كتاب الزهرة/الباب الخامس والأربعون من لم يقع له الهوى باكتساب لم ينزجر بالعتاب

​الباب الخامس والأربعون مَنْ لم يقعْ لهُ الهوَى باكتسابٍ لم ينزجرْ بالعتابِ​ المؤلف أبو بكر محمد بن داود الظاهري


الباب الخامس والأربعون مَنْ لم يقعْ لهُ الهوَى باكتسابٍ لم ينزجرْ بالعتابِ

العلَّة في ذلك أنَّ المعاتبة إنَّما هي توقيف على مواضع المصلحة وتبين لما في الحال الَّتي بقي عليها المعاتب من المنقصة فمن كان أصل هواه اختياراً لنفسه فتبيَّن موضع النَّقص في اختياره رجع إلى قول عذَّاله ومن وقع هواه مضطراً بغلبة إلى الانقياد لإلفه لم يعلق العذل بسمعه لأنَّ العذل يأتيه من غير جهته والشَّيءُ لا يوجب زواله إلاَّ ضدُّ ما أوجب ثباته فكما أنَّ الهوَى الاختياريَّ يضادُّه التَّوقيف على مواضع الحال فيوجب على صاحبه أن يختار إزالته فكذلك الهوَى الاضطراريُّ لا يزايله إلاَّ اضطرارٌ يضادُّه والهوَى الاختياريُّ أيضاً على ضعفه لا تمحوه ضروريَّته ولا تعارض في تركه لأنَّها تجيء من غير جهته وهو لا يزول إلاَّ بزوال الجهة الَّتي أوجبته إذْ محالٌ أن يكون شيءٌ علَّةً لشيءٍ فيزول المعلول والعلَّة قائمةٌ.

ولقد أحسن عمر بن ضبيعة الرقاشي حيث يقول:

قضَى اللهُ حبَّ المالكيَّةِ فاصطبرْ
عليهِ فقدْ تجرِي الأُمورُ علَى قدرِ
ألا فليقلْ مَنْ شاءَ ما شاءَ إنَّما
يُلامُ الفتَى فيما استطاعَ منَ الأمرِ

وللبحتري في نحو ذلك:

للحبِّ عهدٌ في فؤادِي لمْ يخنْ
منه السُّلوُّ وذمَّةٌ لمْ تخفرِ
لا أبتغِي بدلاً بسُلمَى خُلَّةً
فلتقتربْ بالوصلِ أوْ فلتهجرِ

وقال يحيى بن منصور:

يلومكَ فيها اللائمونَ كأنَّني
لأمرِ الوشاةِ مستقيدٌ مسلِّمُ
وإنِّي أرَى العينَ الَّتي لا تُنيمُها
إذا جعلتْ عينُ الوشاةِ تُنوِّمُ
فها أنا متروكٌ وبثِّي فإنَّهُ
شتيتٌ بهِ أهواؤهُ متقسِّمُ

ولقد أحسن أبو تمام حيث يقول:

ألمْ ترَني خلَّيتُ عيني وشانَها
ولمْ أحفلِ الدُّنيا ولا حدَثانَها
لقدْ خوَّفتْني النَّائباتُ صروفَها
ولو آمنتْني ما قبلتُ أمانَها
عِنانٌ منَ اللَّذَّاتِ قدْ كانَ في يدي
فلمَّا مضَى الإلفُ استردَّتْ عنانَها
يقولونَ هلْ يبكِي الفتَى لخريدةٍ
متَى ما أرادَ اعتاضَ عَشراً مكانَها
وهلْ يستعيضُ المرءُ مِنْ خَمسِ كفِّهِ
ولو صاغَ مِنْ حرِّ اللُّجينِ بنانَها

وأنشدني أحمد بن يحيى:

لا تلْحِيا في حبِّ ظَبيةَ هائماً
أمسَى بظبيةَ هائماً مشغولا
هَيمانُ يعطشُ بالفراتِ لحبٌّها
ويزيدهُ بردُ الشَّبابِ غَليلا

وقال آخر:

فكادَ يعتبُني في غيرِ فاحشةٍ
بعضِ اتِّباعِ الهوَى والمشربَ الألفُ
يا أيُّها العاذلُ الرَّاجي لأُعتبهُ
ماذا تراكَ منَ التَّلوامِ تَعترفُ
أفي الصِّبى لمتَني أنتَ الفداءُ لهُ
وهلْ عصَى لكَ مِنْ لذَّاتهِ خلَفُ
إذا ذممتَ الصِّبى يوماً فلا ترَني
ممَّنْ يطيعُكَ أوْ يرضَى بما تصفُ
إنَّ القلوبُ إذا نيَّاتها اختلفتْ
فلا تكادُ على الأضغانِ تأتلفُ

وأنشدني أحمد بن يحيى:

