مجلة الرسالة/العدد 121/رحلة إلى حدود مصر الغربية
مجلة الرسالة/العدد 121/رحلة إلى حدود مصر الغربية
2 - رحلة إلى حدود مصر الغربية
مرسى مطروح، سيوه، السلوم
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
أقلتني سيارة برفقة الأخ النبيل الكريم حسن حشمت، من خيرة الشبان وأكفأ ضباط الحدود، وطفنا بكثير من البساتين والينابيع، وهي عماد موارد الواحة وخير ما يميزها، تنتثر في أطرافها في عدد لا حصر له، وحولها تقوم غابات النخيل تتخللها أشجار الفاكهة، أخص بالذكر منها الكروم والزيتون، ثم الرمان والتفاح والبرقوق والموالح، على أن البساتين تفتقر إلى عناية كبيرة من أهلها، فهي مهملة إلى حد كبير، إذ تغص أرضها بالطفيليات، وتزدحم بالأشجار المتجاورة، مما يؤثر ولاشك في مقدار إنتاجها عاماً بعد عام. ويخيل إلى أن الناس هناك أميل إلى الكسل، إذ كنا نرى ماء الينابيع المتفجرة يجري على غير هدى، ويؤدي بعضه إلى مستنقعات فسيحة هائلة بعضها يبدو كالملاحات المديدة. نرى كتل الملح الأبيض الوضاء تكسو جوانبه إلى مد البصر، ولقد حاولت وزارة الزراعة إصلاح تلك الأرضي وحث الناس على استغلالها بطريقة أنجع من طريقتهم الحالية في الحرث وتعهد الأرض، وكذلك في الاستفادة بذلك الماء الوفير الذي يضيع سدى، ولقد قامت وزارة الزراعة هناك بمجهود يشكر في توزيع أشجار الزيتون والخروب على الناس مجاناً، وفي الاحتفاظ بمياه الينابيع فأقامت حول كل عين أحواضاً كبيرةً من البناء تؤدي منها المجاري الصغيرة إلى مختلف النواحي، بحيث تشعر وأنت تجوب أطراف الواحة من كثرة القنوات وتقاطعها وتشعبها أنك وسط قطر زراعي ممتاز، لكن رغم ذلك يضيع جانب كبير من ذلك الماء سدى، ولقد ساعدت تلك القنوات على تجفيف كثير من المستنقعات التي كانت مربى خصيباً لبعوض الملاريا الذي كان يفتك بالناس فتكاً ذريعاً، وهي تبث في تلك المياه نوعاً من السمك الصغير الذي يعيش على بويضات ذاك البعوض استئصالاً له. ولقد زرنا مصنع وزارة الزراعة الذي أقامته لاستغلال أكبر موردين للناس: هناك البلح والزيتون؛ وهي تبتاع من الآهلين جانباً كبيراً من أجود أنواع البلح، وتخضعه لعملية الغسيل والتطهير والتبخير، ثم الكبس في صناديق من خشب تبطن بالورق الصقيل، وتصدر منه بين 2000 و4000 طن في العام؛ وفي جانب من المصنع معصرة آلية للزيتون بكامل معداتها، يع فيها الزيتون وينقى الزيت بعدة عمليات، ثم يوضع في صفائح ويصدر؛ وإنتاج المصنع آخذ في الزيادة، ولذلك تفكر الوزارة في توسيعه باطراد. وللأهلين كثير من المعاصر الخاصة للزيت ومساطح البلح الذي يعدون منه (العجوة) السيوي الشهيرة؛ أما باقي أنواع الفاكهة فلا يكادون يستفيدون منه تجارياً، حتى البيع لأهل الواحة نفسها غير مباح، ذلك لأن المالك يعد بيع الثمار للناس معرة لا تليق بكرامته، ولكل إنسان أن يدخل البساتين ويأكل منها ما يشاء بدون مقابل، ولكن ليس له أن يحمل إلى الخارج شيئاً منها إلا في حالات خاصة، عندما يريد المالك تقديم الهدايا من ثمار حديقته لبعض ذوي المكانة والجاه من الغرباء أو الأهلين. ولم أدرك من صنوف الثمار شيئاً، اللهم إلا أردأ أنواع البلح هنالك ويسمونه البلح الفراوي، أما البلح الممتاز المسمى الصعيدي، والذي يليه جودة الفريحي فلا يزال فجاً غير ناضج.
أذكر أنا دخلنا بستاناً وتفيأنا بشجرة، وكانت الأرض تحت النخيل يكاد يفرشها ذاك البلح الرديء (الفراوي) فطلب الأخ حشمت إلى الرجل أن يذيقنا أطيب ذاك البلح، فاعتلى الرجل النخلة وهز عرجونها، فأمطرت وابلاً من رطب أصفر كبير، فأقبلنا ننتقي منه أطيبه ونغسله في ماء النبع حولنا ونأكله، فكان لذيذاً شهياً، وما كدت أمتدحه حتى سارع الرجل بالاعتذار بأن الأنواع الجيدة لما تنضج بعد، وأن هذا النوع الذي نأكله غير جدير بنا، لأنه عندهم طعام الحمير! وقد علمت أنهم حقاً يقدمونه علفاً للحمير، والنوى تأكله المعزى.
