كتاب الزهرة/الباب الثاني والخمسون ما مدح به أمية النبي صلى الله عليه وسلّم وما استشهد وأنشد بين يديه


الباب الثاني والخمسون ما مدح به أمية النبي صلى الله عليه وسلّم وما استشهد وأنشد بين يديه

حدَّثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال: حدَّثنا علي بن محمد المدائني قال: حدَّثنا محمد بن عبد الله بن أخي الزهري بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن سعد بن أبي وقاص قال: قدم وفد ربيعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - فسألهم عن قس بن ساعدة الإيادي وكان نازلاً فيهم: ما فعل؟ فقالوا: هلك يا رسول الله، فقال: والله لقد رأيته يوماً بعكاظ وهو على جمل له أحمر وهو يخطب النَّاس وهو يقول: أيُّها النَّاس اجتمعوا واسمعوا واسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، ما لي أرى النَّاس يذهبون فلا يرجعون، أرَضُوا بالإقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا، إنَّ في السَّماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، ليل موضوع، وسقف مرفوع، وبحار لا تفور، ونجوم تمور، ثمَّ بحور، أقسم قس قسماً بالله وما أتمَّ، إنَّ لله ديناً هو أرضى من دينٍ نحن عليه، ثمَّ تكلَّم بأبيات شعر ما أدري ما هي؟ فقال أبو بكر: أنا شاهد ذلك يا نبي الله فقال: أنشدها، فأنشأ أبو بكر - رضي الله عنه - يقول:

في الذَّاهبين الأوَّلين
من القرونِ لنا بَصائر
لما رأيت موارداً
للموتِ ليسَ لها مصادر
ورأيت قومي نحوَها
يسعى الأكابرُ والأصاغر
لا يرجعُ الماضي إليك
ولا من الباقين غابر
أيقنتُ أنِّي لا محالة
حيثُ صارَ القومُ صائر

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول لعائشة: " يا حميراء ما فعلت أبياتك " ؟ قالت: فكنت أقول: يا رسول الله قال الشاعر:

ارفع ضعيفك لا يحلْ بك ضَعفهُ
يوماً فتدركه العواقب قد نمَا
يجزيك أوْ يثني عليك وإن من
أثنَى عليك بما فعلت فقد جزَا

قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: نعم يا عائشة إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة قال لعبد من عبيده: " عبدي صنع إليك معروفاً فهل شكرته؟ فيقول: يا ربِّ علمت أنَّه منك فشكرت لك، فيقول: لِمَ تشكرني إذا لم تشكر من أجريتُ ذلك علي يديه " .

ومع هذه الأبيات:

إنَّ الكريم إذا أردت وصاله
لم تلف حبلي واهياً رثَّ القُوى
أرعَى أمانتَهُ وأحفظُ عهده
جهدي فيأتي بعد ذلك ما أتَى

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - أنشدته عائشة الأربعة الأبيات فقال: قال لي جبريل - عليه السلام - : من آويته خيراً فذلك فقد كافى.

وروي في بعض الأخبار أن ضرار بن الأزور الأسدي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسلم وقال:

تركتُ الخمورَ وضربَ القداح
واللَّهو تضربه وابتهالا
وكزي المخبر في عمره
وشدّي عن المشركين القتالا
فيا ربّ لا أعتبر صفقتي
فقد بعتُ أهلي ومالي بدالا

فقال رسول الله : ما غبنت صفقتك يا ضرار.

وروي أن النابغة الجعدي أنشد النبي - صلى الله عليه وسلّم - :

بلغنا السَّماءَ مجدُنا وسناؤنا
وإنَّا لنرجو فوقَ ذلك مُظْهرَا

فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: إلى أين؟ قال: إلى الجنة بك يا رسول الله. قال: لا يفضض الله فاك.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم سمع رجلاً ينشد:

إنِّي امرؤ حميريٌّ حين تنسبني
لا من ربيعة آبائي ولا مُضَرُ

فقال: ذاك أبعد من الله ورسوله والوجه في هذا والله أعلم أن افتخاره بأنَّه لا من ربيعة ولا من مضر هو الَّذي أوجب له الذّمّ والتّباعد من الله عز وجل ورسوله عليه السلام لا أن كونه من حمير موجب لذلك.

