كتاب الزهرة/الباب السادس والثمانون ذكر من ارتجل شعرا لم يقدم له قبل ذلك فكرا
الباب السادس والثمانون ذكر من ارتجل شعراً لم يقدم له قبل ذلك فكراً
حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثني حفص بن الأروع الطائي قال: كنتُ أسيرُ في بلاط طي، فرأيت جاريةً تسوق أعنزاً لها فقلت: يا جارية، أي البلاد أحبُّ إليك، فقالت:
وأنشدتني أمُّ الجحاف الطائية ببلاط طي:
وذكر أن جميلاً وكثيّراً وعمر بن أبي ربيعة اجتمعوا يوماً عند عبد الملك ابن مروان، فأوقرت ناقة ورقاء، ثمَّ قال: ليقلْ كلُّ واحدٍ منكم أبياتاً في الغزل، فأيّكم كان قوله أحسن فهي له، قال جميل:
وقال كثيّر:
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فقال عبد الملك: يا صاحب جهنّم دونك الناقة بما عليها، وذكروا أن عبد الملك ابن مروان جمع بين جرير والفرزدق، وأمر بناقة فأوقرت، وقال: أيكما أقام الناقة ببيت من شعر فهي له. فقال الفرزدق:
فلم تقم الناقة فقال جرير:
وزجر الناقة بآخر البيت، فوثبت، فدفعها عبد الملك إليه.
واجتمعا أيضاً فقال جرير:
فقال الفرزدق:
فقال جرير:
وحدثني أبو طالب الدمشقي بإسناد ذكره: أن الفرزدق وجريراً اصطحبا، فعطف جرير ناقته ليبول، وتخلَّف، وحنَّت ناقة الفرزدق فقال:
ثمَّ قال: كأنك يا ابن المراغة قد تسمع بهذين البيتين فقال:
فلحقهم جرير فقال: الروية يا أبا حَرْزة، ما سمعت ما قال أخوك أبو فراس فأنشده البيتين، فأطرق جرير ثمَّ جاء بالبيتين فقال راويتهما لعنكما الله من شيطانين يعلم كل واحد منكما ما في نفس صاحبه.
وبلغني أن الفرزدق مرَّ وهو شاربٌ بامرأة فتعقل في سراويله، فالتفتت المرأة إلى أخرى فقالت: انظري هذا الشيخ، كيف يتعقل في سراويله، فالتفت إليهما فقال:
وبلغني عن بعض أهل الأدب أنَّه قال: كنتُ عند عُمارة، فدخل ابن عتبة فقال: ألا أعجبكم، قلنا: بلى، قال: أنَّه مرَّت بي الساعة امرأة وكانت مُنتقبة، فلما دنت منّي حدرت خمارها لأنظر إليها فرأيتها فاستبشعت خلقتها، فقطبت وجهي فقالت: يا شيخ، ألا يعجبك الملاح، قلت: بلى، ثمَّ قلت:
فخجلت وانصرفت. وذكر أن الحجاج جلس للمعزين لما مات ابنه وأخوه، وكان بين موتهما جمعة، ووضع بين يديه مرآة، وولَّى النَّاس ظهره، وقعد في مجلسه فكان ينظر إلى ما يصنعون، فدخل الفرزدق، فلما نظر إلى فعل الحجاج ضحك، فلما رأى الحجاج ذلك منه، قال: أتضحك، وقد هلك المحمدان، فأنشأ الفرزدق يقول:
قال إسحاق الموصلي: كان قتادة بن معرب اليشكري وزياد الأعجم عند المغيرة بن المهلب، فتهاجيا، فأمر المغيرة فوجي عنق قتادة ومُزقت عليه ثيابه:
وكان عبد الله بن العباس يمر في بعض الطريق وهو معتمد على بعض ولده فلقيه قوم فلحظوه فأنشأ ابنه يقول:
وبلغني عن عنان جارية الناطفي أن مولاها ضربها فبكت، وحضرها بعض الشعراء فقال:
فقالت من وقتها:
وحدثني محمد بن الخطاب الكلابي، قال: حدثت عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: قدم علينا أعرابيّ فجالسناه فقال: دعا القتال الكلابي رجل يدعى أبا سفيان إلى وليمة فانتظره من غده فلم يأتِ رسوله فأنشأ القتال يقول:
قال فقلت: أتحب أن أزيدك بيتاً، قال: نعم، فأنشدته:
فقال الأعرابي: والله لقد أتيت بها بعد ما تعرف الورد، وأنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله، وما يُلام الملوك على اصطفائهم لك، وإدنائهم إياك، ولو كان الشَّباب يشترى لاشتريته لك بثمن.
