كتاب الزهرة/الباب السادس والثمانون ذكر من ارتجل شعرا لم يقدم له قبل ذلك فكرا


الباب السادس والثمانون ذكر من ارتجل شعراً لم يقدم له قبل ذلك فكراً

حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثني حفص بن الأروع الطائي قال: كنتُ أسيرُ في بلاط طي، فرأيت جاريةً تسوق أعنزاً لها فقلت: يا جارية، أي البلاد أحبُّ إليك، فقالت:

أحبُّ بلاد الله ما بين منعجٍ
إليَّ وسلمى أن يصوبَ سحابُها
بلادٌ بها حلّ الشَّباب تمائمي
وأطيبُ أرضٍ مسَّ جلدي ترابها

وأنشدتني أمُّ الجحاف الطائية ببلاط طي:

بلادٌ بها أدركت جدي ووالدي
وأطيب أرضٍ مسَّ جلدي ترابُها

وذكر أن جميلاً وكثيّراً وعمر بن أبي ربيعة اجتمعوا يوماً عند عبد الملك ابن مروان، فأوقرت ناقة ورقاء، ثمَّ قال: ليقلْ كلُّ واحدٍ منكم أبياتاً في الغزل، فأيّكم كان قوله أحسن فهي له، قال جميل:

حلفت يميناً يا بُثينةُ صادقاً
فإن كنتُ فيها كاذباً فعميتُ
حلفتُ لها والبُدن تدمى نحورها
لقد شقيت نفسي بها وعنيتُ
ولو أن جلداً غير جلدك مسَّني
وباشرني تحت اللّحاف شريتُ
ولو أن داعي الموت يدعو جنازتي
بمنطقكم في الناطقين حييتُ

وقال كثيّر:

بأبي وأمّي أنت من معشوقةٍ
فطِنَ العدو لها فغُيِّر حالُها
وسعى إليَّ بعيب غرّة نسوةٌ
جعل الإله خدودهنَّ نِعالُها
ولو أن عزّة خاصمت شمس الضُّحى
في الحسن عند موفّق لقضى لها

وقال عمر بن أبي ربيعة:

ألا ليتَ أنِّي حين تدنو جنازتي
شممتُ الَّذي ما بين عينيك والفمِ
وليت طهوري كان ريقُك كلُّهُ
وليت حنوطي من مشاشك والدّمُ
وليت سُلَيْمَى في المنام ضجيعتي
أعانقُها في جنَّةٍ أوْ جهنّمِ

فقال عبد الملك: يا صاحب جهنّم دونك الناقة بما عليها، وذكروا أن عبد الملك ابن مروان جمع بين جرير والفرزدق، وأمر بناقة فأوقرت، وقال: أيكما أقام الناقة ببيت من شعر فهي له. فقال الفرزدق:

أُنيخُها ما بدا لي ثمَّ أبعثها
كأنها نقنقٌ يهوى بصحراءِ

فلم تقم الناقة فقال جرير:

أُنيخُها ما بدا لي ثمَّ أبعثها
ترخي المشافر واللحيين إرخاءُ

وزجر الناقة بآخر البيت، فوثبت، فدفعها عبد الملك إليه.

واجتمعا أيضاً فقال جرير:

أنا القطران والشعراء جربى
وفي القطران للجرب الشفاءُ

فقال الفرزدق:

فإن تكُ أنت قطراناً فإنِّي
أنا الطّاعون ليس له دواءُ

فقال جرير:

أنا الموت الَّذي لا بدَّ منه
وليس لهارب منه نجاءُ

وحدثني أبو طالب الدمشقي بإسناد ذكره: أن الفرزدق وجريراً اصطحبا، فعطف جرير ناقته ليبول، وتخلَّف، وحنَّت ناقة الفرزدق فقال:

علام تَلفتين وأنت تحتي
وخير النَّاس كلهم أمامي
مَتَى تأتي الرصافة تستريحي
من الأدلاج والدُّبر الدوامي

ثمَّ قال: كأنك يا ابن المراغة قد تسمع بهذين البيتين فقال:

تلفّتُ إنَّها من تحت قَيْن
برأس الكير والفأس الكهامِ
مَتَى تأتي الرصافة تخز فيها
كخزيك في المواسم كلَّ عامِ

فلحقهم جرير فقال: الروية يا أبا حَرْزة، ما سمعت ما قال أخوك أبو فراس فأنشده البيتين، فأطرق جرير ثمَّ جاء بالبيتين فقال راويتهما لعنكما الله من شيطانين يعلم كل واحد منكما ما في نفس صاحبه.

