الباب السابع والستون ذكر ما يجعل من الاستبطاء مقدمة بين يدي الهجاءأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب السابع والستون ذكر ما يجعل من الاستبطاء مقدمة بين يدي الهجاء
حدثني أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن حبيب الحارثي قال: حدثنا وهب يعني ابن جرير عن جويرية، حدثنا نافع أنَّه كان تحت منبر ابن الزبير، يوم دعا إلى نفسه، وحدثني أن أبا حُرّة الأسلمي صاحب العبا، كان رجلاً من الموالي شاعراً شجاعاً مقاتلاً فقام إليه فقال: يا ابن الزبير ما سفكنا الدماء، ولا قاتلنا النَّاس إلاَّ في ملكك، قال: فمن تبغون سواي؟ قال: فهل انتظرت حتَّى نكون نحن ندعوك ففارقه ثمَّ أنشأ يقول:
إن الموالي أمست وهي عاتبةٌ
علَى الخليفة تشكو الجوع والحربا
ماذا علينا وماذا كان يرزؤنا
أيُّ الملوك علَى ما حوله غَلبا
نُعاهدُ الله عهداً لا نخيس به
لا نسأل الدَّهر شورى بعدما ذهبا
وذكروا أن رجلاً من بني ضَبَّة دخل علَى عبد الملك بن مروان فقال: السلام عليك:
والله ما ندري إذا ما فاتنا
طلبٌ إليكَ من الَّذي نتطلَّبُ
ولقد طلبنا في البلاد فلم نجد
أحداً سواك إلى المكارم يُنسبُ
فاصبر لغادتك الَّتي عوَّدتنا
أو لا فأرشِدْنا إلى منْ نذهبُ
قال: لا أجد. وأمر له بألف دينار وانصرف. فلما حال عليه الحول رجع وهو يقول:
يؤوب الَّذي يأتي من العرف أنَّه
إذا فعلَ المعروف زادَ وتمما
وليس كبانٍ حين تمّم مثلها
تتبعهُ بالنقص حتَّى تهدَّما
فأمر له بألفي دينار فانصرف. ولقد أحسن الَّذي يقول وهو يزيد بن محمد المهلبي:
رأى النَّاس فوق المجد مقدار مجدكم
فقد سألوكم فوق ما كان يُسألُ
بلغتَ الَّذي قد كنت أمّلتُ فيكمُ
وإن كنتُ لم أبلغ لكم ما أؤمِلُ
وما لي حقّ واجبٌ غير أنَّني
إليكم بكم في حاجتي أتوسَّلُ
وقال آخر:
ومن يكُ مفتاحاً لخير يُريدهُ
فإنك قفلٌ يا سعيدُ بنُ خالدِ
أبيتَ فلا تُعطي ولا أنت مانع
كأنك منها بين سُخنٍ وباردِ
وقال إبراهيم بن العباس الكاتب:
إن امرءاً ضنَّ بمعروفه
عنّي لمبذولٌ له عُذري
ما أنا بالراغب في عرفه
إذْ كان لا يرغبُ في شكري
وأنشدنا أحمد بن طاهر لنفسه:
طوى شيماً كانت تروح وتغتدي
وسائلَ من أعيت عليه وسائلُهْ
فيا عارضاً للعرف أقلع مُزْنُه
ويا وارداً للسيل جُفَّت مسايلُهْ
ولكنني أطوي الحسام إذا مضى
وإن كان يوم الروع غيري حاملُه
وأثني علَى جَيحانَ إنْ غاض ماؤه
وإنْ كان ذوداً غير ذودي ناهلُهْ
وله أيضاً:
ما ماء كفّك إنْ جادت وإنْ بخلتْ
من ماء وجهي وإن أفْنيتُه عِوَضُ
إنِّي بأيسرَ ما أدْنيتُ مُنبسطٌ
كذا بأيسرَ ما أقصيتُ مُنْقَبضُ
من أشتكي وإلى من أعتري وندى
من أجتدي كلُّ أمر فيك مُنتقضُ
مودَّةٌ ذهب أثمارُها شُبَهُ
وهمهُ جوهرُ معروفها عَرضُ
وله أيضاً:
نأيتُ فلا مالٌ حويتُ ولم أقم
فأمتَع إذْ فُجعتُ بالمال والأهلِ
بَخلتُ علَى عرضي بما فيه صونُه
رجاءَ اجتناءِ الجود من شجر البُخل
عصَيتُ شبا عزمي لطامةِ حيرةٍ
دعتني إلى أن أفتح القُفل بالقُفلِ
عِدات كرَيْعان السراب إذا جرى
تُنَسّر عن منعٍ وتُطوى علَى مطلِ
فلو شاء من لو شاءَ لم يثْن أمره
لصيَّر فضل المال عند ذوي الفضل
ولو أنَّني أعطيتُ يأسي نصيبَهُ
إذن لأخذتُ الدَّهر من مأخذ سهلِ
ولم يكُ ما جرَّعتُ نفسي من الأسى
ولم يكُ ما جرَّعت قومي من الثُكلِ
وله أيضاً:
فأين قصائدٌ لي فيك تأبى
وتأنَفُ أن أهانَ وأن أُذالا
من السحر الحلال لمجتنيه
ولم أرَ مثلَهُ سحراً حلالا
وله أيضاً:
ما أملي فيك بالضعيف ولا
ظنِّي في نجْمهِ بمكذوبِ
ولا قبولي ما كنت جُدْتَ به
عليَّ بالأمس خُلسةَ الذيبِ
أقلُّ إخوانكَ الحميد غِنًى
وأكثرُ الماء غيرُ مشروبِ
لي أملٌ دائم الوقوفِ علَى
مُنتظر من جَداك مرقوبِ
وهِمَّةٌ ما تزالُ حائمةً
حول رواقٍ عليك مضروبِ
فكيف ألجأتني إلى الأمد الأب
عد من يوسف بن يعقوبِ
المانعي اليأسَ من بخالتِهِ
والموسعي من عِدات عُرقوبِ
لستُ علَى غِرَّةٍ بمُشْتملٍ
ولا إلى مطمع بمنسوبِ
ولا لمثلي في القولِ منك رِضاً
والقول في المجد غيرُ محسوبِ
أما نوالٌ يُدنيكَ من مِدَحي
أوْ اعتذار يكفيك تأنيبي
وقال علي بن الجهم:
أطاهر إنِّي عن خراسان راحل
ومُسْتخبَرٌ عنها فما أنا قائل
أأشكوك أم أثني عليك وإنَّما
تخيَّرتُ أدَّته إليك المحافل
ومن أحسن ما قيل في الاستيطاء لعطاء وألطفه معنى قول البحتري: