مجلة الرسالة/العدد 104/إبليس يتوب. . .!

مجلة الرسالة/العدد 104/إبليس يتوب. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1935



للأستاذ محمد سعيد العريان

(ليس أسمج من الرذيلة تكون وجدها في الأرض، إلا الفضيلة

تكون وحدها. . .!)

الرافعي

اطلع إبليس ذات مساء على الأرض؛ يستروح من نسمات الليل والدنيا نائمة - روح الفردوس الذي طردته الكبرياء من رحمته. وانبث زبانيته ينفثون الشر عن أمره في أوكار الظلام؛ ففي كل منعطف شيطان صغير يتربص، وبين كل اثنين ثالث لا يريانه. . .

وسمع إبليس في هدأة الليل عابداً يتهجد، ما يبدأ ولا ينتهي من سجدة إلا لعن الشيطان. . .!

وأحس إبليس لعنات الشيخ العابد تنصب عليه كما ينهال التراب على نار تتلهب، أو ينصب الماء على جمرة تؤجج

وصرت أسنان الشيطان من الغيظ، وانقدح من حجاجيه شرار كاللهب، أن عجز وعجزت زبانيته معه عن فتنة مثل هذا الشيخ الزاهد وإرادته على أن يتعلق بحظه من الدنيا وشهوات النفس، على حين لم يعجز الشيطان أن يطرد أباه من الجنة!

أفكان يعصم الشيطان من اللعنات أن يسلط على الناس جميعاً شهواتهم ويغري بهم أنفسهم؟ فكيف وإن عباده من أهل الغواية والمعصية ليذكرونه باللعنة على مقدار ما ييسر لهم شهواتهم ويضاعف لهم من مسراتها؛ وإنهم ليسرعون إلى لعنته إسراعهم إلى طاعته. . .؟

وهبّت نسمة السحر تعطر الدنيا بأنفاس الجنة، فاستروح منها إبليس روح الماضي يذكره أيامه كلها منذ بدء الخليقة ويلقي التاريخ بين يديه. وتغشه الذكرى وعاد الزمان القهقري أمام عينيه؛ فإذا هو ملك بين الملائكة يسبحون بحمد ربهم حافين من حول العرش؛ ثم إذا هو يفسق عن أمر ربه أبياً مستكبراً أن يسجد لبشر من طين؛ وإذا هو من بعد مطرود من رحمة الله، مذموم مدحور يلعنه الفضاء ويسبُّه الأبد؛ ثم ينفث نفثته في صدر حواء فينزلها وزوجها عن الجنة فيخرجهما مما كانا فيه، ويتعقب أبناءهما من بعدهما على الأرض يصنع منهم حطب جهنم، فما بشر من الناس إلا شيطانه يسعى بين يديه. . .

ثم هو في موقفه ذاك تتناثر من حوله لعنات الناس سواء منهم طائعه وعاصيه. وتصك أذنيه من مكان سحيق زفرات عباده في نار جهنم تكوى جباههم وجنوبهم بما أغواهم الشيطان وأضلهم سواء السبيل!

ولأول مرة استشعر إبليس لذع الندم فدمعت عيناه. . .!

يا لها من سخرية. . . إبليس يتوب. . .! لقد كفاه ما اقترف منذ هبط من السماء انتقاماً لكبريائه التي زعمها ديست يوم أمر أن يسجد لصلصال من حمأ مسنون!

أكانت توبة نصوحاً، أم مبالغة في الانتقام، أم هو يشتهي أن يعيش بشراً بين البشر عمراً من عمره، ليذوق بعض لذّات البشرية، ويرى بعيني حسه كيف يفتتن بها الناس جميعاً منذ كانوا فتسرع بهم شهواتهم إلى طاعة الشيطان. . .؟

وطلع إبليس على الأرض فتى وسيماً يمشي على قدمين مشي الناس. وشعر لأول ما لبسته البشرية أنه جائع، فعاجَ على ندى ساهر له به عهد، لأنه هو الذي أنشأه وأقامه حجراً على حجر، وطالما قضى الليالي ذوات العدد من حيث لا يراه الناس؛ ينفث الشر، ويبذر بذور الخطيئة، ويفتن في وسائل الإغواء. . .

كانت مصابيح الندى ترمي أضوائها إلى بعيد، وتمد من أشعتها شركاً بصيد الناس ويأخذ عليهم طريقهم؛ وكان كل ما ينبعث منه يشعر أن هناك حركة وعملاً يغريان من يلتمس إرضاء شهواته. . .

