كتاب الزهرة/الباب الحادي والخمسون ذكر ما قاله أمية ونظراؤه في تعظيم الله جل شأنه


الباب الحادي والخمسون ذكر ما قاله أمية ونظراؤه في تعظيم الله جل شأنه

وقال أمية بن أبي الصلت:

ألا كل شيءٍ هالك غيرَ ربّنا
ولله ميراث الَّذي كانَ فانيا
وإن يكُ شيئاً خالداً ومُعمراً
تأمل تجدْ من فوقه الله باقيا
له ما رأت عين البصير وفوقه
سماء الإله فوق ست ثمانيا
إلى أن يفوت المرء رحمة ربّه
ولو كانَ تحت الأرض سبعين واديا

وقال أيضاً:

ويوم موعدهم أن يخرجوا زمراً
يوم التغابُن إذْ لا ينفع الحذرُ
وحوسبوا بالذي لم يحصه أحدٌ
منهم وفي مثل ذاك اليومِ مُعتبرُ
فمنهم فرحٌ راضٍ بمبعثه
وآخرون عَصوا مأواهمُ سَقَرُ
يقول خزَّانها ما كانَ غيكم
ألم يكن جاءكم من ربّكم نُذُرُ
قالوا بلَى فأطعنا سادةً بَطروا
وغرّنا طول هذا العيش والعمرُ
فذاك محبسهم لا يبرحون به
طول المقام وإن ضجّوا وإن صبروا
قالَ امكثوا في عذاب النَّار ما لكمُ
إلاَّ السَّلاسل والأغلال والسُّقُرُ
وآخرون علَى الأعرافِ قد طمعوا
بجنَّةٍ حفّها الرُّمَّان والخضُرُ
يُسقَون فيها بكأسٍ لذّة أُنف... صفراء لا...
فيها ولا سكرُ
مزاجها سلسبيلٌ ماؤها غدقٌ
عذب المذاقةِ لا ملحٌ ولا كدرُ
كائن خلت فيهم من أمَّةٍ ظلمت
قد كانَ جاءهم من قبلهم نُذرُ
فأهلكوا بعذاب خصّ دابرهم
فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا
فصدِّقوا بلقاءِ الله ربّكم
ولا يصُدنكم عن ذكرِهِ البَطَرُ

وقال أيضاً:

لك الحمد والنعماء والفضل ربّنا
فلا شيءَ أعلَى منك جَدّاً ولا مجدُ
مليك علَى عرش السَّماء مهيمنٌ
لعزّته تعنو الوجوه وتسجدُ
ولا بشرٌ يسمو إليه بطرفِهِ
ودون حجاب النّور خلق مؤيَّدُ
ملائكة أقدامهم تحت أرضِهِ
وأعناقهم فوقَ السَّموات صعدُ
فمن حاملٍ إحدَى قوائم عرشه
بأيد ولولا ذاكَ كلوا وبلدوا
قيام علَى الأقدام عانين تحته
فرائصهم من شدَّة الخوف تُرعدُ
فهم عند ربّ ينظرونَ لأمرِهِ
يُصيخون بالأسماع للوحيِ رُكَّدُ
أميناه روح القدس جبريل منهما
وميكال ذي الرّوح القويُّ المُسدّدُ
ملائكة لا يفترون عبادةً
كروبيّةٌ منهم ركوعٌ وسُجْدُ
فساجدهم لا يرفع الدَّهر رأسه
يُعظّمُ ربّاً فوقه ويُمجِّدُ
وراكعهم يحنو له الظهر خاشعاً
يردِّدُ آلاء الإله ويحمدُ
ومنهمْ ملفٌّ في جناحيه رأسه
يكادُ لذكرَى ربّه يتفصَّدُ
وحُرَّاسُ أبواب السَّموات دونَهُ
قيامٌ لديه بالمقاليد رُصَّدُ
ودون كثيف الملك في غامض الهَوَى
ملائكةٌ تنحطُّ فيه وتصعدُ
وبين طباق الأرض تحتَ بطونها
ملائكة بالأمرِ فيها تردّدُ
فسبحان من لا يقدر الخلق قَدْرَهُ
ومن هو فوق العرش فرد مُوحدُ
وأنى يكون الخلق كالخالق الَّذي
يدومُ ويبقَى والخليقةُ تنفذُ
وليس لمخلوقٍ علَى الخلقِ جِذّهُ
ومن ذا علَى مرِّ الحوادثِ يخلدُ
فيفنَى ولا يبقى سوى القاهر الَّذي
يُميتُ ويُحيي دائماً ليسَ يهمدُ
تسبحهُ الطَّيرُ الكوامنُ في الخفَى
وإذْ هي في جوّ السَّماء تُصَعَّدُ
ألا أيُّها القلب المقيم علَى الهَوَى
إلى أي هذا الدَّهر منك التصدُّدُ
ألا إنَّما الدُّنيا بلاغٌ وبلغةٌ
وبينا الفَتَى فيها مهيبٌ مُسودُ
إذا انقلبت عنه وزالَ نعيمها
وأصبحَ من تربِ القبورِ يوسَّدُ
وفارق روحاً كانَ بينَ حياتِهِ
وجاورَ موتى ماله مُتبدَّدُ
فأيّ فتًى قبلي رأيتم مخلداً
لهُ في قديمِ الدَّهرِ ما يتزودُ
ولن تسلم الدُّنيا وإن ضنَّ أهلها
بصحبتها والدَّهر قد يتجدّدُ
ألست ترَى فيما مضَى لك عبرة
فَمَهْ لا تكن يا قلبُ أعمَى تلددُ
فقد جاءَ ما لا ريبَ فيه من الهدى
وليس يرد الحقّ إلاَّ مفندُ
فكن خائفاً للموت والبعث بعده
ولا تكُ فيمن غرَّه اليوم أوْ غدُ
فإنَّك في دنيا غرور لأهلها
وفيها عدوٌّ كاشحُ الصَّدرِ يوقِدُ
من الحقد نيران العداوة بيننا
لأن قال ربي للملائكة اسجدوا
لآدم لما كمل اللهُ حقّه
فخرّوا له طوعاً سجوداً وكددُوا
وقال عدوّ الله للكبر والشقا
لطين علَى نارِ السّموم فسوَّدوا
فأخرجه العصيان من خير منزلٍ
فذاك الَّذي في سالف الدَّهر يحقدُ
علينا ولا نالوا خبالاً وحيلةً
لنوردها ناراً عليها سيوردُ
جحيماً تلظى لا يقترّ ساعةً
ولا الحرّ منها آخر الدَّهر يبردُ
فما لك في الشَّيطان والنَّار أسوة
إذا ما صليتَ النَّارَ بل أنتَ أبعدُ
هو القائد الدَّاعي إلى النَّارِ لابثاً
ليوردنا منها ويَتوردُ
فما لك في عذرٍ وطاعةِ فاسق
وما لك في نار صليتَ بها يدُ

