مجلة الرسالة/العدد 119/كتب ابن المقفع

مجلة الرسالة/العدد 119/كتب ابن المقفع

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1935



للأستاذ بشير الشريقي

1 - أبو محمد عبد الله بن المقفع كاتب بليغ مشهور امتاز بأسلوبه الجميل السهل الرشيق، لا أعرف بين أدبائنا القدماء والمحدثين من هو أقدر منه على الكتابة والتعبير إلا عمرو بن بحر الجاحظ. كان ماهرا في تصور طبائع الناس وأهوائهم وميولهم، احتوت كتبه الحكمة والأدب والأمثال، كما احتوت قواعد عامة في الإدارة والسياسة والأخلاق

2 - وهو فارسي الأصل اسمه في الفارسية (روزبة) ولد في (خوز) من أعمال خراسان حوالي سنة 106 هجرية. ونشأ في البصرة، وقد ظل يدين بالمجوسية دين آبائه حقبة من الزمن، ثم اعتنق الإسلام وقد بلغ السابعة والعشرين من عمره، قال الهيثم بن عدي يذكر قصة إسلامه: (جاء ابن المقفع إلى عيسى بن علي عم المنصور، فقال له: قد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يدك، فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر؛ ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يزمزم على عادة المجوس فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ قال: أكره أن أبيت على غير دين)

3 - وكما اشتهر عبد الله أنه كاتب كبير، فقد اشتهر أنه مترجم قدير لا تلمح في ترجمته أثر العجمية، فهو أول من اعتنى في الإسلام بترجمة الكتب القيمة، ترجم كتب أرسطو الثلاثة في المنطق، ونقل كتاب (التاج في سيرة أنوشروان)، وقيل إن كتاب (كليلة ودمنة) كان باللغة الفارسية فنقله إلى اللغة العربية. قال الباقلاني: (ابن المقفع ينحط إذا كتب ويعلو إذا ترجم، لأن في الأولى عقله وفي الثانية كل العقول)

وقال الجاحظ: (كان ابن المقفع مقدما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة)

4 - لابن المقفع من الكتب كتابا (الأدب الصغير والكبير) وكتاب (الدرة اليتيمة)، وكتاب (التاج في سيرة أنوشروان)، وكتاب (كليلة ودمنة)؛ وكتب في المنطق. وهذه الكتب منها الموضوع ومنها المنقول، فكتابا (الأدب الصغير والكبير) و (الدرة اليتيمة) من تأليف ابن المقفع؛ أما كتب المنطق وكتاب (التاج) فهي منقولة عن الفارسية التي يجيدها الكاتب إجادة عجيبة، واختلف أهل الأدب في حقيقة كتاب (كليلة ودمنة)، فمنهم من قال إ هو الذي وضعه، وأنه نحله الهند القدماء لترغيب أهل زمانه بمطالعته، ومنهم من قال إنه لم يضعه، وإنما كان باللغة الفارسية ونقله إلى العربية

5 - وبعد فأرى أن أحداث القارئ عن أشهر كتب ابن المقفع وأكثرها متعة قيمة، وهي كتاب (الدرة اليتيمة) وكتاب (الأدب الصغير) وكتاب (كليلة ودمنة)، وسيقتصر بحثي على تعريف القارئ بهذه الكتب تعريفا إجماليا، ثم على عرض اجمل ما فيها من صور أدبية واجتماعية مع شرح موجز:

6 - الدرة اليتيمة التي لم يصنف في فنها مثلها تقع في ثمانين صفحة، وتشتمل على فصلين كبيرين، الأول منهما خاص بعلم السياسة ويحتوي على آراء قيمة حكيمة في إدارة الحكومة، وواجبات الحاكم، وعلى وصف دقيق لما يجب أن يكون عليه الأمير من القوة والعدل، والبطش والحلم، والتثبيت والعلم؛ والثاني خاص بعلم الأخلاق، يشتمل على قواعد دقيقة في التربية والاجتماع، وعلم النفس وعلى نظرات صادقة في الناس وشؤونهم

حل ابن المقفع في (درته اليتيمة) مسألة كبيرة تلخص في كيف يتسنى للأمير أن يحفظ ملكه ويثبت سلطانه، نقول: إن هذه المسألة قد لفتت نظر كاتب فلورنسي يدعى (ميكافيللي) في القرن الخامس عشر 1469 - 1527، فوضع كتاب سماه (الأمير) شرح فيه هذه المسألة شرحا لا يكاد يختلف في أصوله ومعانيه عن شرح ابن المقفع؛ وكانت ضجة عظيمة حول الكتاب في الدوائر العلمية والسياسية الأوربية، وكان أصبح مكيافيللي بفضل كتابه الذي اعتبره الغربيون أول كتاب في العلم السياسي، من أعاظم رجال التاريخ؛ ولما كان المجال لا يسمع الكلام بإسهاب اكتفي بقولي: إن من يطلع على (الدرة اليتيمة) يرى أن ابن المقفع بحث في أصول سياسة الملك بحثا مستفيضا ممتعا، وإلى القارئ صورا من (الدرة اليتيمة):