ولكن. . . ولكن ها هو ذا إبليس يصعد الدرج في أناة ورفق، ويدفع الباب في هدوء وخفة، ويخطو إلى البهو في سكون وحذر، فيرى، ولكنه يرى أجساداً لا تكاد تتحرك، ويسمع، ولكنه لا يسمع إلا مثل أنفاس النائمين؛ ويشهد، ولكنه لا يشهد إلا عيوناً محدقة في الفضاء تتأمل. لم يكونوا سكارى ولا مغيبين، ولكن فكرة واحدة كانت تسيطر عليهم جميعاً، فكرة بين السخط والرضى، وبين الندم والاستغفار!

وجلس الشيطان إلى مائدة وحده وطلب طعاماً، وراح يدير عينيه فيما حوله ومن حوله، ويتسمع نجوى الضمائر الخفية تهمس في أعماق أصحابها

ورأى مائدة خضراء مبسوطة، قد تناثر عليها هنا وهاهنا نقد وورق، ورأى كؤوساً فارغة وممتلئة، ورجالاً ونساء قد تحلقوا حول المائدة، ذراعاً إلى ذراع، وامرأة بين كل رجلين. . . ولكن يداً واحدة لا تمتد إلى شيء، وفماً واحداً لا ينبس بكلمة. . .

وأبصر رجلاً يهتز في موضعه هزة خفية وهو يتحدث إلى نفسه: كيف يصنع وقد فقد كل ما كان معه من نقد، إنه ليرى ماله أمامه على المائدة ولكنه ليس من حقه، لأن حظه في اللعب قضى به لغيره، وهو قضاء غير مشروع ولكنه حكم العرف فما عليه إلا الطاعة؛ وقالت له نفسه: ما أنت والقمار؟ شد ما نهيتك فلم تنته! الآن فذُق ألم الحرمان مما تملك، فلعلك من بعد ألا تستمع إلى إغواء الشيطان. . .

واختلج إبليس حين ذكر أسمه اختلاجه كادت تنم عليه؛ وهمّ أن ينهض، لولا أن أقبل النادل عليه بالطعام

وشُغل إبليس لحظة بالأكل، يزدرد اللقمة بعد اللقمة يكاد لا يحرّك بها فكيه؛ وعرف لأوّل ما ذاق الطعام - لماذا كانت شهوة البطن أول هم الإنسان. . .!

وعاد ينظر إلى وجوه الناس وضمائرهم، فما راعه إلا هذا المقامر الرابح محدقاً في الفضاء يتفكر، وإن وجهه لتتعاقب عليه شتى ألوان الندم والخزي والحياء. . . ثم لم يلبث أن نهض يجمع المال على المائدة فيفرقه في سماره وهو يقول: معذرة يا صحابتي، فإنما هو مالكم ليس لي حق منه في شيء، وما لعبت لأسلبكم ما تملكون، إنما أردت السلوة وإزجاء الفراغ. وعضّ على شفته واحمر وجهه، إذ كان يعلم أنه يكذب في اعتذاره؛ فما كان ليقامر إلا مؤملاً أن يربح، وما كان ليربح مرة إلا وهو يعلم أنه يأخذ ما لا يملك؛ وقد ربح الليلة، ولكنه حين ضمّ يديه على المال أحسّ كأنه يقبض على جمر؛ ورفت به سانحة من الخير، فتعفف أن يأكل مال الناس فخرج عنه لأهله. . .!

ونظر الرجل إلى يمين، فإذا صاحبته مطرقة قد تغرغرت عيناها، فمال عليها وهو يهمس:

(أيكون قد أغضبك ما فعلت يا سيدتي؟)

قالت المرأة: (عفواً ليس لي شأن بذاك، ولكن أمراً يقتضيني أن أعود مسرعة إلى الدار. . .!)

وهبت واقفة، فقال الرجل: (خير. . . .! أتأذنين لي أن أصحبك؟)

قالت: (شكراً. . .!) وسارت في طريقها فما ألح الرجل ولا تعوقت المرأة، ومالت إلى غرفة في الندى تأخذ زينتها في المرآة فأدركتها صديقة، ونظرت كل منهما في وجه صاحبتها فأطالت النظر ثم أطرقتا. .

منذ بعيد تقارف هاتان المرأتان الإثم في غير حذر ولا تذمم؛ أما إحداهما فضحية شاب غوى أغراها حتى نال منها ثم اختفى من وجهها وخلّف بين أحشائها بضعة منه، ففرّت بجريمتها من قانون الجماعة إلى حيث تشفي قلبها بالانتقام من الرجال

وأما الأخرى فزوج كالأيم، أو هي أيم وإن تك ذات بعل؛ فما شعرت يوماً أن لها حقاً على رجلها، وإنه لذائب التجوال بين البلاد، ولا تستقر به الدار في حضن زوجته أياماً حتى تعرض له الأماني تغريه أن يضرب في الأرض يطلب المجد بالثمن الغالي. . . بشرف زوجته. . .!

