كتاب الزهرة/الباب الثامن والثلاثون من حجب عن الأثر تعلل بالذكر


الباب الثامن والثلاثون مَنْ حُجبَ عن الأثرِ تعلَّل بالذِّكرِ

قال القمقام الأسدي:

ألا ليتَ شِعري هلْ ترَى تذكرينَني
فذكركِ في الدُّنيا إليَّ حبيبُ
وهلْ لي نصيبٌ في فؤادكِ ثابتٌ
كما لكِ عندِي في الفؤادِ نصيبُ
رأيْنا نفوساً هيّماً طالَ حبسُها
علَى غيرِ جرمٍ ما لهنَّ ذنوبُ
يحمنَ حيامَ الهيمِ لمْ تلقَ ساقياً
أثابَ النُّفوسَ الحيّماتِ مُثيبُ
فلستُ بمتروكٍ فاشرَب شُربةً
ولا النَّفسُ عمَّا لا تنالُ تطيبُ

وقال حميد بن ثور:

فلا يبعدِ اللهُ الشَّبابَ وقولها
إذا ما صبوْنا صبوةً ستتوبُ
لياليَ سمعُ الغانياتِ وطرفُها
إليَّ وإذْ رِيحي لهنَّ جنوبُ
وأرضَى بقولِ النَّاسِ أنتَ مهوّنٌ
علينا وإذْ غصنُ الشَّبابِ رطيبُ

وقال النابغة الجعدي:

تذكَّرتُ والذِّكرى تضرُّ بذي الهوَى
ومِنْ حاجةِ المحزونِ أنْ يتذكَّرا
ندامايَ عندَ المنذرِ بنِ محرِّقٍ
أرَى اليومَ منهمْ ظاهرَ الأرضِ مقفرَا

وقال متمم بن نويرة:

وكنَّا كندمانيْ جَذيمةَ حقبةً
منَ الدَّهرِ حتَّى قيلَ لنْ يتصدَّعا
فلمَّا تفرَّقنا كأنِّي ومالكاً
لطولِ اجتماعٍ لمْ نقمْ ليلةً معَا
فإنْ تكنِ الأيَّامُ فرَّقنَ بينَنا
فقدْ بانَ محموداً أخي يومَ ودَّعا

وقال عدي بن زيد:

فإنْ أمسيتُ مكتئباً حزيناً
كثيرَ الهمِّ يشهدُني الحذارُ
فقدْ بُدِّلتُ ذاكَ بنُعمِ بالٍ
وأيَّامٍ لياليها قصارُ

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر قال أنشدنا أبو تمام لنفسه:

ألا إنَّ صدرِي مِنْ غرامِي بلاقعٌ
عشيَّةَ شاقتْني الدِّيارُ البلاقعُ
لئنْ كانَ أمسَى شملُ وحشكَ جامعاً
لقدْ كانَ لي شملٌ بأُنسكَ جامعُ
أُسيءُ علَى الدَّهرِ الثَّناءَ فقدْ قضَى
عليَّ بجورٍ صرفهُ المتتابعُ

وقال حميد بن ثور:

قضَى اللهُ في بعضِ المكارهِ للفتَى
رشاداً وفي بعضِ الهوَى ما يحاذرُ
شربْنا بثُعبانٍ منَ الطَّودِ بردَها
شفاءً لغمٍّ وهيَ داءٌ مخامرُ
لياليَ دُنيانا علينا رحيبةٌ
وإذْ عامرٌ في أوَّلِ الدَّهرِ عامرُ
وقدْ كنتُ في بعضِ الصَّبابةِ أتَّقي
وأخشَى علينا أنْ تدورَ الدَّوائرُ
وأعلمُ أنِّي إنْ تغطَّيتُ مرَّةً
منَ الدَّهرِ مكشوفٌ غطائِي فناظرُ

وقال أيضاً:

خليليَّ إنْ دامَ همُّ النُّفوسِ
عليها ثلاثَ ليالٍ قتلْ
علَى أنَّ شيئاً سمعْنا بهِ
يسمَّى السُّرورُ مضَى ما فعلْ

وقال البحتري:

عيشٌ لنا بالأبرقَيْنِ تأبَّدتْ
أيَّامهُ وتجدَّدتْ ذكراهُ
والعيشُ ما فارقتهُ فذكرتهُ
لهفاً وليسَ العيشُ ما تنساهُ

وقال محمد بن عبيد الأزدي:

فلمَّا قضيْنا عصمةً مِنْ حديثِنا
وقدْ فاضَ مِنْ بعدِ الحديثِ المدامعُ
جرَى بينَنا منَّا رسيسٌ يزيدُنا
سقاماً إذا ما استيقنتهُ المسامعُ
كأنْ لمْ تجاورْنا أُميمُ ولمْ تقمْ
بفيضِ الحمَى إذْ أنتَ بالعيشِ قانعُ
فهلْ مثلَ أيَّامٍ تسلَّفنَ بالحمَى
عوائدُ أوْ عيشُ السّتارَيْنِ واقعُ

وقال قيس بن ذريح:

فإنْ تكنِ الدُّنيا بليلَى تقلَّبتْ
عليَّ وللدُّنيا بطونٌ وأظهرُ
فقدْ كانَ فيها للأمانةِ موضعٌ
وللكفِّ مرتادٌ وللعينِ منظرُ
وللهائمِ الظَّمآنِ ريٌّ بريقِها
وللدَّنفِ المشتاقِ خمرٌ مسكِّرُ

قال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي فقلنا له فما الَّذي بقي بعد ما وصفت قال بقيت الموافقة.

