مجلة الرسالة/العدد 1013/كرامة الأخيار

مجلة الرسالة/العدد 1013/كرامة الأخيار

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 12 - 1952



للأستاذ محمد منصور خضر

لله در هؤلاء العلماء الأخيار الذين اكرموا العلم فأكرمهم الله وجعل لهم منزلة تتصاغر دونها منزلة الملوك، وفروا إلى الله فحفظوا حدوده ولم يرضوا بالظلم لأن الراضي بالظلم كالظالم في الإثم - وهذا أمر قل من ينتبه إليه في هذا الزمان - فلا بد من إظهار الغضب والسخط على الظالم حتى يشهد بذلك له الخلق فيكون ذلك حجة له يوم القيامةوهو ما لم نسمع به من العلماء في عصرنا. وهناك أيها القارئ بعض أخبار العلماء الذين نصحوا لله ورسوله (فحفظهم وأعلى ذكرهم):

كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول: لما أرسل إلى أبو جعفر المنصور دخلت عليه فرأيت النطع بين يديه والسيوف مسلولة وهو يعاتب ابن طاووس على أمور ثم قال له: ناولني الدواة فأبى؛ فقال له ما منعك؟ قال خشيت أن أكون شريكاً لك فيما تكتب. قال: فضممت ثيابي مخافة أن يصيبني دمه ثم قال له: اذهب إلى حال سبيلك. فلم أزل اعرف ذلك لأبن طاووس!

هذا وقد طلب أبو جعفر المنصور أيضاً صحبة ابن أبي ذئب فقال له بشرط أن تقبل نصحي. فقال له أبو جعفر نعم فصحبه. فقال له أبو جعفر يوماً: ما نقول في؟ فقال له: لا تعدل في الرعية ولا تقسم بالسوية. . فتغير وجه أبي جعفر فولى عن ابن أبي ذئب ولم يطق صحبته.

ومن ذلك أن هشام بن عبد الملك كان بمكة وطلب الاجتماع بطاووس اليماني فلم يجبه طاووس إلى ذلك. فعمل عليه الحيلة حتى اجتمع به. فلما دخل عليه طاووس لم يسلم عليه بسلام الخلفاء وإنما قال: السلام عليكم يا هشام! كيف حالك؟ وخلع نعليه بحاشية البساط وجلس بجانبه. فغضب هشام لذلك حتى هم بقتله. فقال له الوزير أنت يا أمير المؤمنين في حرم الله عز وجل. فقال هشام ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال ماذا صنعت؟ فقال خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تجلس بي يدي ولم تقبل يدي ولم تقل السلام عليكم يا أمير المؤمنين كما يقول غيرك، وسمتني باسمي ولم تكنني. فقال طاووس: أما ما فعلت من خلع نعلي بجانب بساطك فإني افعل ذلك كل يم خمس مرات بين يدي الله في بيته ف يعاقبني ولا يغضب علي. وأما عدم تقبيلي يدك فإني سمعت علي بي أبي طالب بنهى عن تقبيل يد الملوك إلا من عدل، وأنت لم يصح عندي عدلك. وأما عدم قولي لك يا أمير المؤمنين حين سلمت عليك فليس كل المسلمين راضين بإمرتك عليهم فخشيت أن أقع في الكذب. وأما أني لم أكنك فإن الله سبحانه وتعالى قد كنى أبا لهب لكونه عدوه، ونادى أصفياءه بأسمائهم المجردة لكونهم أحباءه، فقال ي داود يا يحيى يا عيسى. وأما جلوسي بجانبك فإنما فعلته اختبار لعقلك فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول يختبر عقل الأمير بجلوس آحاد الناس بجانبه فإن غضب فهو متكبر من أهل النار. فأخذت هشاماً الرعدة وخرج طاووس من عنده بغير استئذان فلم يعد إليه:

ويقال إن عبد الملك بن مروان خطب يوما بالكوفة فقام إليه رجل من آل سمعان فقال مهلاً يا أمير المؤمنين؛ اقضي لصاحبي هذا بحقه ثم اخطب. فقال وما ذاك؟ فقال إن الناس قالوا له ما يخلص ظلمتك من عبد الملك إلا فلان فجئت به إليك لأنظر عدلك الذي كنت تعدنا بهد من قبل أن تتولى هذه المظالم. فطال بينه وبينه الكلام فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتعظون، أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم أم نطيع أمركم بالسنتكم؟ فإن قلتم أطيعوا امرنا واقبلوا نصحنا فكيف ينصح غيره من غش نفسه! وإن قلت خذوا الحكمة حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها فعلام قلدنا كم أزمة أمورنا وحكمناكم في دمائنا وأموالنا! أو ما تعملون أن منا من هو اعرف منكم بصنوف اللغات واحكم بوجوه العظات؟ فإن كانت الأمانة قد عجزت عن إقامة العدل فيها فخلوا سبيلها وأطلقوا عقالها يبتدرها أهلها الذين قاتلتموهم في البلاد وشتتم شملهم بكل واد. أما والله لئن بقيت في يدكم إلى بلوغ الغاية واستيفاء المدة لتضمحل حقوق الله تعالى وحقوق العباد! فقال له وكيف ذلك؟ فقال لأن من كلمكم في حقه زجر ومن سكت عن حقه قهر! فلا قوله مسموع، ولا ظلمه مرفوع ولا من جار عليه مردوع، وبينك وبين رعيتك مقام تذوب فيه الجبال حيث ملكك هناك خامل وعزك زائل وناصرك خاذل الحاكم عليك عادل. فأكب عبد الملك على وجهه يبكي ثم قال له: فما حاجتك؟ فقال عاملك بالمساواة ظلمني وليله لهو ونهاره لغو ونظره زهو، فكتب إليه بإعطائه ظلامته ثم عزله!

وحكى الكلبي عن رجل من بني أمية قال: حضرت معاوية ابن أبي سفيان في خلافته وقد أذن للناس إذناً عاماً فدخلت عليه امرأة وقد رفعت لثامها عن وجه كالقمر الذي شرب من ماء البرد ومعها جاريتان لها فخطبت للقوم خطبة بهت لها كل من هناك ثم قالت: وكان من قدر الله تعالى انك قربت زياداً واتخذته أخاً وجعلت له في آل سفيان نسبا ثم وليته على رقاب العباد فسفك الدماء بغير حلها ولا حقها، وينتهك المحارم بغير مراقبة فيها، ويرتكب من المعاصي أعظمها! لا يرجو لله وقارا ولا يظن أن له ميعاداً وغداً يعرض عمله في صحيفتك وتوقف على ما اجترم بين يدي ربك، فماذا تقول لربك يا معاوية غداً وقد مضى من عمرك أكثره وبقى أيسره وشره؟ فقال لها من أنت؟ فقالت امرأة من بني ذكوان وثب زياد المدعي أنه من بني سفيان على وارثتي من أبي وأمي فقبضها ظلماً وحال بيني وبين ضيعتي وممسكة رمقي؛ فإن أنصفت وعدلت وإلا وكلتك وزياداً إلى الله تعالى وأن تظل ظلامتي عنده وعندك، فالمنصف لي منكما الحكم العدل. . فبهت معاوية منها وصار يتعجب من فصاحتها ثم قال: ما لزياد لعنه الله مع من ينشر مساوينا، ثم قال لكاتبه اكتب إلى زياد أن يرد لها ضيعتها ويؤدي إليها حقها.

وحكى أن سليمان بن عيد الملك قدم إلى المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. فقال: يا أبا حازم كيف القدوم على الله؟ قال: يا أمير المؤمنين: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لي عند الله؟ قال أبو حازم اعرض نفسك على كتاب الله حيث قال: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال قريب من المحسنين، ثم قال سليمان: يا أبا حازم أي عباد الله أكرم؟ قال أهل البر والتقوى، قال: فأي الأعمال افضل؟ قال أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي الكلام اسمع؟ قال قول الحق عند من تخاف وترجو، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها. قال فأي الناس أخسر؟ قال رجل حط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره.

فهكذا كان دخول أهل العلم على الملوك وهم بحق علماء الآخرة. فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم فيدلونهم على الرخص، ويستنبطون لهم بدقائق الحيل وطرق السعة فيما يوافق أغراضهم، ويأخذون الهدايا المنوعة ويباهون الناس بها لأنها هدية ملكية ولم يراقبوا الله فيهم فلم يعظوهم أو يخوفوهم من عذاب الله ومقته. ثم يكون بعد ذلك زوال الملك والعذاب الشديد يوم القيامة.

شطانوف

محمد منصور خضر