لم تحس المرأتان قبل الليلة معنى من معاني الندم؛ فمالها الليلة مطرقتين لا تنبسان؟

أرأيت إلى المجرم إذ يفجَأ وهو يقارف جريمة منكرة، فليس يملك أن ينكر ولا أن يعتذر؟

وعاد نظر المرأتين فالتقيا فإذا هما تتعانقان وقد أجهشتا باكيتين، وأطفأت دموع الاستغفار وقد النار ولذع الندم، فكأنما حلت في جسد كل منهما روح جديدة قد خرجت من الجنة لساعتها لم تتعلق إنما ولم تجترح معصية

وتلفت إبليس فإذا الندى مقفر خالٍ ليس فيه إلا الندل يسعون بين الموائد الخالية، يرفعون الأوراق والأقداح ويصففون الكراسي والمناضد

وتنفّس الصبح فأبدل إبليس ثياباً بثياب، وانطلق تبانه وبرنسه إلى سيف البحر، يستمتع به ما يستمتع البشر، ويملأ عينيه وقلبه من مفاتن دنيا الناس. لقد كان له في البحر معهد يرتاده زبانيته يعلمون الناس السحر وينصبون شرك الفتنة؛ وهو ذا البحر، فأين فتنته وسحره، وأين مباهجه التي كانت؛ أين الأجسام البضة، والأذرع الغضة، والسيقان اللفاء، والصدور النواهد؛ وأين العيون التي ترمي فتصمي، وأين لآلي البحر تغوص وتطفو، وأين الزبد الأبيض يلاطم الزبد الأبيض

لقد خلا البحر من عرائسه، إلا عجوزاً مقرورة مستلقية على الشاطئ، ما يبدو منها إلا عينان كصدفتين ملقاتين في كومة رمل! وهذه فتاة تمشي على استحياء مستندة إلى ذراع أخيها، فما تعرت من برنسها إلا ليسترها الماء. وهذا رأس رجل يبدو سابحاً من بعيد، ما يكاد يرى الفتاة حتى يتنكّب عن الطريق لئلا تتأذى منه الحسناء السبوح

وأحس إبليس أول آلام البشرية في الوحدة والفراغ والضجر، فمضى على وجهه ممتلئ النفس فارغ الفؤاد. لقد ودّع عالمه الموحش تحت الرغام ليظفر بالأنس في عالم البشرية، فما ظفر إلا بالوحشة وألم الشعور بالحرمان؛ وخلع عنه شيطانيته تائباً ليهب للناس الاستقرار والسلام، فما لقي هو في بشريته إلا الاضطراب والألم

واطمأنت الحياة بالناس، فاجتمعوا على الرضى والطاعة في حالٍ شر منها السخط والعصيان؛ إذ لم يكن ثمَّت عدوان يدعو إلى المقاومة، أو تربُّص ينبه إلى الحذر، أو كيد يستتبع الحرص واليقظة؛ وعاد كل فرد أمة وحده، يعيش في رضى وقناعة على أكمل ما يكون الإنسان صلاحاً وحباً في الخير، ولكن الجماعة لم تجد ما يشد وحدتها ويربطها آصرة إلى آصرة. ودب النعاس إلى أجفان الحياة: فمات الطموح لأنه باب من التكبر؛ وخمد النشاط، لأنه جهاد في غير عدو؛ واستنام الناس إلى القدر، لأن التمني ضرب من الأثرة؛ وعاش نصف الناس عيالاً على نصف الناس؛ فليس ثمت عمل للشرطة والجيش ورجال الحكم؛ وأنى لهم أن يعملوا ما دام لا سرقة ولا قتال ولا عدوان؟

وكسدت سوق القفال والزراد والصيقل والرماح؛ وما حاجة الناس إلى الأقفال والدروع والسيوف والرماح؟

وقال فتى لصاحبه: تعال نلتمس نزهة في غير ساحة (المولد)؛ فما لنا ولهذه المهرجانات التي لا تجتمع إلا على شر ولا تحشد الناس إلا لمعصية؛ حسبي أن أعمر قلبي بذكر الله وأتخذ أولياءه قدوتي وإمامي. . .