وقدْ علمتْ سمراءُ أنَّ حديثَها
فجيعٌ كما ماءُ السَّماءِ فجيعُ
إذا أمرتْكَ العاذلاتُ بصرمِها
هفتْ كبدٌ ممَّا يقُلْنَ صديعُ

وزادني غيره:

وكيف أُطيعُ العاذلاتِ وحبُّها
يورِّقُني والعاذلاتُ هجوعُ

وقال أبو صخر الهذلي:

أرِقتُ ونامَ عنِّي مَنْ يلومُ
ولكنْ لمْ تنمْ عنِّي الهمومُ
كأنِّي مِنْ تذكُّرها أُلاقي
أذًى ما أظلمَ اللَّيلُ البهيمُ
سليمٌ ملَّ منهُ أقرَبوهُ
وعطَّلهُ المُداوي والحميمُ
يلومكَ في مودَّتها رجالٌ
لَوَ انَّهمُ بدائكَ لمْ يلومُوا
قلوبهمُ وأنفسهمْ صحاحٌ
وقلبكَ مِنْ تذكُّرها سقيمُ
فأنتَ وإنْ لحاكَ النَّاسُ فيها
جميعَ النَّاسِ تعصِي أوْ تلومُ

وقال الضحاك بن عقيل الخفاجي:

لقدْ لامَني فيها رجالٌ وقدْ أرَى
مكانَ نساءٍ قدْ مُلئنَ لها حقدا
يُخبِّروني أنِّي سفيهٌ فزادَني
مقالةُ مَنْ قدْ قالَ لي ولَها وَجدا
علَى حبِّها فازددتُ ضعفاً ولم أكنْ
أرَى قبلُ عندِي غيرَ ما استسلفتْ ودَّا

وهذا لعمري من أحسن الكلام وجيده وإن كان في البيت الأخير غلط يسير لأنه زعم أنَّ من ملامهم فيها زاده ضعفاً من محبَّتها والعذل لا يزيد المحبة ولا ينقصها ولكن النَّفس إذا اشتدَّ ضنُّها فغُري العذل بمسامعها عارضها ضربٌ من الإشفاق على حال من عوتبت في محبَّته وخشيت أن يكون العذل مزيلاً له عن مرتبته وكان تحريك خاطرة الضَّنّ بذلك زائدة في القلق ومهيِّجة للفكر فيتوهَّم صاحبها أنَّ محبَّته قد تزايدت وما تزايدت ولا تناقصت وهذا الغلط لم يجر على صاحب هذه الأبيات وحده بل قد جرى على من قبله وبعده.

وقال معاذ ليلى في نحو ذلك:

يقرُّ بعيني قربُها ويَزيدُني
بها عجباً مَنْ كانَ عندِي يعيبُها
وكمْ قائلٍ قد قالَ تُبْ فعصيتهُ
وتلكَ لعمري توبةٌ لا أتوبُها
فيا نفسُ صبراً لستُ واللهِ فاعلَمي
بأوَّلِ نفسٍ غابَ عنها حبيبُها

وقال عمر بن يحيى الطائي:

قالَ العواذلُ لي أينقصُ حبُّها
لا بلْ علَى رغمِ الوشاةِ يزيدُ
تأبَى قرابةُ بينِنا ومودَّةٌ
ولها عليَّ مواثقٌ وعهودُ
طُوِّينَ في حججٍ مضينَ سوالفٍ
حذارَ الوشاةِ فنقضُهنَّ شديدُ
وإذا تعرَّضَ زاجرٌ عنْ حبِّها
قُلنا عليكَ صفائحٌ ولحودُ

وقالت وجيهة بنت أوس:

وعاذلةٍ تغدُو عليَّ تلومُني
علَى الشَّوقِ لمْ تمحُ الصَّبابةَ مِنْ قلبِي
فما ليَ إنْ أحببتُ أرضَ عشيرتِي
وأحببتُ طرفاءَ القُصيبةِ مِنْ ذنبِ

وقال مالك بن حارث الهذلي:

يقولُ العاذلاتُ أكلَّ يومٍ
لسُرُّبةِ مالكٍ عنَقٌ شَناحُ
وقدْ خرجتْ نفوسهمْ فماتُوا
علَى إخوانهمْ وهمُ صحاحُ
ولستُ مقصِّراً ما سافَ مالِي
ولو عُرضتْ لِلَبَّتيَ الرِّماحُ
فلومُوا ما بدَا لكمُ فإنِّي
سأُعتبكمْ إذا انفسخَ المُراحُ

وقال جرير:

إذا ما نمتِ هانَ عليكِ ليلِي
وليلُ الطَّارقاتِ منَ الهمومِ
إذا ما لُمتِني وعذرتُ نفسِي
فلومِي ما بدَا لكِ أنْ تلومِي