وقف أعرابيّ على الحسين بن علي رضوان الله عليه في المسجد الحرام وحوله حلقة فقال لبعض جلسائه: من هذا الرجل، فقال: الحسين بن علي، فقال إياه أردتُ، فقال: وما تصنع به يا أعرابيّ فقال: بلغني أنهم أهل بيت حكمة، وأنهم يتكلمون فيعربون في كلامهم وإنِّي قد قطعت بوادي وقفاراً، وأودية، وجئت لأطارحهُ الكلام، وأسأله عن عويص العربية فقال له: إن كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب، وأومأ بيده إلى الحسين بن علي، فوقف عليه الأعرابي، فسلَّم، فرد السلام ثمَّ قال: ما حاجتك يا أعرابي، فقال: إنِّي قد جئتك من الهرقل والجُعلل والأيتم والهيهم فتبسم الحسين وقال: يا أعرابيّ لقد تكلمت بكلام لا يعقله إلاَّ العالمون. قال الأعرابي: وأقول أكثر من هذا فهل أنت مُجيبي على قدر ذلك فقال الحسين: قل ما شئت، فإنِّي مجيبك عنه، فقال الأعرابي: أنا بدوي، وأكثر مقالاتي الشعر، وهو ديوان العرب، فقال له الحسين: قل ما شئت فإنِّي مجيبك عنه فأنشأ الأعرابي يقول:
فقال الحسين: قد قلتَ فأحسنت، فاسمع منّي فقال:
فقال الأعرابي: تالله ما رأيت كاليوم مثل هذا الغلام، وأغرب منه كلاماً، ولا أذرب منه لساناً، ولا أفصح منه منطقاً، فالتفت إليه الحسين فقال: يا أعرابيّ:
فقال الأعرابي: بارك الله فيكما، فوالله لقد أتيتكما وأنا مُبغضٌ لكما، وانصرفت وأنا محب لكما، راضٍ عنكما، فجزاكما الله عنِّي خيراً ثمَّ انصرف.
وبلغني أن الحارث بن حلزةً اليشكري اعتمد على سيَّة قوسه حتَّى نفذت في كفه، وهو لا يشعر بذلك، لاشتغال فكره، حتَّى فرغ من ارتجال القصيدة الَّتي يقول فيها:
في أبيات عدة من هذه القصيدة فيها تمام الباب، تركناها لشهرتها.
وهذه القصيدة وإن كانت من السبع الجارية على ألسن الصبيان والمبتدئين، فلم يمنع ذلك من ذكرنا للأدباء والمتأدبين، وإنَّما غرضنا من هذا الباب أن نذكر ما ارتجل من الأشعار الَّتي لم تجرِ رياضتها في الادِّكار، فإذا أضربنا عن ذكرها، وهي من خير ما ذكرناه، كان غلطاً في التأليف، وهجنة على صاحب التصنيف، وعلى أنّا لم نرسم منها إلاَّ قليلاً من كثير، ولم ندع ما تركناه منها رغبةً عنها، غير أن الباب لا يسعه. ولعلي بن جبلة قصيدة ارتجلها بحضرة أبي دلف من وقته، وذلك أنَّه دخل عليه في الشعراء، ولم يكن أعدَّ له من نحو ما أعدوه، وهي الَّتي يقول فيها:
وفي هذه القصيدة أبيات في وصف الفرس مقدمة على أكثر ما في نحوها، وقد ذكرناها في بابها، فكرهنا إعادتها. وعلي بن جبلة هذا هو المعروف بالعكوك، وهو جيد الذكر، مُستعذب الشعر، حسن البديهة والروية.
وبلغني أن أبا دلف قال له: إنَّما تحسن أن تمدح، ولا تحسن أن تهجو. فقال له: الهجاء هدم، والمدح بناء، ومن يُحسن البناء، يُحسن الهدم، فلم يقبل القاسم ذلك منه فقال:
فقال له: ويلك، أسمع هذا منك، قال: لا، قال: فلا تسمعه أحداً.
هامش