والَّذي يروى أن النبي صلى الله عليه وسلّم أنشده واستنشده أكثر من ذاك. وقد روي عن ابن الشريد عن أبيه قال: استنشدني النبي صلى الله عليه وسلّم فأنشدته مائة قافية لامية فقال: إن كان ليسلم ماذا كان قد أنشد النبي صلى الله عليه وسلّم من شعر رجل واحد مقدار ما حددناه نحن للباب فكيف يتهيء لنا استيعاب ما استنشده وما مدح به في باب غير أن الاستقصاء أصلح من طلب الغاية بالتطويل والإكثار ونحن الآن نذكر طرفاً ممَّا مدح به رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما رثي به بعد وفاته. وقال أبو بكر الصديق رحمة الله عليه يرثي رسول الله صلى الله عليه:

أمستْ تأوّبني همومٌ جمَّةٌ
مثلُ الصُّخور قد أمستْ هدَّت الجسدا
ليت القيامةَ قامت عند مهلكه
كي لا نرَى بعده مالاً ولا ولدا

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرثيه:

ما زلت مُذْ وضع الفراش لجسمه
وثوى مريضاً خائفاً أتوقّعُ
شفقاً عليه أن يزول مكانه
عنَّا فنبقَى بعده نتفجّعُ
نفسي فداؤك من لنا في أمرنا
أمنٌ نشاوره إذا نتوجَّعُ
وإذا تحلّ بنا الحوادث من لنا
بالوحي من ربٍّ سميع نسمعُ

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرثيه:

أمن بعد تكفيني النَّبيّ ودفنه
بأثوابه آسى علَى هالكٍ نوَى
رُزينا رسول الله فينا فلن نرَى
بذلك عدلاً ما حيينا من الردَى
وكانَ لنا كالحصن من دون أهله
لهم معقل فينا حريزٌ من العِدَى
وكنَّا برؤياه نرى النّور والهدَى
صباحَ مساءَ راحَ فينا أوْ اغتدَى
فقد غشيتنا ظلمةٌ بعد موته
نهاراً فقد زادت علَى ظلمة الدُّجَى
فيا خير من صمّ الجوانح والحشا
ويا خير ميت ضمّه التّرب والثّرَى
كأنَّ أُمور النَّاس بعدك ضمنت
سفينة نوح البحر والبحر قد سمَا
فضاق فضاء الأرض عنهم برحبه
لفقد رسول الله إذ قيل قد قضى
فقد نزلت بالمسلمين مصيبة
كصدع الصَّفا لا شعب للصّدع في الصفا
فإن يستقل النَّاس تلك مصيبة
ولن يجبر العظم الكسير إذا وهى
وفي كل وقت للصلاة يهيجهُ
بلال ويدعو باسمه كلما دعا
ويطلب أقوام مواريث هالك
ولله ميراث النبوة والهدى

وقال علي بن أبي طالب عليه السلام:

ألا طرق الناعي بليل فراعني
وأرقني لما استقل مُناديا
فقلت له لما رأيت الَّذي أتى
أغير رسول الله إن كنت ناعيا
فحقق ما أشفقت منه ولم تُبل
وكان خليلي غريا وجماليا
فوالله ما أنساك أحمد ما مشت
بي العيس في أرض وجاوزتُ واديا
وكنت مَتَى أهبط من الأرض تلعةً
أرى أثراً منه جديداً وباليا
شديد جرى في الصدر نهدٌ مصدرٌ
هو الموت مغدواً عليه وغاديا

وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثيه عليه السلام:

طال ليلي أسعدنني أخواتي
ليس ميتي كسائر الأمواتِ
ليس ميتي من مات في النا
س ولا كان مثله في الحياةِ
طال ليلي لنكبةٍ قطعتني
لا أرى مثلها من النكباتِ

وقالت صفية:

ما لعينيَّ لا تجودانِ رِيّا
قد رُزينا خير البرية حيّا
يوم نادى إلى الصلاة بلال
فبكينا بعد النداء مليّا
كل يوم أصبحت فيه ثقيلاً
لا ترد الجواب منك إليّا
لم أجد قبلها ولست بلاقٍ
بعدها غصة أمر عليّا
وحمان الشَّيخ منحدر في عار
ضيه كالمسك فاح ذكيّا
وهي في الصدر قد تساق حثيثاً
ومن الوقت عند ذاك هويّا
ليت يومي يكون قبلك يوماً
أنضج القلب للحرارة كيّا
خُلقاً عالياً وديناً كريماً
وصراطاً تُهدي به مستويا
وسراجاً يهدي الظلام منيراً
ونبيّاً مسوداً عربيّا
حازماً عازماً حليماً كريماً
عايداً بالنوال برّاً تقيّا
إن يوماً أتى عليك ليوم
كُدّرت شمسُه وكان جليّا
فعليك السلام منّا ومن ربك
بالروح بُكرةً وعَشِيّا

وقال أبو سفيان بن الحارث:

أرقت فبات ليلي لا يزول
وليل أخي المصيبة فيه طولُ
فقد عظمت مصيبته وجلت
عشية قيل قد قُبض الرسولُ
فكلّ النَّاس منقطعين فيها
كأن النَّاس ليس لهم حويلُ
كأن النَّاس إذْ فقدوه عُمياً
أضر بلب حارمهم عليلُ
نبيّ كان يجلو الشك عنّا
بما يوحى إليه وما يقولُ
ويهدينا فلا نخشى ضلالاً
علينا والرسول لنا دليلُ
يخبرنا بظهر الغيب عما
يكون فلا يجور ولا يحولُ
ولم ترَ مثله في النَّاس حيّا
وليس له من الموتى عديلُ
أفاطم إن جزعت فذاك عذراً
وإن لم تجزعي فهو السبيلُ
فعودي بالعزاء فإن فيه
ثواب الله والفصل الجزيل
وقولي في أبيك ولا تملي
وهل يُخزي بفعل أبيكِ قيلُ
فقبر أبيك سيد كل قبر
وفيه سيد النَّاس الرسولُ

وقال كعب بن مالك:

ونائحةٍ حَرّى تَحرَّقُ بالبُكا
وتلطم منها خَدَّها والمُقلّدا
علَى هالكٍ بعد النبيّ محمد
ولو عقلت لم تبكِ إلاَّ مُحمدا
فُجِعْنا بخير النَّاس حيّاً وميّتا
وأدناهُ من أهل السَّموات مَقْعدا
وأعظمهُ فقداً علَى كل مُسلمٍ
وأعظَمهم في النَّاس كلهمُ يَدا
إذا كانَ منه القولَ كان موفقاً
وإن كان حيّاً كان نوراً مُجدَدا
وقد وازنتْ أخلاقُهُ المجدَ والتُّقى
فلن تَلْقه إلاَّ رشيداً ومُرشدا

وقال عمرو بن سالم الخزاعي:

لعمري لئن جادت دموعي بالبكا
لمحقوقةٌ أن تستهل وتدمعا
أبا حفص إن الأمر جلّ عن البكا
غداة نعى الناعي النبي فأسمعا
فلم أرَ يوماً كان أعظم حادثاً
ولم أرَ يوماً كان أكثر موجعا
فوالله لا أنساك ما دمت ذاكراً
لشيء وما قَلّبتُ كفّاً وإصبعا
إذا ذكرت نفسي فراقَ محمد
تهيجُ حزني عند ذلك أجمعا

وقال الزبرقان بن بدر:

آليت لا آسي علَى هالك
بعد نبيِّ الله خيرِ الأنام
بعد النبي كان لنا هادياً
من حَيرةٍ كانت وبدرَ الظلام
يا مبلغ الأخيار عن ربّه
فينا ويا مُحيي ليل التّمام
فاستأثر الله به إذْ وفى
أيامه عند حضور الحِمام
وأي قوم أدركوا غبطة
دامت لهم من آل حام وسام

وقال حسان بن ثابت:

إن الرزية لا رزية مثلها
ميتٌ بطيبةَ مثله لم يفقدِ
فلقد أصيب جميع أمته به
من كان مولوداً ومن لم يولدِ
والنَّاس كلهم لما قد عالهم
ترجو شفاعته بذاك المشهد
حتَّى الخليل أبوه في أشياعه
ونجيّه موسى النبيّ المهتدي
متواضعين لربّهم بفَعالهم
تلك الفضيلة واجتماع السؤدد
يا خير من شدَّ المطية نحوه
وفد لحاجته تروح وتغتدي
أنت الَّذي استنقذتَنا من حفرة
من يهوَ فيها من قُواه يبعدِ
وهديتنا بعد الضلالة والرَّدى
فهدى الإله إلى السبيل الرشَّد
فجزاك عنّا الله خير جزئه
بمقام محمود المقام مسوَّدِ

وقال أمية يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي أبيات اخترناها، وقد ذكرنا بعض القصيدة في الباب الماضي وإنّما أردنا هذه الأبيات من هذا الباب لندل على جهل من حكينا قوله في الباب الَّذي قبله:

محمداً أرسله بالهدى
فعاش غنيّاً ولم يُهتضَمْ
عطاءٌ من الله أعطيته
وخصَّ به الله أهلَ الحرمْ
وقد علموا أنّه خيرهم
وفي بيتهم ذي النّدى والكرمْ
نبيّ الهدى طيبٌ صادقٌ
رحيم رؤوف بوصل الرحمْ
به ختم الله من قبله
ومن بعده من نبيٍّ ختمْ
يموت كما مات من قد مضى
يُردُّ إلى الله باري النسمْ
مع الأنبياء في جنان الخلود
همُ أهلها غير حل القسمْ

وقال حسان بن ثابت:

هجوت محمداً فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
وقال الله قد أرسلت عبداً
يقول الحق ارتفع البلاء
أتهجوه ولستَ لهُ بكفءٍ
فشرّكما لخيركما الفداءُ

وهذا لعمري من أحسن الكلام لفظاً وأصحَّه معنى ولا أعرفُ بعده في الأنصاف غاية، ولا أقلَّ منه في الاختصار نهاية. ومن أشبه شيء به قصة عبد الله ابن رواحه حين تظلّمت اليهود من خرصه عليهم بخيبر فقال: إن شئتم أخذتموه بخرصي، وأعطيتموني ما يجب، وإن شئتم أخذتموه بما خرصته وقاسمتكم فأعطيتكم حقكم منه على ذلك. فقالت اليهود: هذا والله الحق، بهذا قامت السَّموات. وهذا المعنى الَّذي اختاره حسان رحمه الله في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلّم وهو الاختيار في مثله، لأن من استعار وصفه بغاية ما يستحقه، والاقتصار من مدحه على ما لا يتهيأ للخصم دفعه أولى من غيره، وبما عسى أن يمدح النبيّ صلى الله عليه فيكون مستوعباً لفضله، ومقارناً لوضعه. وكل ما مدح فإنما يجري إلى منتهى عمله. وفضله صلى الله عليه، يُحلّ عن أن تدركه الخواطر والأفكار ويكبر عن أن تحيط بجمعه الروايات والأخبار صلى الله عليه وعلى أصحابه وآله المنتجبين صلاة تُبلّغه رضاه، وتتجاوز به إلى أن يقصر عنه مناه. وعليه وعليهم السلام ورحمة الله.