ما يجلبه القمر

​ما يجلبه القمر
What the Moon Brings​
 المؤلف هوارد فيليبس لافكرافت
ملاحظات: (ترجمات ويكي مصدر) ما يجلبه القمر هي قصة قصيرة كتبها لافكرافت عام 1922 ونشرها في مجلة National Amateur عام 1923.


أكره القمر وأخشاه، فحين يشرق على مشاهد مألوفة ومحبّبة فإنه يجعلها غريبة وبشعة.

كان الزمن فصل الصيف عندما أشرق القمر على الحديقة القديمة التي كنتُ أتجول بها؛ وسط أطياف الصيف والزهور المخدّرة وبحار أوراق الشجر النديّة التي تُلقي على المرء أحلاما مجنونة ذات ألوان زاهية. وعندما مشيتُ بجانب تيار الماء الصافي والضحل رأيت تموّجات غريبة يعلوها نور أصفر، كما لو أن تلك المياه الهادئة لم تقاوم التيار الذي أخذها إلى محيطات غريبة ليست من هذا العالم. صامتة وملألئة... مشرقة ومؤذية... رأيتُ تلك المياه التي لعنها القمر وهي تجري ولا أعلم إلى أين مسعاها؛ بينما ارتعشت أزهار اللوتس البيضاء على ضفاف النهر واحدة تلو الأخرى تحت ريح الليل الهادئة وسقطت على الجدول بكل يأس، وحامت بعيدا تحت الجسر الصخري المقوّس، وهي تحدّق إلى الوراء بنظرة شريرة أتت من وجه هادئ وميت.

جريت على طول الشاطئ وأنا أسحق الزهور النائمة بقدميّ الغافلتين وقد أصابني الجنون بسبب خوفي من أشياء مجهولة، ورأيت تحت نور القمر أن الحديقة لا نهاية لها؛ فالمكان الذي انتصبت فيه الجدران في النهار، رأيت محلّه الآن آفاقا جديدة من الأشجار والمسارات والزهور والشجيرات، والأصنام الحجرية والمعابد، وانحناءات الجدول الذي أناره القمر الأصفر وسط الضفاف المعشوشبة وتحت جسور الرخام البشعة. وهمست لي أزهار اللوتس الميتة بكل أسى، ودعتني أن أتبعها، كما لم أتوقّف عن المشي حتى تحول الجدول إلى نهر، وسالت مياهه على ساحل بحر شاسع ومجهول وسط أعمدة القصب المتمايلة والمستنقعات والشواطئ التي يعلوها الرمل اللامع.

أشرق القمر البغيض على هذا البحر، وعلى أمواجه الصامتة وُلِدت روائح غريبة. رأيت أزهار اللوتس وهي تختفي، وتمنيت لو أنّي أملك شبكة لأمسكها فأتعلم منها الأسرار التي يبوح بها القمر على الليل. ولكن عندما مضى القمر إلى الغرب وانحسر المد الساكن عن الشاطئ الكئيب، رأيت أبراجا قديمة كشفها الموج، وأعمدة بيضاء تزيّنها أعشاب البحر الخضراء. كنت أعلم أن هذا المكان الغارق هو ملتقى يجتمع فيه كل الموتى، فارتجفت ولم أرغب بالحديث مع أزهار اللوتس مرة أخرى.

رأيت من بعيد فوق البحر طائر كندور أسود ينزل من السماء ليرتاح على الشعاب المرجانية الواسعة، واشتهيت أن أتحدث معه، وأسأله عن أولئك الذين كنت أعرفهم قبل أن يغادروا الحياة. كنت سأسأله هذا لو لم أكن بعيدا عنه، لكنه كان بعيدا جدا، واختفى عن بصري عندما اقترب أكثر فأكثر من الشعاب المرجانية العملاقة.

شاهدت المد يخرج من تحت القمر الغارق، ورأيت وميض أبراج وأسطح المدينة الميتة التي يقطر منها الماء. حاول منخاري أن يصدّ عن نفسه رائحة موتى هذا العالم؛ ففي هذه البقعة الغريبة والمنسية تجمعت كل الجثث من أفنية الكنائس لتكون وليمة لديدان البحر السمينة.

نزل القمر الشرير قريبا من الأفق فوق هذه الأهوال، ولكن ديدان البحر السمينة لا تحتاج القمر لتنال قوتها. شاهدت التموّجات التي خلّفتها الديدان وهي تتلوّى تحت الرمل، شعرت بقشعريرة من بعيد أتت من المكان الذي طار إليه الكندور، وكأن جسدي أحس بالرعب قبل أن تشهده عيناي.

كما لم يرتجف جسدي من قبل دون سبب، فعندما رفعت عيناي رأيت أن المياه قد انحسرت لمستوى منخفض، وأظهرت من تحتها الحيد المرجاني الواسع والذي لم أرى حوافه من قبل. وعندها رأيت أن الشعاب المرجانية لم تكن إلا تاجا بازلتيا أسودا لصنم مخيف تظهر جبهته الوحشية تحت ضوء القمر الخافت ولا بد أن حوافره الجهنمية مغروسة في هذه الرواسب الجهنمية لعدة أميال، صرخت خوفا من أن يرتفع وجهه الخفي فوق المياه وخوفا من تراني عيونه الخفية بعد أن أنسلّ بعيدا من نور هذا القمر الأصفر الخبيث والغادر.

هربت من هذا الشيء القاسي بأن غطست دون تردد في المياه الضحلة النتنة حيث تتغذى ديدان البحر السمينة على الموتى بين الجدران التي تعلوها الأعشاب وتخترقها الشوارع الغارقة.