وقال القعقاع:

خليليَّ مرَّا بي قليلاً لتؤجَرا
وأنْ تكسَبا خيراً منَ الحمدِ والأجرِ
فقالا اتَّقِ اللهَ العليَّ فإنَّما
تُصلِّيكَ أسبابَ الهوَى لهبُ الجمرِ
فقلتُ أطيعانِي فليسَ عليكُما
حسابِي إذا لاقيتُ ربِّي ولا وِزرِي
عليَّ الذي أجنِي وليسَ عليكُما
وربِّي أولى بالتَّجوُّزِ والغفرِ
أتحرقُني يا ربِّ إنْ عجتُ عَوجةً
علَى رخصةِ الأطرافِ طيِّبةِ النَّشرِ

أما العذل الذي يقع ابتداء فليس على النَّفس منه من المؤونة كما عليها من عذل من أملت عنده من المعونة ولقد كسب هذا البائس على نفسه تعباً كاسراً لمنقلبه ومسقطاً لهمَّته باستدعائه المساعدة من ذكر قصَّته ومن هذا وأشباهه كرهنا للمحبِّ الاطلاع على أسراره ولكن متى غُلب على أمره لم يلم على إفشاء سرِّه.

ولقد أحسن أبو تمام الطائي حيث يقول:

فحْواكَ عينٌ علَى نجواكَ يا مَذِلُ
حتَّامَ لا يتقضَّى قولكَ الخطِلُ
وإنَّ أسمجَ مَنْ تشكُو إليهِ هوًى
مَنْ كانَ أحسنَ شيءٍ عندهُ العذلُ

وقال يزيد بن الطثرية:

تذكَّرتُ ذاتَ الخالِ مِنْ فرطِ حبِّها
ضُحًى والقِلاصُ اليَعمُلاتُ بنا تخدِي
فما ملكتْ عينايَ حينَ ذكرتُها
دموعَهما حتَّى انحدرنَ علَى خدِّي
فأنَّبني صحبِي وقالُوا أمنْ هوًى
بكيتَ ولو كانُوا همُ وجدُوا وجدِي
وقالُوا لقدْ كنَّا نعدُّكَ مرَّةً
جليداً وما هذا بفعلِ فتًى جلدِ
ألا لا تلومُوني فلستُ وإنْ نأتْ
بمُنصرمٍ عنها هوايَ ولا ودِّي
ألمْ تعلَمَا أنَّ الرَّعابيبَ لمْ تزلْ
مَفاتينَ قبلِي للكهولِ وللمُردِ
فإنْ أغوَلا تُكتبْ عليكم غوايَتي
أجلْ لا وإنْ أرشدْ فليسَ لكمْ رُشدي
وإنَّ لِذاتِ الخالِ يا صلحِ زُلفةً
ومنزلةً ما نالَها أحدٌ غيرِي

وقال أيضاً:

ألا يا خليليَّ الَّذينَ تواصَيا
بيَ اللَّومَ إلاَّ أنْ أُطيعَ وأسمعَا
قفا فانظُرا لا بدَّ مِنْ رجعِ نظرةٍ
يمانيَّةٍ شتَّى بها القومُ أوْ معَا
لمُغتصبٍ قد عزَّهُ القومُ أمرهُ
يكفُّ حياءً عبرةً أنْ تطلَّعا
فإنْ كنتمُ ترجونَ أنْ تصرِفوا الهوَى
بِيهمَا ويُروَى في السَّرابِ فينقَعا
فردُّوا هبوبَ الرِّيحِ أوْ غيِّروا الهوَى
إذا حلَّ ألواذَ الحشا فتمنَّعا

وقال ذو الرمة:

أعاذلَ قدْ أكثرتِ مِنْ قيلِ قائلٍ
وعيبٌ علَى ذي اللُّبِّ لومُ العواذلِ
أعاذلَ قد جرَّبتُ في الدَّهرِ ما كفَى
ونظَّرتُ في أعقابِ حقٍّ وباطلِ
فما الدَّهرُ مِنْ خرقاءَ إلاَّ كما أرى
حنينٌ وتذارفُ الدُّموعِ الهواطلِ

وقال عدي بن زيد:

وعاذلةٍ هبَّتْ بليلٍ تلومُني
فلمَّا غلتْ في اللَّومِ قلتُ لها اقصِرِي
أعاذلَ قد أطنبتِ غيرَ مُصيبةٍ
فإنْ كنتِ في غيٍّ فنفسكِ فارْشِدي
أعاذلَ إنَّ الجهلَ مِنْ لذَّةِ الفتَى
وإنَّ المنايا للرِّجالِ بمرصدِ
كفَى حزَناً للمرءِ أيَّامُ دهرهِ
تروحُ لهُ بالواعظاتِ وتغتدِي