وأمن صاحبه على قوله؛ ولكن البدال، والبقال، والبزاز، وبائع الحمص، وصانع الحلوى، ومدير الملهى - لم يعرفوا لماذا هجر الناس المولد؛ فمضى الموسم ما باعوا ولا اشتروا ولا تعوضوا، وقوض كل منهم خيمته ومضى غير مأجور على جهاده!

وقال بعضهم لبعض: (أترون الناس قد نسوا أولياءهم فتمردوا على ما اعتادوا؟)

فأجاب شيخ كبير: (ذلك من عمل الشيطان. . .!) وأراق الخمار أحمره وأصفره وهو يقول: (ليت خمري كانت خلاً. . . .!)

وجلس قاضيان يداولان بينهما الرأي:

(أيهما خير: أن تعيش الفضيلة وحدها على الأرض، أو أن تنبت بين أشواك الرذيلة والمنكر والشر، فيكون للإنسانية منها أفراح ثلاثة: فرح النفس المؤمنة بها، وفرحها بالصبر على المجاهدة لها، وفرحها بالظفر بعد مشقة الجهاد. . .؟)

ونظر الشيخ الزاهد في صحيفة أعماله، فإذا هي بيضاء أو كالبيضاء؛ فليس يضاعف الأجر إلا المقاومة. ولو أن عابداً قضى الدهر كله راكعاً ساجداً، ما عدل أجر عبادته كلها ثواب ساعة لشاب تتجاذبه شهوات الدنيا، كلما هفت نفسه إلى معصية رده عنها الأيمان والتقى، فهو أبداً في مجاهدة لا يهدأ، وهو أبداً مأجور أجراً لا ينتهي!

وإنما يقظة الحياة في الجهاد والمقاومة وتوقع ما يأتي به الند على شتى ألوانه؛ فإذا عدم الجهاد، وفقدت دواعي المقاومة، وعاش الإنسان لساعته التي هو فيها - أعمى أو كالأعمى لا يبصر ما أمام - فقدت الحياة معناها الأسمى، وعاش الناس في هدى أشبه بالضلال، وفي فضيلة شر من الإثم والفسوق والعصيان!

ليتك تدري أيها الزاري على القدر. . .! هل تستوقد النار إلا بالحطب؟ فمن أين لك ما دمت تشفق على الغصن اليابس والهشيم الجاف!

وهل يعلم الفسّاق والعصاة من بني آدم، أنهم قبل أن يكونوا في أخراهم حطب جهنم ـ كانوا في دنياهم سلم البشرية إلى مثلها الأعلى. . .؟

وتثاءب الشيطان وتمطى إذ أدركه النعاس الذي ضرب على عيون البشر؛ وإذا هو وقد خضع لناموس البشرية قد ناله ما ينال الناس من الضيق والملل وتقلب الرأي؛ إذا تقلقلت دنياه طلب الاستقرار، فإذا استقر عاد ينشد الحركة ويتبرم بالسكون. . .!

وقلب وجهه في السماء كاسفاً محزوناً، ثم أسند رأسه إلى راحته وجلس يتفكر. . .

أي خير كان يقدم هو للجماعة البشرية على حين كان لا ينبغي إلا الكيد والانتقام؟ هذه الدنيا تنام بعد يقظة، وتسكن بعد حركة، وتسترخي بعد نشاط، لأنه هو قد بطل سحره، وإذ لم يعد في الدنيا شر، مات في الجماعة روح الانبعاث إلى الخير. .!

أيها الخالق العظيم، ما أعجب تدبيرك وأدق حكمتك! خلقت الشر والخير يصطرعان في هذا العالم لتوجد منهما الخير الأعظم، وأنا - أنا الشيطان المشئوم - حسبتني يوماً أكبر مما أنا، حين ذهبت أهدم ما تبني، وأعصي ما تأمر، وأدعو إلى ما تنهي، فلما آذنت أن تذل كبريائي، أريتني نفسي إلى جانب عظمتك، فإذا أنا، أنا الذي زين له الغرور يوماً أنه أكبر من أمرك، إذا أنا أعصى عصياني في طاعتك، وأفسد إفسادي لإصلاح عبادك على قدر منك وتدبير حكيم. . . .!

وشعر الشيطان بالخيبة تلاحقه في كل مكان، فلا هو هناك - في عالمه الشيطاني - كان موفقاً فيما يحاول الانتقام من بني آدم، ولا هو هنا. . .