وقال البحتري:

كانَ الوصالُ بُعيدَ هجرٍ منقضٍ
زمنَ اللِّوَى وقُبيلَ بينٍ آفدِ
ما كانَ إلاَّ لفتةً مِنْ ناظرٍ
عجلٍ بها أوْ نهلةً مِنْ واردِ

ولبعض أهل هذا العصر:

رعَى اللهُ دهراً فاتَ لمْ أقضِ حقَّهُ
وقدْ كنتُ طبّا بالأُمورِ مجرِّبا
لياليَ ما كانتْ رياحكَ شمألاً
عليَّ ولا كانتْ بروقكَ خلَّبا
لياليَ وفَّيتُ الهوَى فوقَ حقِّهِ
وفاءً وظرفاً صادقاً وتأدُّبا
فلمْ أرَ ودّاً عادَ ذنباً وقدْ مضتْ
لهُ حقبٌ يشجَى بذكراهُ مَنْ صبَا
ولمْ أرَ سهماً هتَّكَ الدِّرعَ وانتهَى
إلى القلبِ قِدماً ثمَّ قصَّر أوْ نبَا
ولا عذرَ للصَّمصامِ إنْ بلغَ الحشا
وكَلَّ ولمْ يثلمْ لهُ العظمُ مضربَا
ولا لجوادٍ سابقَ الرِّيحَ سالماً
وقامَ فأعيَا بلْ تقطَّرَ أوْ كبَا
فأنَّى بعذرٍ في اطِّراحِي وجفوتي
ونقضِ عهودٍ أُكِّدتْ زمنَ الصِّبا
إذا عوقبَ الجانِي علَى قدرِ جرمهِ
فتعنيفُهُ بعدَ العقابِ منَ الرِّبا

وقال ابن ميادة:

ألا يا لقومِي للهوَى والتَّذكُّرِ
وعينٍ قذَى إنسانها أُمُّ جحدرِ
فلمْ ترَ عيني مثلَ قلبيَ لمْ يطرْ
ولا كضلوعِي فوقهُ لمْ تكسَّرِ

وقال الطرماح:

عرفتُ لسلمَى رسمَ دارٍ تخالُها
ملاعبَ جِنٍّ أوْ كتاباً منمنمَا
وعهدِي بسلمَى والشَّبابُ كأنَّهُ
عسيبٌ نمَى في ريِّهِ فتقوَّما
يعضُّ سِواراها جلانَا لَوَ أنَّها
إذا بلغا الكفَّينِ أنْ يتقدَّما

وقال الحسن بن وهب:

الدَّمعُ مِنْ عينيْ أخيكَ غزيرُ
في ليلهِ ونهارهِ محدورُ
ذكرٌ يجولُ بها الضَّميرُ كأنَّما
يُذكَى بها تحتَ الفؤادِ سعيرُ

وقال علي بن محمد العلوي:

شآكَ الزَّمانُ بكرِّ الزَّمانِ
وأفناكَ مِنْ كرِّهِ كلُّ فانِ
إساءةُ دهركَ محفوفةٌ
بما لمْ يكنْ للصِّبى في ضمانِ
لياليَ لا يشبعُ النَّاظرا
نِ مَا قابلاكَ ولا يُروَيانِ
لياليَ لمْ يكتسِي العارضا
نِ شيباً ولمْ يقصصِ الشَّاربانِ
فإنْ يكُ هذا الزَّمانُ انقضى
وبُدِّلتَ أخبارهُ بالعيانِ
فلا بالقِلى تتناسَى الصِّبى
ولا بالرِّضا رضيَ العاذلانِ
ونازلةٍ كنتُ مِنْ حدِّها
علَى غزرٍ مثلَ حدِّ السِّنانِ
ومِنْ نكباتِ خطوبِ الزَّمانِ
أُلاحظُها بجنانِ الجبانِ
ألا هلْ سبيلٌ إلى نظرةٍ
بكُوفانَ يحيَى بها النَّاظرانِ
وهلْ أدنوَنْ مِنْ وجوهٍ نأتْ
وهنَّ منَ النَّفسِ دونَ الدَّواني
أُناسٌ همُ الأُنسُ دونَ الأنيسِ
وجنَّاتُ عيشكَ دونَ الجنانِ

وله أيضاً:

واهاً لأيَّامِ الشَّبا
بِ وما لبسنَ منَ الزَّخارفْ
وزوالهنَّ بمَا عرفْ
تُ منَ المناكرِ والمعارفْ
أيَّامَ ذكركَ في دوا
وينِ الصِّبى صدرَ الصَّحائفْ
وقفَ النَّعيمُ عنِ الصَّبا
وزَلَلْتُ عنْ تلكَ الموقفْ

