كتاب الزهرة/الباب الثاني والثلاثون في تلهب النيران أنس للمدنف الحيران


الباب الثاني والثلاثون في تلهُّب النِّيرانِ أُنسٌ للمدنف الحيران

أنشدني أبو طاهر الدمشقي قال أنشدني محمد بن الوليد الحيدري من أهل فلسطين:

رأيتُ بجرمِ عذرةَ ضوءَ نارٍ
تلألأَ وهيَ نازحةُ المكانِ
فشبَّهَ صاحبايَ بها سُهيلاً
فقلتُ تبيَّنَا ما تُبصرانِ
أنارٌ أُوقدتْ فتنوَّراها
بدتْ لكُما أمِ البرقُ اليمانِي
وكيفَ ودونَها الفلَجاتُ تبدُو
وكيفَ وأنتُما لا ترفعانِ
كأنَّ الرِّيحَ تصدعُ مِنْ سناها
بنائقَ جنَّةٍ مِنْ أرجوانِ

وقال جامع الكلابي:

وإنِّي لنارٍ أُوقدتْ بينَ ذي الغضا
علَى ما بعينِي مِنْ قذًى لبصيرُ
أضاءتْ لنا وحشيَّةً غيرَ أنَّها
معَ الإنسِ ترعَى ما رعَوْا وتسيرُ

وقال جميل بن معمر:

أكذَّبتُ طرفي أمْ رأيتُ بذي الغضا
لبُثنةَ ناراً فارْفَعوا أيُّها الرَّكبُ
إلى ضوءِ نارٍ ما تبوخُ كأنَّها
منَ البعدِ والإقواءِ جيبٌ لها نقبُ

وقال كثيّر:

رأيتُ وأصحابِي بأيْلةَ موهنا
وقدْ عادُ نجمُ الفرقدِ المتصوّبُ
لعزَّةَ ناراً ما تبوخُ كأنَّها
إذا ما رمقْناها منَ البعدِ كوكبُ

وقال آخر:

يا موقداً نارِي يُذكيها ويُخمدُها
قرَّ الشَّتاءِ بأرواحٍ وأمطارِ
قمْ فاصطلِ النَّارِ من قلبي مضرَّمةً
بالشَّوقِ تغنَ يا موقدَ النَّارِ
ويا أخا الذَّودِ قدْ طالَ الظَّماءُ بها
لمْ تدرِ ما الرّيُّ مِنْ جدبٍ وإقفارِ
ردْ بالعطاشِ علَى عيني ومحجرِها
تُروي العطاشَ بدمعٍ واكفٍ جارِي

وقال آخر:

يا موقدَ النَّارِ بالزّنادِ
وطالبَ الجمرِ في الرَّمادِ
دعْ عنكَ شكّاً وخذْ يقيناً
واقتبسِ النَّارَ مِنْ فؤادي

وقال الشماخ:

وكنتُ إذا ما جئتُ ليلَى تبرقعتْ
لقدْ رابَني منها الغداةَ سفورُها
وأُشرفُ بالغورِ اليفاعَ لعلَّني
أرَى نارَ ليلَى أوْ يراني بصيرُها
حمامةَ بطنِ الوادِيينِ ترنَّمي
سقاكِ منَ الغرِّ العذابِ مطيرُها
أبِيني لنا لا زالَ ريشُكِ ناعماً
ولا زلتِ في خضراءَ دانٍ بريرُها

وقال الأحوص بن محمد:

ضوءُ نارٍ بدَا لعينيكَ أمْ شُ
بَّتْ بذي الأثلِ مِنْ سلامةَ نارُ
تلكَ دارُ الغضا وحسّاً وقد يأ
لفُها المجتدونَ والزُّوَّارُ
أصبحتْ دمنةً تلوحُ بمتنٍ
تعتفيها الرِّياحُ والأمطارُ
وكذاكَ الزَّمانُ يذهبُ بال
نَّاسِ وتبقَى الدِّيارُ والآثارُ