7 - قال ابن المقفع:

أحق الناس بالتوقير الملك الحليم العالم بالأمور وفرض الأعمال ومواضع الشدة واللين والغضب والرضاء والمعالجة والأناة الناظر في الأمر يومه وغده وعواقب أعماله

اعلم أن الملك اثنان: ملك حزم وملك هوى، أما ملك الحزم فانه يقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن ولن يضر طعن الذليل مع حزم القوي، وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر لا يضيعن الوالي التثبت عند ما يقول وعندما يعطي وعندما يفعل، فان الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، وإن العطية بعد المنع أجمل من المنع بعد الإعطاء، وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عند بعد الإقدام عليه؛ وكل الناس محتاج إلى التثبت، وأحوجهم إليه ملوكهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافع، وليس عليهم مستحث

إن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع، وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه

لا يمتنع الوالي وإن كان بليغ الرأي والنظر من أن ينزل عنده كثير من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخانة بمنزلة الأمناء، وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء، ويغطى عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التصنع والتمحل

لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا بها، والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قبلها

احرص الحرص كله على أن تكون خبيرا بأمور عمالك فان المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك

ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد ونسيان الود، فليكابد نقض قولهم وليبطل عن نفسه وعن الملوك صفات السوء التي يوصفون بها

لا يولعن الوالي بسوء الظن لقول الناس، وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيبا موفورا يروح به عن قلبه ويصدر به أعماله

من صحب السلطان لم يزل مروعا. فساد الملك أضر على الرعية من جدب الزمان

8 - (الأدب الصغير) رسالة قيمة في علم تهذيب الأخلاق، تقع في أربعين صفحة كتبت بأسلوب جميل ساحر، أسلوب فيه حلاوة وعليه وطلاوة، أسلوب تتجلى فيه الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة والمعاني التي إذا طرقت الصدور عمرتها، وهي ممتلئة بأصدق الأنباء عن الروح الإنسانية تبرهن على مقدرة ابن المقفع العجيبة في تصوير طبائع الناس قال:

على العاقل ألا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى وأن ينزل ما أصاب من ذلك ثم انقطع عنه منزلة ما لم يصب، وينزل ما طلب من ذلك ثم لم يدركه منزلة ما لم يطلب

وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا وإن ظن أنه على اليقين

وعلى العاقل إن اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب أن ينظر أهواهما عنده فيحذره

من نصب نفسه للناس إمام في الدين فعليه أن يبدأ في تعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والأخدان. معلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم

الناس إلا قليلا ممن عصم الله مدخولون في أمورهم، فقائلهم باغ، وسامعهم عياب، وسائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف، وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل، وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف، يترقبون الدوال، ويتعاطون القبيح، ويتعاينون بالفخر

لا يمنعك صغر شأن امرئ من اجتباء ما رأيت من رأيه صوابا، واصطفاء ما رأيت من أخلاقه كريما، فان اللؤلؤة الفائقة لا تهان لهوان غائصها الذي استخرجها

أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتي إليك

ومن روع الرجل ألا يقول ما لا يعلم، ومن الأرب أن يتثبت فيما يعلم

إقدام المرء على ما لا يدري أصواب هو أم خطأ جماح، والجماح آفة العقل

خمول الذكر أجمل من الذكر الذميم

لا يوجد الفخور محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحر حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا الشره غنيا، ولا الملول ذا إخوان

ما التبع والأعوان والصديق والحشم إلا للمال، ولا يظهر المروءة إلا المال، ولا الرأي والقوة إلا بالمال؛ ومن لا إخوان له فلا أهل له، ومن لا ولد له فلا ذكر له، ومن لا عقل له فلا دنيا ولا آخرة له، ومن لا مال له فلا شيء له. والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس، وهو مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبة للعلم والأدب، ومعدن للتهمة، ومجمعة للبلايا، ومن نزل به الفقر والفاقة لم يجد بدا من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت، ومن مقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن ذهب عقله واستنكر حفظه وفهمه، ومن أصيب في عقله وفهمه وحفظه كان أكثر قوله وعمله فيما يكون عليه لا له