وبلغني أن الفرزدق مرَّ وهو شاربٌ بامرأة فتعقل في سراويله، فالتفتت المرأة إلى أخرى فقالت: انظري هذا الشيخ، كيف يتعقل في سراويله، فالتفت إليهما فقال:

وأنت لو باكرت مشمولةً
صهباءَ مثل الفرس الأشقر
رحت وفي رجليك عُقّالةٌ
وقد بدا هَنْكِ من المئزر

وبلغني عن بعض أهل الأدب أنَّه قال: كنتُ عند عُمارة، فدخل ابن عتبة فقال: ألا أعجبكم، قلنا: بلى، قال: أنَّه مرَّت بي الساعة امرأة وكانت مُنتقبة، فلما دنت منّي حدرت خمارها لأنظر إليها فرأيتها فاستبشعت خلقتها، فقطبت وجهي فقالت: يا شيخ، ألا يعجبك الملاح، قلت: بلى، ثمَّ قلت:

ويعجبني الملاحُ وكلُّ دلّ
ولكن لا أراك من الملاحِ
ولكن المليحةَ مثل بدرٍ
إذا سفرت وأنتِ من القباحِ

فخجلت وانصرفت. وذكر أن الحجاج جلس للمعزين لما مات ابنه وأخوه، وكان بين موتهما جمعة، ووضع بين يديه مرآة، وولَّى النَّاس ظهره، وقعد في مجلسه فكان ينظر إلى ما يصنعون، فدخل الفرزدق، فلما نظر إلى فعل الحجاج ضحك، فلما رأى الحجاج ذلك منه، قال: أتضحك، وقد هلك المحمدان، فأنشأ الفرزدق يقول:

لئن جزع الحجاج ما من مُصيبةٍ
تكون لمحزون أجلَّ وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم
خليله إذْ باتا جميعاً فودّعا
أخاً كان أغنى أعين الأرض كلها
وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا
جناحا عقاب فارقاه كلاهما
ولو نزعا من غيره لتضعضعا
سمّيا نبي الله سمّاهما به
أبٌ لم يكن عند النوائب أخضعا

قال إسحاق الموصلي: كان قتادة بن معرب اليشكري وزياد الأعجم عند المغيرة بن المهلب، فتهاجيا، فأمر المغيرة فوجي عنق قتادة ومُزقت عليه ثيابه:

لعمرك ما الديباج خرّقتَ وحدَه
ولكنما خرَّقت جلد المُهلَّب
فما شان عرض المرء غيرُ قصيدةٍ
يُسار بها في كلِّ شرق ومغرب
وإنَّ يدي رهْنٌ لكم بقصيدةٍ
تكون عليكم كالحريق المُهلَّب

وكان عبد الله بن العباس يمر في بعض الطريق وهو معتمد على بعض ولده فلقيه قوم فلحظوه فأنشأ ابنه يقول:

نظروا إليك بأعين محمرّةٍ
نظر التيوس إلى شفار الجازرِ
خزر العيون منكسي أبصارهم
نظر الذليل إلى العزيز القاهرِ
أحياؤهم عارٌ علَى موتاهم
والميتون فضيحة للغابرِ

وبلغني عن عنان جارية الناطفي أن مولاها ضربها فبكت، وحضرها بعض الشعراء فقال:

بكت عنان فجرى دمعُها
كلؤلؤ ينسل من خيطه

فقالت من وقتها:

كذاك من يضربها ظالماً
تجفُّ يُمناه علَى سَوْطه

وحدثني محمد بن الخطاب الكلابي، قال: حدثت عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: قدم علينا أعرابيّ فجالسناه فقال: دعا القتال الكلابي رجل يدعى أبا سفيان إلى وليمة فانتظره من غده فلم يأتِ رسوله فأنشأ القتال يقول:

وإن أبا سفيان ليس بمولمٍ
بخير فهابي فقرة من حوارك

قال فقلت: أتحب أن أزيدك بيتاً، قال: نعم، فأنشدته:

فبيتك خيرٌ من بيوت كثيرةٍ
وقدرك خيرٌ من وليمة جارك

فقال الأعرابي: والله لقد أتيت بها بعد ما تعرف الورد، وأنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله، وما يُلام الملوك على اصطفائهم لك، وإدنائهم إياك، ولو كان الشَّباب يشترى لاشتريته لك بثمن.

