كتاب الزهرة/الباب السادس والستون ذكر من أسدى المعروف إليه فشكره وأظهر ما عليه


الباب السادس والستون ذكر من أسدى المعروف إليه فشكره وأظهر ما عليه

ذكروا أن القطامي كان يهجو قيساً فأسره زفر بن الحارث فامتن عليه وأمر له بمائة من الإبل فامتدحه بعد ذلك بأشعار كثيرة منها قوله:

منْ مُبلغ زفر القيسي مَدحته
عن القطامي قولاً غيرَ إفنادِ
إنِّي وإنْ كان قومي ليس بينهم
وبين قومك إلاَّ ضربةُ الهادي
مُثنٍ عليك بما استبقيت معرفه
وقد تعرض منّي مُقبل بادي
إذْ يعتريك رجال يبتغون دمي
ولو أطعتهُم أبكيت عوادي

وقال ذو الرُّمَّة:

لولا اختياري أبا حفصٍ وطاعته
كادَ الهَوَى من غداة البين يعتزمُ
له عليَّ أيادٍ لستُ أكفرها
فإنما الكفرُ أن لا تشكر النعمُ
إذا هبطت بلاداً لا أراك بها
تجهمتني وحالت دوننا الظلمُ
أغرّ أروع بهلول أخي ثقةٍ
حلاحل من يراه اللين والكرمُ
يُريد ذا الشَّيْب منه شيبه كرماً
ويستبين فتاهم حين يحتلمُ

وقال محمد بن سعيد السعدي:

سأشكر عمرواً إن تراخت منيتي
أياديَ لم تُمنَن وإنْ هي جلَّت
فتى غيرُ محجوب النَّدَى عن صديقه
ولا مظهرَ الشكوى إذا النعل زُلَّت
رأى خلة من حيث يُخفى مكانُها
وكانت قذى عينيه حتَّى تجلَّت

وقال آخر:

شكرتك إن الشكر حظُّ من التُّقى
وما كلُّ من أوليْتهُ نعمةً يقضي
فأحييتَ لي ذكرى ومن كان خاملاً
ولكن بعض الذكر أنبهُ من بعضِ

وقال آخر:

فلو كان للشكر شخصٌ يبين
إذا ما تأمَّلَهُ النَّاظرُ
لمثَّلتُهُ لكَ حتَّى تراهُ
فتعلم أنِّي امرؤ شاكر

وهذا الكلام حسن إن ترك على جملته، وقبيح إن كشف عن حقيقته، وذلك أن صاحبه لم يقصد بشكره، وإلى أن يؤدي الحق الَّذي لزمه في نفسه وإنَّما قصد إلى أن ولي النعمة يشكره وفي إظهار الشكر خلال كثيرة كل واحدة منها أجلَّ من هذه الخلة قدراً، وأجمل منها ذكراً، على أن هذه وإن كان غيرها أحسن في الحقيقة منها فإنَّه لاعناً بالمنعم عليه عنها لئلا يقع عنده. أن إمساكه قصدٌ منه إلى كفران نعمته، فيمنعه ذلك من معاودة الأنعام عليه، وعلى مثله كما قال عنترة العبسي:

نبئت عمرو غير شاكر نعمتي
والكفر مجنية لشكر المنعم

وقد غلط قوم من المتفلسفين غلطاً دخلوا به في جملة جهال المتكبرين فزعموا أن إظهار الشكر وتلقيه بالقبول قبيحان وأنهما جميعاً يدلان من الشاكر والمشكور على صغر النفس، ونقصان الهمة. وليس الأمر كذلك بل تركه يدل على كفران النعمة، والاستكبار عن قبوله يدل على قلة الفهم، وضعف الروية، إذْ الله جلّ ثناؤه وهو خالق الخلق بتفضله وموفق من شاء منهم لطاعته ويسمي نفسه تبارك وتعالى شاكراً فإذا جاز أن يكون الله تبارك وتعالى شاكراً لمن أطاعه على طاعته إياه وهو الموفق لها وخالق القدرة على فعلها فكيف ينكر على من ابتدأه مخلوق مثله بنعمه أن يظهرها وأن يشكر لموليه إياها على فعلها وإذا كان الله جلّ ثناؤه يحض على شكر نفسه ويقبله من خلقه فكيف ينساغ للمخلوق أن يأباه ويترفع عن قبوله ولقد أحسن الَّذي يقول:

ولو كان يستغني عن الشكر ماجدٌ
لِعزة مُلك أوْ عُلوِّ مكان
لما ندبَ الله العِبادَ لشكره
فقال اشكروني أيها الثقلان