ ديارهُ
ولكنَّ مَنْ يُجفى فذاكَ غريبُ
ومَنْ يغتربْ والإلفُ راعٍ لعهدهِ
وإنْ جاوزَ السَّدَّينِ فهوَ قريبُ

وقال آخر:

لو كنتَ في بلدٍ ونحنُ بغيرهِ
ما كانَ عندكَ في الجفاءِ مَزيدُ
قربُ المزارِ وأنتَ ناءٌ لا يُرى
وإذا القريبُ جفاكَ فهوَ بعيدُ

وقال أبو تمام:

ونأى الهجرُ بالَّذي لا أُسمِّي
فأنا منهُ في القريبِ البعيدِ
ففراقٌ أصابَني مِنْ فراقٍ
وفِراقٌ أصابني مِنْ صدودِ
ليسَ مَنْ كانَ غائباً فقدَتْهُ ال
عينُ غيباً كالشَّاهدِ المفقودِ

وقال البحتري:

يسوؤكَ ألاَّ عطفَ عند انعطافهِ
ويشجيكَ ألاَّ عدلَ عندَ اعتدالهِ
فما حيلةُ المشتاقِ فيمنْ يشوقُهُ
إذا حالَ هذا الهجرُ دونَ احتيالهِ

ولقد أحسن علي بن محمد العلوي في قوله:

هواكَ هوَ الدُّنيا ونيلكَ ملكُها
وهجركَ مقرونٌ بكلِّ هوانِ
كذبتكَ ما قلتُ الَّذي أنتَ أهلهُ
بلَى لمْ يجدْ ما فوقَ ذاكَ لسانِي