وأنشدني أحمد بن يحيى لجميل بن معمر:

يقولونَ مهلاً يا جميلُ وإنَّني
لأُقسمُ ما بي عنْ بُثينةَ مِنْ مهلِ
أحلماً فقبلَ اليومِ كانَ أوانهُ
أَمَ اخشَى فقبلَ اليومِ أُوعدتُ بالقتلِ

وقال آخر:

تقولُ العاذلاتُ تعزَّ عنها
وداوِ غليلَ قلبكَ بالسُّلوِّ
وكيفَ ونظرةٌ منها اختلاساً
ألذَّ منَ الشَّماتةِ بالعدوِّ

وقال الطائي:

أذكتْ عليكَ شهابَ نارٍ في الحشا
بالعذلِ وهناً أُختُ آلِ شهابِ
عذلاً شبيهاً بالجنونِ كأنَّما
قرأتْ بهِ الورهاءُ نصفَ كتابِ

وقال البحتري:

طفقتْ تلومُ وَلاتَ حينَ ملامهِ
لا عندَ كرَّتهِ ولا إحجامهِ
لمْ يروِ مِنْ ماءِ الشَّبابِ ولا انجلتْ
ذهبيَّةُ الصَّبَواتِ عنْ أيَّامهِ

وقال آخر:

مِنْ أجلكِ ظلَّ العائداتُ يلُمْنني
ويزعمنَ أنِّي في طلابكِ عانِي
ويرفدْنني نصحاً زعمنَ وإنَّهُ
لَفي حرجٍ مَنْ لامَني ونَهانِي

وقال آخر:

أترانِي تاركاً باللهِ
ما أقوَى لِما أهوَى
أنا أشهدُ أنَّ الحبَّ
مِنْ قلبِي إذنْ دعوَى

وذكروا أنَّ العتبي حبس ابناً له في بيتٍ لمَّا ظهر على أنَّه عاشق ليكون الحبس رادعاً له ففتح الباب عنه بعد مدَّة فوجده قد كتب على الحائط:

أتظنُّ ويحكَ أنَّني أبلَى
وأُطيعُ في الهوَى عقلا

ومدَّ الحرف الأخير مع استدارة حائط البيت أجمع فلمَّا نظر أبوه إلى ذلك يئس منه فخلَّى سبيله.

وقال آخر:

يلومكَ فيها اللاَّئمونَ نصاحةً
فليتَ الهوَى باللاَّئمينَ مكانِيا
لَوَ انَّ الهوَى عنْ حبِّ ليلَى أطاعني
أطعتُ ولكنَّ الهوَى قدْ عصانِيا

وهذا الكلام لا يكون إلاَّ عن حال ضعيفة أو بعقب ضجرةٍ شديدةٍ لأنَّ صاحبه لم يرضَ بالتَّبرُّم من هواه حتَّى ضمَّ إلى ذلك تمنِّي انصراف الحال إلى سواه وأحسن من هذا قولاً وأجمل منه فعلاً الذي يقول:

تشكَّى المحبُّونَ الصَّبابةَ ليتَني
تحمَّلتُ ما يلقَوْنَ مِنْ بينِهم وحدِي
وكانتْ لنفسِي لذَّةُ الحبِّ كلُّها
فلمْ يلقَها قبلِي محبٌّ ولا بعدِي

وأحسن مجنون بني عامر حيث يقول:

وقالُوا لوْ تشاءُ سلوتَ عنها
فقلتُ لهمْ فإنِّي لا أشاءُ
لها حبٌّ تمكَّنَ مِنْ فؤادِي
فليسَ لهُ وإنْ زُجر انتهاءُ

وقال آخر:

يقولونَ لي اصبرْ وائْتجرْ قلتُ طالَما
صبرتُ ولكنْ لا أرَى الصَّبرَ ينفعُ
فيا ليتَ أجرِي كانَ قسِّمَ بينهمْ
ومِنْ دونِيَ الصَّمانُ فالخبتُ أجمعُ

ولبعض أهل هذا العصر:

يُعاتبُني أُناسٌ في التَّصابِي
بألبابٍ وأفئدةٍ صحاحِ
إذا اختلطَ الظَّلامُ وهمْ سُكارَى
بكاساتِ الرُّقادِ إلى الصَّباحِ
ولِي سُكرٌ يُجنِّبني رُقادِي
فما أدرِي الغدوَّ منَ الرَّواحِ
أمَا لي في بلادِ اللهِ بابٌ
يؤدِّيني إلى سبلِ النَّجاحِ
بلَى في الأرضِ متَّسعٌ عريضٌ
ولكنْ قدْ مُنعتُ منَ البراحِ
وما يُغنِي العقابَ عيانُ صيدٍ
إذا كانَ العقابُ بلا جناحِ