9 - (كليلة ودمنة) كتاب بليغ يتضمن الجد والهزل، واللهو والحكمة، ألفه بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة، ونقله إلى العربية عن الترجمة الفارسية، في صدر الدولة العباسية (عبد الله ابن المقفع) رأس الكتاب، وقيل إن ابن المقفع هو الذي وضعه وأنه نحله الهند القدماء لترغيب أهل زمانه في مطالعة كتب الحكمة والفلسفة التي لم يكونوا يأبهون لها إلا إذا أسندت للقدماء، وهو موضوع على ألسن البهائم والسباع والطير ليكون ظاهره لهو للعوام وباطنه رياضة لعقول الخاصة، وهو معروف متداول فلا داعي للإفاضة في بحثه

10 - ونتساءل: كيف كانت صورة عبد الله بن المقفع وهيئته؟ كيف كان شكله وطراز جسمه! هل كان جميلا ظريفا قويا أم على العكس قبيحا دميما ضعيفا! ماذا كان يلبس؟ هل كان يهتم بنظافة ثيابه وحسن هندامه، كيف كانت حياته الخاصة كيف كان يعيش مع نفسه وأهله وخلصائه؟ هل كان يميل إلى المرح والمداعبة والهزل؟ هل أحب ما هي قصة حبه؟ هل كان له زوجات وأولاد؟ ما درجة اتصاله بأهله وذوي قرباه؟ أي متاع الدنيا آثر عنده؟

هذه أسئلة عظيمة الفائدة المتعة لابد وأن تعرض لذهن من يود أن يعرف ابن المقفع ويفهم أدبه، ولكن أليس عجيبا إلا نستطيع أن نجيب على سؤال واحد منها وأن نكون على جهل تام بحياة أديبنا الخاصة؟

ليس الذنب في ذلك ذنبنا، وإنما هو ذنب مترجمي أدبنا القدماء فهم قل أن اهتموا أثناء ترجمتهم لأديب أو شاعر بحياته النفسية الخاصة ثم بحياة محيطه، هذه الحياة التي تكون الأديب وتطبع آثاره الأدبية بطابع الشخصية والذاتية

11 - كل ما ذكره المترجمون عن حياة ابن المقفع الخاصة كان جملة واحدة أوردوها عرضا أثناء تحدثهم عن شعوره الديني أوردها صاحب الأغاني نقلا عن الجاحظ قال: كان ابن الحباب ومطيع بن إياس، ومنقذ بن عبد الرحمن الهلالي، وحفص بن أبي وردة، وابن المقفع، ويونس بن أبي فروة، وحماد عجرد، وعلي بن خليل، وحماد بن أبي ليلى الراوية، وابن الزبرقان، وعمارة ابن حمزة، وجميل بن محفوظ وبشار المرعش، ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر ولا يكادون يفترقون، ويهجو بعضهم بعضا هزلا وعمدا، وكلهم متهم في دينه) نقول إن صحت رواية الجاحظ كان هؤلاء الشعراء والأدباء الذين كانوا يجتمعون على الشراب لقول الشعر ولا يكادون يفترقون هم الذين يمثلون الطبقة الخاصة من الناس التي ذكرها ابن المقفع في قوله (وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين ويلبس لهم لباسين مختلفين فطبقة من العامة يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحرز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحد من ألف كلهم ذو فضل في الرأي وثقة في المودة وأمانة في السر ووفاء بالإخاء

12 - مات ابن المقفع باكرا، لم يمتع بالحياة؛ كان عمره ستة وثلاثين عاما يوم قتلوه؛ نعم لم يمت المسكين بل قتل حرقا بالنار. يا لهول الجريمة!!

أجمع مترجمو ابن المقفع على أن سبب مقتله كتابته أمانا لعبد الله عم المنصور قال فيه:

(. . . ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله؛ فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته)، فلما وقف عليه المنصور عظم عليه ذلك وقال: من كتب هذا، فقالوا له: رجل يقال له عبد الله بن المقفع يكتب لأعمامك؛ فكتب إلى سفيان بن معاوية بن مهلب بن أبي صفرة متولي البصرة يأمره بقتله، ذكروا أن سفيان كان شديد الحنق على ابن المقفع لأنه كان يعبث به وينال من أمه ولا يسميه إلا بابن المغتلمة)

وإنها لخسارة لا تعوض، وإنها لجريمة لا تغتفر، ورحم الله ابن المقفع

شرقي الأردن

بشير الشريقي