وقال أيضاً:

الحمدُ لله الَّذي لم يتَّخذ
ولداً وقدَّر خلقهُ تقديرا
وأعوذُ باللهِ العليّ مكانه
ذي العرش لم أعلم سواه مجيرا
من حرِّ نار لا يفترّ عنهم
وهناً أُعدت للظّلوم مصيرا
فيها السَّلاسل والعذابُ لمن طغَى
يدعون منها حَسرةً وثبورا
لا يسمعنَّ حسيسها يا ربّنا
يوماً نغيطٌ شهقةً وزفيرا
قد تأمرون القسط في أعمالهم
لا يظلمون لذي الحساب نقيرا
فاغفر لي اللّهم ذنبي كلّه
أما أبيتُك يومَ ذاك فقيرا

وقال أيضاً:

لكَ الحمدُ والمنّ ربّ العبا
د وأنت المليك وأنتَ الحكمْ
أمرت بالإنسان من نُطفةٍ
تُخلق في البطنِ بعدَ الرّحمْ
وإنِّي أدينُ لكم إنكم
سيصدقكم ربُّكم ما زعمْ
ولستم بأحسن صنعاً ولا
أشدَّ قوى صُلُبٍ من أَدَمْ
مصانع لقمان قد نالها
لها ثلب طامحاتُ المجمْ
إذا ما دخلت محاريبهم
رأيتَ نصاراهم كالنّعمْ
خلا وقد كانَ أربابها
عتاق الوجوه حسان اللّحَمْ
ملوكاً علَى أنَّهم سُوقةٌ
ولا يدهم كظباء السَّلمْ
فَغيّر ذلك ريبُ المَنون
والمرء ليسَ له مال يحتكمْ

وقال زهير بن أبي سُلمى:

واعلم ما في اليوم والأمس قبلَهُ
ولكنَّني عن علم ما في غدٍ عم
فلا تكتمنَّ الله ما في نفوسكم
ليخفَى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر
ليومِ الحساب أوْ يعجل فينقم

وقال عدي بن زيد:

أينَ كسرَى خير الملوك وأبو سا
سان أمْ أينَ قبله سابورُ
وبنو الأصفر الكرام ملوك الرُّ
وم لم يبقَ منهم مذكورُ
وأخو الخُضْر إذْ بناهُ وإذْ
دجلة تجبى إليه والخابورُ
لم يهبْهُ ريبُ المنونِ فبادَ
الملك عنه فبابُهُ مهجورُ
ثمَّ أضحَوْا كأنَّهم ورقٌ جفَّ
فألوتْ به الصَّبا والدَّبورُ

وقال لبيد بن ربيعة:

ألا كلُّ شيءٍ ما خَلا الله باطلُ
وكلُّ نعيم لا محالة زائلُ
وكلُّ أُناسٍ سوف يدخل بينهم
دويهيةٌ تَصفرُّ منها الأناملُ
إذا المرءُ أسرَى ليلةً خال أنَّه
قضى عملاً والمرءُ ما عاشَ عاملُ
فقولا له إنْ كانَ يعقل أمرَهُ
ألمَّا يَعظْك الدَّهرُ أمُّك هابلُ