وقف أعرابيّ على الحسين بن علي رضوان الله عليه في المسجد الحرام وحوله حلقة فقال لبعض جلسائه: من هذا الرجل، فقال: الحسين بن علي، فقال إياه أردتُ، فقال: وما تصنع به يا أعرابيّ فقال: بلغني أنهم أهل بيت حكمة، وأنهم يتكلمون فيعربون في كلامهم وإنِّي قد قطعت بوادي وقفاراً، وأودية، وجئت لأطارحهُ الكلام، وأسأله عن عويص العربية فقال له: إن كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب، وأومأ بيده إلى الحسين بن علي، فوقف عليه الأعرابي، فسلَّم، فرد السلام ثمَّ قال: ما حاجتك يا أعرابي، فقال: إنِّي قد جئتك من الهرقل والجُعلل والأيتم والهيهم فتبسم الحسين وقال: يا أعرابيّ لقد تكلمت بكلام لا يعقله إلاَّ العالمون. قال الأعرابي: وأقول أكثر من هذا فهل أنت مُجيبي على قدر ذلك فقال الحسين: قل ما شئت، فإنِّي مجيبك عنه، فقال الأعرابي: أنا بدوي، وأكثر مقالاتي الشعر، وهو ديوان العرب، فقال له الحسين: قل ما شئت فإنِّي مجيبك عنه فأنشأ الأعرابي يقول:

هفا قلبيَ للّهو
وقد ودَّع شَرخيه
وقد كان أنيق ال
غصن جرّاري ذيليه
عُلالات ولذاتٌ
فيا سقيا لعصريه
فلما عمَّمَ الشيبُ
من الرأس بطاقيه
وأمسي قد عنا
ني منذُ تجداد خضابيه
تسلَّيت عن اللّهو
وألقيت بُعاعيه
وفي الدَّهر أعاجيبٌ
لمن يلبس حاليه
فلم يعلم ذوو رأي
أصيل فيه رأييه
لألفى عبرةً منه
له في كرّ يوميه

فقال الحسين: قد قلتَ فأحسنت، فاسمع منّي فقال:

فما رَبْعٌ شجاني ق
د محا آيات رسميه
ومور حرجف تترى
علَى تلبيد نُؤييه
رأى مثعنجر الود
ق يجودُ من خلاليْه
وقد أحمد برقاه
فلا ذمَّ لرعديه
وقد جلجل رعداه
فلا ذم لبرقيه
ثجيج الرعد ثجّاجٌ
إذا أرخى نطاقيه
فأضحى دارساً قفراً
ليبنونة أهليه

فقال الأعرابي: تالله ما رأيت كاليوم مثل هذا الغلام، وأغرب منه كلاماً، ولا أذرب منه لساناً، ولا أفصح منه منطقاً، فالتفت إليه الحسين فقال: يا أعرابيّ:

هذا غلام كرَّم الرح
من بالتطهير جدَّيه
كساه القمر القمقام
من نور سنائيه
ولو أعذر طمّاحٌ
فضحنا عن عذاريه
وقد أرضيت عن شعري
وقوَّمت عَروضيه

فقال الأعرابي: بارك الله فيكما، فوالله لقد أتيتكما وأنا مُبغضٌ لكما، وانصرفت وأنا محب لكما، راضٍ عنكما، فجزاكما الله عنِّي خيراً ثمَّ انصرف.

وبلغني أن الحارث بن حلزةً اليشكري اعتمد على سيَّة قوسه حتَّى نفذت في كفه، وهو لا يشعر بذلك، لاشتغال فكره، حتَّى فرغ من ارتجال القصيدة الَّتي يقول فيها:

آذنتنا ببينها أسماءُ
ربّ ثاوٍ يُملُّ منه الثّواءُ
بعد عهدٍ لها ببرقة شما
ء فأدنى ديارها الخلصاءُ
لا أَرَى من عهدت فيها فأبكي
أهل ودّي وما يردُّ البكاءُ
أوقدت نارها بجنبي حر
ورات فأيهات منها الصبّاءُ
غير أنِّي قد أستعين علَى ال
همِّ إذا خفَّ بالثويِّ النَّجاءُ
وتعاليت فاستعنت بجلمود أم
ور فيها لناجٍ نجاءُ
أتلاقي بها الهواجر إذْ ك
ل ابن همٍّ بليَّةٌ عمياءُ
وفعلنا بكم كما قدر الله
وما أن للحائنين دماءُ
وزعمتم أن كل من ضرب ال
عير موالٍ لها وأنَّى الولاءُ
مثلهم يخرج الجموع من ال
غلاق لا رأفة ولا إبقاءُ
وثمانون من تميم بأيديهم
رماحٌ صدورهنَّ القضاءُ
لا يقيم العزيز بالبلد السوء
ولا ينفع الخليَّ الخلاءُ
جمعوا أمرهم بليلٍ فلمّا
أصبحوا أصبحت لهو غوغاءُ
فحملناهم بطعنٍ كما تنهز
في جُمة الطوي الدِّلاءُ
وثنيناهم بضرب كما يخرج
من خربة المزاد الماءُ
ورقدنا ببيت غسان فالمنذر
كرهاً إذْ لا تكال الدماءُ
مثلهم تخرج النصيحة لل
قوم فلاةٌ من دونها أفلاءُ
إذْ رفعنا الجمال من سعف البحر
ين سيراً حتَّى تناهى القضاءُ
وهزمنا جموع أم قطامٍ
وله فارسية خضراءُ
ثمَّ ملنا علَى تميم فأحرمنا
وفينا من كل حيٍّ إماءُ
وأكلنا بذلك النَّاس حتَّى
ملك المنذر بن ماء السَّماءُ
ملك أضلع البرية ما يو
جد فيه لما لديه كفاءُ
أيها الشانئ المرقش عنّا
عند عمرٍو فما له إبقاءُ
لا تهنّا بما فرشت فإنّا
طال ما قد وشى بنا الأعداءُ
فبقينا علَى الشناءة تنمي
نا حدود أعزة قعساءُ

في أبيات عدة من هذه القصيدة فيها تمام الباب، تركناها لشهرتها.

وهذه القصيدة وإن كانت من السبع الجارية على ألسن الصبيان والمبتدئين، فلم يمنع ذلك من ذكرنا للأدباء والمتأدبين، وإنَّما غرضنا من هذا الباب أن نذكر ما ارتجل من الأشعار الَّتي لم تجرِ رياضتها في الادِّكار، فإذا أضربنا عن ذكرها، وهي من خير ما ذكرناه، كان غلطاً في التأليف، وهجنة على صاحب التصنيف، وعلى أنّا لم نرسم منها إلاَّ قليلاً من كثير، ولم ندع ما تركناه منها رغبةً عنها، غير أن الباب لا يسعه. ولعلي بن جبلة قصيدة ارتجلها بحضرة أبي دلف من وقته، وذلك أنَّه دخل عليه في الشعراء، ولم يكن أعدَّ له من نحو ما أعدوه، وهي الَّتي يقول فيها:

ريعت لمنشور علَى مفرقةٍ
ذُمّ لها عهد الصبا حين انتسب
أشرقن في أسود أزرين به
كان دُجاه لهوى البيض سبب
فنازل لم يبتهج بقربه
وذاهبٌ ألقى جوًى حين ذهب
كان الشَّبابُ لمَّة أبهى بها
وصاحباً حرّاً عزيز المصطحب
إذْ أنا أُجري سادراً في غيِّه
لا أعتب الدَّهر إذا الدَّهر عتب
أبعد شأو اللَّهو في أترابه
وأقصدُ الخَوْدَ وراء المحتجب
ثمَّ انقضى ذاك كأنْ لم تُغنِه
وكل مغنى فإلى يوم عطب
فحمّل الدَّهر ابن عيسى قاسماً
ينهضْ به أبلج فرَّاج الكُرَب
تكادُ تُبدي الأرض ما تضمره
إذا تداعت خيله هلاّ وهب
ويستهلُّ أملاً وخيفةً
بينهما إذا استهلّ أوْ خطب
يا زهرة الدُّنيا ويا باب النَّدَى
ويا مجير الرّعب من يوم الرهب
خذها امتحاناً من مليء بالثنا
لكنه غيرُ مليءٍ بالنشب

وفي هذه القصيدة أبيات في وصف الفرس مقدمة على أكثر ما في نحوها، وقد ذكرناها في بابها، فكرهنا إعادتها. وعلي بن جبلة هذا هو المعروف بالعكوك، وهو جيد الذكر، مُستعذب الشعر، حسن البديهة والروية.

وبلغني أن أبا دلف قال له: إنَّما تحسن أن تمدح، ولا تحسن أن تهجو. فقال له: الهجاء هدم، والمدح بناء، ومن يُحسن البناء، يُحسن الهدم، فلم يقبل القاسم ذلك منه فقال:

أبا دُلفٍ يا أكذبَ النَّاس كلهم
سواي فإنِّي في مديحك أكذُب

فقال له: ويلك، أسمع هذا منك، قال: لا، قال: فلا تسمعه أحداً.




هامش