وعاودته نزعة شيطانية لم يلبث أن قمعها في صدره وانطلق في سبيله

وانتهى إلى البستان المعشوشب المخضل وقد نال منه الإعياء فارتمى على العشب الرطب يستريح في ظل وارفة لفاء، وطلع له من بين ملتف الحدائق حسناء وضاءة، تمشي كما يهتز الغصن وترنو كما يبتسم الزهر

وأحس إبليس مرة أخرى أن قانون البشرية يعمل في دمه وأعصابه، وأطال النظر إلى الحسناء الفاتنة ثم أطبق عينيه وهو يتنهد، كأنما قد توهم أنه قد احتوتها أجفانه، وشعر بمس الحب في قلبه فأشرق وجهه بابتسامة فيها لمحة من السرور وغير قليل من الألم

وجلست الحسناء جلستها على العشب غير بعيد، وضمت إليها أطراف ثوبها يستر شيئاً ويكشف عن شيء، مستأمنة مطمئنة

وخطا إبليس خطوتين إلى حيث جلست يسألها شيئاً، فاستحيت حواء الصغيرة وأرخت فضل ثوبها على الوجه الفاتن، ووقف إبليس ينشد قصيدة غزل طويلة، وعتها حواء كلمة كلمة ومعنى معنى، ولكنها لم تنبس، ومد إليها يداً يستنهضها فما نهضت وازورت عنه معرضة، وسكت ولكن عينيه ظلتا تتحدثان حديثهما

وأربد وجه المرأة من غضب، فما رأى إبليس غضبتها إلا فناً جديداً من فنون جمالها، فقالت وقد ضاقت به: (إليك عني يا فتى وخل سبيلي. . . .!)

وضاق صدر الشيطان بهذه الإنسانة العنيدة، وثقل عليه أن يعجز عن نيلها وهو هو!

كم فتاة وامرأة قبل صاحبته تلك كانت من عباده وأتباعه ما تأبت واحدة منهم على ما أراد لها؛ على أنه اليوم يريدها لنفسه هو، فليس به اليوم حاجة لأن يسعى لغيره وقد خلع شيطا نيته!

ماذا. . .! أيعيش هذه الآلاف من سنيه الماضية يتحكم في البشرية كلها، وعلى إرادته، ويسعى بين الناس، ويصل بين الأحباب، ويقدم الثمرة لكل من يشتهيها؛ حتى إذا اشتهى هو أن يذوق تلك الثمرة أعجزه أن ينالها. . .؟

وللمرة الثانية منذ خلق شعر أن كبرياءه جريح. . .!

لقد أبى أن يسجد لأبي البشرية كلها وفسق عن أمر ربه، أفتفسق عن إرادته امرأة؟ وما هو إن لم ينلها؟ وما هي حتى تتأبى عليه كل هذا الإباء؟

وعاود احتياله يستجدي الحسناء بعض الرضى، فولّت عنه معرضة مستكبرة، ومضت تدوس بقدميها الصغيرتين قلب إبليس. . .!

وعاد إلى نفسه يستلهمها الحيلة فما أمدته بشيء، وبدا إبليس في بشريته إنساناً ضعيفاً قليل الحول، لا قدرة له على التصرف ولا طاقة له بالاحتمال. . .

ووجدت له شغلاً من فراغ. . . وعدا خلف المرأة يحاول أن يدركها ما يبالي نظرات الناس؛ فإذا زوجها يلقاها على الطريق فيصحبها إلى الدار يداً في يد وجنباً إلى جنب!

وأحس إبليس فوق ألم الحب الذي يجد ألماً جديداً من آلام البشرية، وقذف منظر الزوجين المتحابين في قلبه الحسد. . .!

وآده العجز والشعور بالحرمان، فعاودته شيطانيته ثائرة محنقة. على أنه وقد ذاق بعض لذات البشرية في آلامها لم يكن يريد أن يرتد إلى عالمه، إنما كان حسبه أن يستمد الحيلة من طبيعته الأولى بمن يحب وهو باق في بشريته!

ولكنه - وا أسفاه! - لم يستطع أن يكون شيطاناً ورجلاً في وقت معاً؛ وحين ألهمته طبيعته الأزلية بالرأي فقذف بالفكرة المحرمة في قلب المرأة - كان خلقاً آخر ليس من البشرية ولاحظ له من المرأة. ونظرت الحسناء إلى وراء تفتقد عاشقها المد نف فما رأته، وما كان لها أن تراه وقد عاد شيطاناً لا يخضع لنواميس هذا العالم؛ ورآها هو تنظر متلهفة مشتاقة، فما نالته نظرتها ولا مسّت قلبه؛ لأن إحساس البشرية ونوازعها كانت قد فارقته حين لبس جناحي شيطان. . .!

وكتب في تاريخ الأرض، أن إبليس قد تاب مرة، ولكن ردته إلى شيطا نيته امرأة. . . .! (طنطا)

محمد سعيد العريان