حدَّثنا إسماعيل بن إسحاق قال: حدَّثنا عمرو بن مرزوق قال: أخبرنا شعبة بن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه: إن أصدق بيت قاله الشاعر:

ألا كلُّ شيءٍ ما خَلا الله باطلُ

وقال ابن أبي عيينة:

ما راح يوم علَى حيّ ولا ابتكرا
إلاَّ رأَى عبرة فيه إنْ اعتبرا
ولا أتتْ ساعة في الدَّهر فانصرفتْ
حتَّى تؤثّرَ في قومٍ لها أثرا
إنَّ اللَّيالي والأيَّام إن سُئلتْ
عن عيبِ أنفسها لم تكتم الخبرا

وقال آخر:

أيا عجباً كيفَ يُعصَى الإلهُ
أم كيفَ يَجحده الجاحدُ
ولله في كلِّ تحريكةٍ
وفي كلِّ تسكينةٍ شاهدُ
وفي كلِّ حالٍ لهُ آيةٌ
تدلّ علَى أنَّه واحدُ

وقال أبو العتاهية:

سبحان ذي الملكوت أيَّةُ ليلةٍ
مُخضتْ صبيحتُهُ بيوم الموقفِ
لو أنَّ عيناً وهّمتها نفسها
يوم الحساب مُمثلاً لم يَطرفِ

وإن هذا لمن أحسن كلام قيل في باب التخويف بلاغة في الوعظ وسلامة في اللفظ. وقد قال أبو نواس في باب الأطماع فقارب في هذا المعنى في الجودة وإنْ كان في الحقيقة ضدّه وهو قوله:

ساءَكَ الدَّهرُ بشيءٍ
وبما سرَّكَ أكثرْ
يا كثير الذَّنب عفوُ
الله من ذنبك أكبرْ

ولقد أحسن الذي يقول:

لعمرك ما يدري الفَتَى كيفَ يتَّقي
نوائب هذا الدَّهر أمْ كيفَ يحذَرُ
فمن كانَ ذا عذر لديكَ وحجَّةٍ
فعذري إقراري بأن ليس أعذَرُ

ومن أحسن ما أعرف في هذا المعنى قول محمود الوراق:

إذا كانَ شكرِي نعمة الله نعمة
عليَّ له في مثلها يجب الشُّكرُ
وكيفَ بلوغ الشّكر إلاَّ بفضلهِ
وإنْ طالت الأيَّام واتَّصل العمرُ

فأمَّا ما ذكرناه في هذا الباب من الأشعار الإسلامية فلا حاجة بنا إلى الاحتجاج به، ولا إلى الاعتذار منه. وأمَّا ما حكيناه من الأشعار الجاهلية ففيها لعمري عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن تذكَّر وتدبَّر.

ولأميَّة بن أبي الصلت خاصة ليس لغيره من الشعراء عامة، وإن في تبيّنه الله عزّ وجلّ ما نبّهه عليه وتعريفه إيَّاه ما عرفه من عظمته، ودلَّه عليه من قدرته، ثمَّ في خذلانه له عن الانقياد إلى طاعته، والرجوع إلى شريعته، لدليلاً بيناً على أنَّه ليس لمخلوق مع الخالق أمر ولا اختيار، جلَّ الله عمَّا يقول الملحدون إن في شعر أمية طعناً على الدين من قِبل أنَّه مواطن لبعض ما في القرآن، وموافق لكثير ممَّا في شريعة الإسلام. قالوا: فهذا يدلّ على أن القرآن منه أجدر. ومن معانيه استخرج الله عز وجل تعالى عن قولهم علواً كبيراً. ولو ساعدهم التوفيق على فهم ما اعتقدوه، بل لو صَدَفهم الحياء عن قبح ما انتحلوه، ولاستحيَوا عن ذكر ما ذكر أمية بن أبي الصلت، وإن كان جاهلياً فقد أدرك الإسلام، ومدح النبي - صلى الله عليه - وذلك موجود في شعره، ومفهوم عند أهل الخبرة به. وكيف يتوهم لبيب أوْ يستخبر لبيب أن يهجر عليه عقله أو يحمل نفسه بدعوى ما يتهيأ تكذيبه فيه بأهون السعي من مخالفته، أم كيف يظن بالنبي - صلى الله عليه - أنَّه يأخذ المعاني من أمية وأمية يشهدُ بتصديقه، ويقرُّ بكتابه، ويعزل نفسه عن التأخر بالدخول في ملته، وذلك موجود فيما ذكرناه من شعره وما لم نذكره.

وسنذكر بعض ما مدح به أمية النبي - صلى الله عليه - في بابه إن شاء الله ولا قوَّة إلاَّ بالله.