مجلة الرسالة/العدد 1005/صوت الهجرة

مجلة الرسالة/العدد 1005/صوت الهجرة

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 10 - 1952



للسيدة وداد سكاكيني

ما كانت الهجرة إلا مركب الأسنة الذي يضر إليه أحرار الفكر والرأي، أو اللهيف المتشوق إلى آفاق جديدة للرزق والمعرفة، فإن الوطن عزيز لدى أهليه وساكنيه، إذ يعيش المرء فيه كما تعيش الشجر في مابتها، فمنذا الذي فارق بلده وذويه ولم يؤلمه البعاد والنزوح طوعاً أو كرها؟

لو عرفنا شعور الطير الذي يسمونه السنونو وقد كتب عليه في الحياة أن يترك عشه إلى أفق بعيد، يفرد فيه جناحيه، لأدركنا عمق اتلأسى والحنين، في مغادرة المنزل المألوف والأرض المعهودة

أبداً نرى الذين جلوا عن بلادهم ومعاهدهم متلهفين عليها، لا هجين بذكرها وآثارها. ولكم علق نظري بأسماء يونانية أو إيطالية كأثينا والأكروبول وفينيسيا وسواها، سميت بها بعض المتاجر والملاهي بمصر، فقلت يا الله! أقام الروم طويلا بضفاف النيل، وظلوا متعلقين بالوطن الأول. وفعل مثلهم أكثر المهاجرين من العرب إلى الديار الأمريكية والأفريقية، فإنشأوا بيوتاً وأسواقاً على طراز ما عرفوا في بلادهم وحافظوا على لهجاتهم وتقاليدهم، وقديماً بقيت الأندلس على عربيتها شرقية أصيلة

هذه خواطر طرفت بخيالي وفكري وأنا أتصور هجرة الرسول محمد بن عبد الله، وجعلتني أتساءل: ترى كيف كان شعور الرسول في تلك الليلة الخطيرة، فإن السيرة لم تقل لنا كب شيء، وما التحاور الذي كان بين محمد عليه السلام وبين صاحبه المحزون وهما يسريان في أناة وحذر، والبيداء تطويهما نحو المدينة؟ لقد بقي كثير من ذلك التحاور في ضمير الزمن، ولم يستطع الفن ولا الأدب أن يكشف عنه حرمة وتهيبا

إن في معنى الهجرة بتلك الليلة المرصودة ما يتعايا دون تصويره القلم واللسان لأنه يحتوي فيما يحتوي فراق الأهل البلد، لا لا كتساب الرزق والصيت أو لا لتماس السلوى في تبدل الوجوه والآفاق، بل من أجل هدف أسمى وأغلى، وفي سبيل إنسانية مثلى، تجعل كل بلد يذكر فيه اسم الله ورسوله وطناً لمحمد، فإن هذا الدين الحنيف لم يولد ليبقى بين الجبلين الاخشبين أو لتهفو إليه الأفئدة من صوب أبي قبيس فحسب، وإنما أراد الله أن يعم العالم بالهدى والرحمة، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور

فمن أجل هذه الرسالة الخالدة فارق محمد بلده مضطراً مقهوراً، حتى عاد إليه مؤيدا منصورا، وفيه أعد المشعل الكبير الذي أمسك به أبو بكر ثم سلمه من بهد إلى عمر

لقد أقبل محمد بصاحبه الصديق على يثرب في لهفة وحسبان وإشفاق على من تركهم ف مكة حيارى يحذرون كيد المتربصين وعنت الأعداء، فتلقاه غطاريف الأوس والخزرج بالنصر والإيمان وراحوا يفدونه بالأرواح مخلصين، ويستجيبون لدعوته مؤيدين

وكان من شأن أكثر الفاتحين أن يدمروا البلاد التي يأخذونها، ولكن محمداً لم يهدم إلا الأصنام التي لكزها فانحدرت منكسة محطمة من أعلى الكعبة، ولم يكن عجباً في الدهر أن تحارب المدنية مكة، فقد حاربت إسبارطة أثينا، وكلتاهما من موطن واحد، وأشهدتنا الأيام القريبة حرب الجنوبيين في أمريكا للشماليين، على أن حرب الرسول عليه السلام ما كانت إلا لتحقيق الرسالة الإلهية التي أداها إنقاذاً للإنسانية التي ضلت سبيلها، وتاهت في جاهليتها متنكبة عن الخير والهدى، ولم يكن جهاده طمعاً في مآرب الدنيا والسيطرة على أهلها، بل في سبيل كلمة أراد أن تحق في الدنيا وأن تكون هي العليا، فإذا مرت هذه الذكرى بعد ترادف العصور بقيت خافقة بالحياة كأنها قد جرت البارحة، وإلا فما قيمة التاريخ، وما تعب الزمان في حفظ الأحداث ورواية الخطوب

إن كل تاريخ لا يروي لنا الذكرى ويبعثها حية خافقة في النفوس لهو في نظري تابوت ترقد فيه مومياء، ولهذا لا ينبغي أن نمر بذكره الهجرة مرور الحفاوة والتكريم كمن يفرح بعيد جميل قد مر بحياته أو بفرد من أفراد أهله، وإنما ينبغي أن نحس في ذكرى الهجرة بمثل ما أحس المؤمنون والأنصار حين أقبل عليهم الرسول ، ومعه صاحبه يتخففان من كيد المتمردين والحادقين، ويستأنسان بمن شد الأزر وفتح الصدر للرسالة التي جمعتهم على محبة وإيمان وعزم لم تزعزعه المحن والفتن، ولا هدته الصدمات والملمات

فما أروع المعاني التي احتوتها هجرة الرسول؛ وما أحرانا بأن نبعثها في حياتنا الراهنة فتحققها ونستلم منها القوة والاعتبار. بل ما أجدرنا بالتعاون على قهر العدو الذي يكيد لنا، وأي كيد أدهى وأمر من متشردين أهل فلسطين الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وضيما، مستجيرين من دخيل غاصب أصبح بعون الطغاة الغاشمين صاحب الدار؟ فهل يتاح لهؤلاء المهاجرين المقهورين رجعة إلى ديارهم وبلادهم؟

من هنا ينبغي أن نفكر في ذكرى الهجرة بما صنع البغي بالنازحين واللاجئين، وأن نذكر أن عودتهم ونصرتهم تحققها كلمة الرسول وتعاليمه إن اتبعناها وما كانت لترضى بقبول الظلم والهوان، فإن رسالته وضحت كل شأن وقالت بأن لا نقيم على ضيم وخذلان، ولا نستخذى لغاصب لئيم، ففي هذه الذكرى يجب على كل بيت ومجتمع، ألا يقر له قرار إلا بالعمل على انتزاع شوكة الطغيان والعدوان من دنيانا التي ألمت بها أشتات الخطوب والمحن؛ حتى إذا مرت الذكرى بعثت الهمم وسددت الرأي والخطى، وفتحت أعين الرجال والنساء على عهد جديد في هذا الشرق الذي يستعيد اليوم مجده ويتحر من أغلال الظلم والفساد

القاهرة

وداد سكاكيني