وقال البحتري:

أرسومُ دارٍ أمْ سطورُ كتابِ
ذهبتْ بشاشتُها معَ الأحقابِ
يجتازُ زائرُها بغيرِ لُبانةٍ
ويُردُّ سائلُها بغيرِ جوابِ
ولربَّما كانَ الزَّمانُ محبَّباً
فنبَا بمنْ فيها منَ الأحبابِ
أيَّامَ عُودُ الدَّهرِ أخضرُ والهوَى
تربٌ لبيضِ ظِبائها الأترابِ
لوْ تُسعفينَ وما سألتُ مشقَّةً
لعدلتِ حرَّ جوًى ببردِ رُضابِ
ولئنْ شكوتُ ظَمايَ إنَّكِ لَلَّتي
قِدماً جعلتِ منَ السَّرابِ شرابِي
وعُتبتُ مِنْ حُبِّيكِ حتَّى إنَّني
أخشَى ملامكِ أنْ أبثَّكِ ما بي

وقال أيضاً:

سقَى اللهُ عهداً مِنْ أُناسٍ تصرَّمتْ
مودَّتهمْ إلاَّ التَّوهُّمُ والذِّكرُ
وفاءٌ منَ الأيَّامِ رجعُ حُدوجهمْ
كما أنَّ تشريدَ الزَّمانِ بهمْ غدرُ
هلِ العيشُ إلاَّ أنْ تُساعفنا النَّوى
بوصلِ سعادٍ أوْ يساعدَنا الدَّهرُ
علَى أنَّها ما عندَها لمُواصلٍ
وصالٌ ولا عنها لمصطبرٍ صبرُ
إذا ما نهَى النَّاهي فلجَّ بيَ الهوَى
أصاختْ إلى الواشي فلجَّ بها الهجرُ
ويومَ تثنَّتْ للوداعِ وسلَّمتْ
بعينينِ موصولٌ بلحظِهما السِّحرُ
توهَّمتُها ألوَى بأجفانها الكرَى
كرَى النَّومِ أوْ مالتْ بأعظُمها الخمرُ

وقال المرار الفقعسي:

ألا ذكِّراني يا خليليَّ ما مضَى
منَ العيشِ إذْ لمْ يبقَ إلاَّ تذكُّري
وإذْ لاهتزازِ العيشِ بالرَّكبِ لذَّةٌ
وإذْ كلُّ شربٍ باردٍ لمْ يُكدَّرِ
وإذْ أنتَ لمْ تشعرْ بعينٍ سخينةٍ
بكتْ مِنْ فراقٍ لكنِ الآنَ فاشعرِ

وقال أبو صخر الهذلي:

وإنِّي لتعرُوني لذكراكِ رعشةٌ
كما انتفضَ العصفورُ بلَّلهُ القطرُ
عجبتُ لسعيِ الدَّهرِ بيني وبينَها
فلمَّا انقضَى ما بينَنا سكنَ الدَّهرُ
أمَا والَّذي أبكَى وأضحكَ والَّذي
أماتَ وأحيَى والَّذي أمرهُ الأمرُ
لقدْ تَرَكتْني أحسدُ الوحشَ أنْ أرَى
أليفَيْنِ منها ما يروعُهما الذُّعرُ
هجرتكِ حتَّى قلتِ لا أعرفُ القِلَى
وزرتكِ حتَّى قلتِ ليسَ لهُ صبرُ
فيا هجرَ ليلَى قدْ بلغتَ بيَ المدَى
وزدتَ علَى ما لمْ يكنْ يبلغُ الهجرُ

وقال السري بن مغيث النوفلي:

ألا هلْ مُقيتي اللهُ في أنْ ذكرتُها
وهنَّ بأعلَى ذاتِ عرقٍ خواضعُ
سُحيراً وأصحابِي يلبُّونَ بعدَما
بدَا وجهُ مشهورٍ منَ الصُّبحِ ساطعُ
تمضَوْا هدَاكمْ ربُّ موسى فإنَّني
مُنيخٌ فباكٍ بكيةً ثمَّ رافعُ
وبينَ الصَّفا والرُّكنِ نادمتُ صُحبتي
بذكراكِ والعوَّادُ ساعٍ وراكعُ
وفي جوفِ بيتِ اللهِ جمجمتُ زفرةً
عليها وظلَّتْ تستهلُّ المدامعُ
ومِنْ نفرٍ عندَ التَّنبُّهِ جئتهمْ
وكلُّهم مِنْ خشيةِ اللهِ خاشعُ
فقلتُ لهم هلْ تعلمونَ منَ الجوَى
دواءً فقالُوا أنتَ في النَّارِ واقعُ
فقلتُ لهمْ هلْ تعلمونَ بما الَّذي
أُرجِّي ولا ما اللهُ بالعبدِ صانعُ
أيجعلُني في النَّارِ ربِّي وحبُّها
علَى كبدِي منهُ شؤونٌ صوادعُ