وقال آخر:

يا موقدَ النَّارِ بالصَّحراءِ مِنْ عمَقٍ
قمْ فاصطلي مِنْ فؤادٍ هائمٍ قلقِ
النَّارُ تُطفى وبردُ القرِّ يخمدُها
ونارُ قلبيَ لا تطفَى منَ الحرقِ

وقال بعض الأعراب:

أنارٌ بدتْ يا عبدُ مِنْ ساكنِ الغضا
معَ اللَّيلِ أمْ برقٌ تلألأ ناصبُ
فأحببْ بتلكَ النَّارِ والموقدِ الَّذي
لهُ عندَ جرعاءِ النُّميرةِ حاطبُ
لمنْ ضوءُ نارٍ بالبطاحِ كأنَّها
منَ الوحشِ بيضاءُ اللَّبانِ سلوبُ
إذا صدَّعتها الرِّيحُ بانَ بضوئِها
منَ الأثْلِ فرعٌ يابسٌ ورطيبُ
يراها فيرْجوها وليسَ بآيسٍ
وفيها عنِ القصدِ المبينِ نكوبُ
فأمَّا علَى طلاَّبِ بانٍ فساعةٌ
وأمَّا علَى ذي حاجةٍ فقريبُ

وقال آخر:

ونارٍ كسحرِ العَودِ ترفعُ ضوءها
معَ اللَّيلِ هبَّاتُ الرِّياحِ الصَّواردُ
أحيدُ بأيدي العيسِ عنْ قصدِ دارِها
وقلبي إليها بالمودَّةِ قاصدُ

وقال آخر:

وطيبةُ قالتْ أوقدِ النَّارَ علَّهُ
يراها مضلٌّ قدْ سرَى فيؤوبُ
لها موقدٌ مِنْ أهلِها وكأنَّهُ
إذا أُوقدتْ ليلاً أغنُّ غضوبُ

وقال ربيعة بن ثابت:

لمنْ ضوءُ نارٍ قابلت أعينَ الرَّكبِ
تشبُّ بلدْنِ العُودِ والمندلِ الرَّطبِ
فقلتُ لقدْ آنستُ ناراً كأنَّها
صفا كوكبٍ لاحتْ فحنَّ لها قلبِي

وقال ابن الدمينة:

بدتْ نارُ أمِّ العمرو بين حوائلٍ
وبينَ اللّوَى كالبرقِ داني المعانِ
فيا حبَّذا مِنْ ضوءِ برقٍ بدا لنا
ويا حبَّذا مِنْ موقدٍ ودخانِ
بدتْ نارُها يا ملحَ مَنْ هيَ نارُهُ
ويا حبَّذا مِنْ مصطلًى ومكانِ

وقال آخر:

ألا ليتَ أنَّ الطَّلَّ يُطفئُ نارَنا
فيقبِسَني مِنْ نارِ وجناءَ قابسُ
وماذا عليهمْ لو تصلَّى بضوءها
علَى النَّأيِ مشبوحُ الذَّراعبْنِ بائسُ

وقال ابن مقيل:

إذا النَّاسُ قالُوا كيفَ أنتَ وقدْ بدا
ضميرُ الَّذي بِي قلتُ للنَّاسِ صالحُ
إذا قيلَ مِنْ دهماءَ حيِّرتَ أنَّها
منَ الجنِّ لم يوقدْ لنا النَّارَ قادحُ
وكيفَ ولا نارٌ لدهماءَ أُوقدتْ
قريباً ولا كلبٌ منَ اللَّيلِ نابحُ
وإنِّيَ ألْحاني علَى أنْ أُحبّها
رجالٌ تقوِّيهمْ قلوبٌ صحائحُ
ولو أنَّ ما ألقَى منَ الشَّوقِ والهوَى
لأُهلكَ مالٌ لمْ تسعهُ المسارحُ

وقال امرؤ القيس:

تنوَّرتُها مِنْ أذرِعاتٍ وأهلُها
بيثربَ أدنَى دارِها نظرٌ عالِ
نظرتُ إليها والنَّجومُ كأنَّها
مصابيحُ رهبانٍ تشبُّ لقفَّالِ
فقالت سباكَ اللهُ إنَّكَ فاضحي
ألستَ ترَى السُّمارَ والنَّاسَ أحوالِي
فقلتُ يمينَ اللهِ أبرحُ قاعداً
ولو قطعُوا رأسي لديكِ وأوصالِي
فلمَّا تنازعْنا الحديثَ وأسمحتْ
هصرتُ بغصنٍ ذي شماريخَ ميَّالِ
فصرنا إلى الحُسنى ورقَّ كلامُنا
ورضتُ فذلَّتْ صعبةً أيَّ إذلالِ
حلفتُ لها باللهِ حلفةَ فاجرٍ
لنامُوا فما إنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ
سموتُ إليها بعدَما نامَ أهلُها
سموَّ حبابِ الماءِ حالاً علَى حالِ
فأصبحتُ معشوقاً وأصبحَ بعلُها
عليهِ القَتامَ سيِّئَ الظَّنِّ والبالِ

أمَّا البيت الأول فهو نهاية لا يتهيَّأ مجاوزتها بل لا تتمكن مقاربتها لأنه ذكر أنَّه تخيَّل نارها من المدينة وهو بالشام فساقه الشَّوق إليها من أجل ذلك وقد بلغني أنَّ أعرابياً ذكر صاحبةً له فقال إنِّي لأذكرها وبيني وبينها عقبة طائرٍ وأجد من ذكرها ريح المسك ويقال أنَّ عقبة الطَّائر مئة فرسخ فهذا لعمري مقاربٌ لبيت امرئ القيس ولذلك عليه فضل السَّابق على المسبوق وفضل النَّظم على المنثور وفضل الطَّاعة لاشتياقه وانقياده معه إلى إلفه الَّذي شاقه غير أنَّه عقَّب ذلك بما عفَّ على حسنه ومحا موضع الفخر له به.

وقال الأحوص:

صاحِ هلْ أبصرتَ بالخبْ
تينِ مِنْ أسماءَ نارا
موهناً شُبَّتْ لعيني
كَ فلمْ توقدْ نهارَا
كَتَلالي البرقِ في العا
رضِ ذي المزنِ اسْتَطارا
أذكرَتْني الوصلَ مِنْ سُلْ
مَى وأيَّاماً قِصارا
لمْ تُثِبْ بالوصلِ سُلمَى
جارَها إذْ كانَ جارَا
عاشقاً أفنَى طوالَ الدَّ
هرِ خوفاً واستِتارا

وقال أيضاً:

رأيتُ لها ناراً تُشبُّ ودونَها
بواطنُ من ذِي رجرجٍ وظواهرُ
فخفَّضتُ قلبِي بعدَما قلتُ إنَّه
إلى نارِها مِنْ عاصفُ الشَّوقِ طائرُ
فقلتُ لعمرٍو تلكَ يا عمرُو دارها
تُشبُّ بها نارٌ فهلْ أنتَ ناظرُ
تقادمَ منِّي العهدُ حتَّى كأنَّني
تذكَّرتُها مِنْ طولِ ما مرَّ هاجرُ
وفي مثلِ ما جرَّبتُ منذُ صحبتَني
عذرتَ أيا يحيَى لَوَ انَّكَ عاذرُ
كريمٌ يُميتُ السِّرَّ حتَّى كأنَّهُ
عَمٍ بنواحِي أمرِها وهوَ خابرُ
إذا قلتُ أنْساها وأخلقَ ذكرُها
تنثَّتْ بذكْراها همومٌ نوافرُ

وقال أيضاً:

أمنْ خُليدةَ وهناً شُبَّتِ النَّارُ
ودونَها مِنْ ظلامُ اللَّيلِ أستارُ
باتتْ تُشبُّ وبتْنا اللَّيلَ نرقبُها
تُعنَى قلوبٌ بها مرضَى وأبصارُ
يا حبَّذا تلكَ مِنْ نارٍ وموقدُها
وأهلُنا باللِّوى إذْ نحنُ أجوارُ
خُليدُ لا تبعدِي ما عنكِ إقصارُ
وإنْ بخلتِ وإنْ شطَّتْ بكِ الدَّارُ
فما أُبالي إذا أمسيتِ جارَتَنا
مقيمةً هلْ أقامَ النَّاسُ أمْ سارُوا
لو دبَّ حوليُّ ذَرٍّ تحتَ مدرعِها
أضحَى بها منْ دبيبِ الذَّرِّ آثارُ

وقال أيضاً:

يا موقدَ النَّارِ بالعلياءِ مِنْ إضَمِ
أوقدْ فقدْ هجتَ شوقاً غيرَ منصرمِ
يا موقدَ النَّارِ أوقدْها فإنَّ لها
سَناً يهيجُ فؤادَ العاشقِ السَّدمِ
نارٌ أضاءَ سناها إذْ تشبُّ لنا
سعديَّةً دلُّها يشفي منَ السَّقمِ
ولائمٍ لامَني فيها فقلتُ لهُ
قد شفَّ جسمي الَّذي ألقَى بها ودَمي
فما طربتَ لشجوٍ كنتَ تأملهُ
ولا تأمَّلتَ تلكَ الدَّارِ مِنْ أممِ

وقال آخر:

كأنَّ فؤادي في يدٍ علقتْ بهِ
محاذرةً أن يقضبَ الحبلَ قاضبهْ
وأُشفقُ مِنْ وشكِ الفراقِ وإنَّني
أظنُّ لمحمولٌ عليهِ فراكبهْ
نظرتُ ودونِي السُّحقُ مِنْ نخلِ بارقٍ
بنظرةِ سامِي الطَّرفِ حجنٍ مخالبهْ
لأُبصرَ ناراً بالجواءِ ودونَها
مسيرةُ شهرٍ لا يعرِّسُ راكبهْ
فواللهِ ما أدرِي أغالَبَني الهوَى
إلى أهلِ تلكَ الأرضِ أمْ أنا غالبهْ
فإنْ أستطعْ أغلِبْ وإنْ يغلبِ الهوَى
فمثلُ الَّذي لاقيتُ يُغلبُ صاحبهْ

وقال آخر:

أحقّاً عبادَ اللهِ أنْ لستُ رائياً
أُميمةَ إنْ حاضرتُ أوْ كنتُ بادِيا
ولا مبصراً بالأجرعِ الفردِ نارَها
ولا ثانياً يُمنى يديْهَا وِسادِيا
ولا قائلاً تَقضي الدُّيونَ فإنَّها
ديونُ غريمٍ ما أساءَ التَّقاضيا

ولبعض أهل هذا العصر:

أرقتُ لنارٍ بالطُّليحةِ أُوقدتْ
تراءَتْ للحظِ العينِ ثمَّ تستَّرتْ
علتْ وخبتْ ثمَّ انجلتْ وتطاولتْ
علَى هضباتِ الرَّملِ ثمَّ تخفَّضتْ
فلمْ يخبُ شوقِي إذْ خبتْ بلْ تلهَّبتْ
صبابةُ قلبي بالهوى لمَّا تلهَّبتْ
وما ردَّ عنها الطَّرفَ بعدُ مكانِها
ولكنْ دموعُ العينِ لمَّا تهلَّلتْ
ذكرتُ بها الدَّهرَ الَّذي ليسَ عائداً
وما نُسيَتْ أيَّامهُ بلْ تُنُسِّيَتْ
فما أنصفتْ أذكتْ هوًى حينَ أُذكِيَتْ
ولمْ تُطفَ نيرانُ الهوَى حينَ أُطفئتْ