وأكبر عيون الواحة عين قريشت التي تبعد عنها بنحو عشرين كم، ثم عين تاخررت التي تنفجر بقوة هائلة ويتدفق منها 4000 طن يومياً يضيع جله في متسعات الملاحة بالبحر؛ ثم عين الشفا، وتقول خرافة قديمة إنها كانت متصلة بالجن، خاضعة لعبثهم، ثم اكتسبت هبة سحرية هي شفاء الأمراض كافة، لذلك يكاد يغتسل فيها الناس جميعاً كل يوم، فالنساء يقمن مبكرات ويغسلن أجسادهن دون رأسهن احتفاظاً بجمال الشعر أفخر آيات تجملهن، ثم يعقبهن في ساعة متأخرة الرجال؛ والعين التي يستقي منها الناس جميعاً عين تأبه أمام مركز البوليس؛ وكم كان يروقني منظر الناس وبخاصة النساء وهن يردن تلك العين في بكرة الصباح وعند الأصيل يملأن جرارهن! هذه سيوية في نصف سفور، وقد ارتدت جلباباً فضفاضاً من قماش يغلب على نقوشه التخطيط الأزرق، وقد ضفرت شعرها في جدائل متعددة، بعضها يتدلى إلى جانبي الرأس والبعض أمامها؛ وتنتهي الجدائل الخلفية بقطع من جلد خشن كان سبباً في أنهن لا يستطعن النوع على ظهورهن أبداً، وتزين أذنيها أقراط ثلاثة، في أسفل الأذن في طوق كبير يعلوه في وسط الأذن واحد أصغر منه، ثم يعلو هذا ثالث هو دونه حجما، وتكاد تكسو رقبها أطواق من الفضة بعضها خارج بعض، وهؤلاء لا يغسلن رأسهن إلا في فترات تعد بالأعوام، وبعضهن لم يغسلنها منذ نشأن، وذلك خشية إفساد زينة الرأس، وهن كل أسبوع يتعهدن الشعر ببعض الزيوت والأعطار، ويخيل إليَّ إن سبب تلك العادة سقوط الشعر من أثر أملاح مياه الينابيع مما نفرهن من غسله فأضحت عادة فيهن.
والسيويات جميلات الوجوه بألوانهن الخمرية وتقاطيعهن الدقيقة النحيلة. وإلى جانب السيوية كنت أرى عربية ازينت بجلبابها الأحمر، وأحاطت خصرها بحزام معوج من الأمام، وكانت تهولني أكمامها الكبيرة، ولقد خبرني الطبيب بأنه عند الكشف على إحداهن لا تضطر السيدة أن تخلع ثوبها ويكفي أن ترفع ذراعها فيظهر كل جسدها من كمها.
وللقوم لغتهم السيوية الخاصة، كنت أستمع إليها في رطانة هي أبعد من اللهجات الأوربية عنا، وقد حاولت أن أتعقب في كلماتها شيئاً يمت إلى العربية أو اللاتينية بصلة فلم أهتد إلى كلمة واحدة؛ وهم يتخاطبون بها دائماً، لكنهم إذا تحدثوا إلى الغريب تكلموا بالعربية، وأطفالهم لا يعرفون إلا اللغة السيوية. وإليك أمثلة من تلك اللغة: تلحاك أنك (كيف حالك؟)، أمقحاط: (أين تذهب؟)، سقم أنا سيط: (من أين تجيء؟)، أفتك اللون: (أفتح الشباك)، أفن شاشنك أخفنك (ألبس الطاقية على رأسك)، أفن شخشيرك في أشكنك (ألبس الجورب في رجلك) أشوُّ (الطعام) الخ. وما إلى تلك الألفاظ التي تمعن في الغرابة بالنسبة للغتنا، وحتى أسماؤهم تجد من بينها عجباً: تلشلشت، زوبَّاي، بيًّخ. ولهم تدليل خاص لبعض أسمائنا فمثلاً ينادون: أبا بكر باسم كاكال، إبراهيم باسم بابي، أحمد باسم حيدة؛ ويقال إن أصل تلك اللغة بربري ما زجتها العربية ثم الرومانية. ولا تزال للرومان هنالك بعض الآثار؛ أشهرها مبعد المشتري (جوبتر أمون)، وكان مقر الكهنة ذرعه 360 300 قدم، ومن أحجاره ما يبلغ 33 26 قدماً، وقد زاره الإسكندر بعد أن قاسى المتاعب الممضة وبعد أن نضب ماؤه وأشرف على الهلاك لولا أن سقط المطر فأنجاه هو ورجاله. وكان يقوم في هذا المعبد صنم أسمه سيوح هو الذي أكسب الواحة أسمها؛ وقد زرت هذا المعبد وألفيته في حال يرثى لها، فأنت لا تكاد تجدبه حجراً قائماً على أصله وذلك من أثر أحد المأمورين الذين رأوا في أحجاره مادة صالحة لإقامة مركز البوليس، فقام يهدم المعبد ويستخدم أحجاره فيما أراد، والمفروض أنه من مثقفي القوم ومن الذين يعرفون قيمة الاحتفاظ بمثل تلك الآثار الجليلة، وهو لا يزال مأموراً إلى اليوم في ناحية أخرى من مراكز الحدود؛ عفا الله عنه وكفر له عن سيئته.
ويقال إن تلك الواحة كانت تسمى عند العرب (سنتريه)، بناها منافيوس مؤسس بلدة أخميم، أقامها من حجر أبيض وشيد وسطها ملعباً من سبع طبقات وعليه قبة من خشب على عمد من رخام، وكانت كل طبقة لطائفة من الناس على حسب مكانتهم، على إني لم أجد لكل هذا أية بقية أو أثر. وقد حاول قمبيز تدميرها وهدم معبد أمون الذي بها فهلك جيشه العظيم في طريقه إليها. ولقد زاد ذلك في قدسيتها لأنهم عزوا ذلك إلى غضب الآلهة، ولم تدخل تلك الواحة تحت حكم مصر إلا في عهد المغفور له محمد علي باشا حين أرسل إليها حسن بك الشماشرجي، حاكم البحيرة إذ ذاك، فأخضعها وتعهد بها عرب أولاد علي إلى زمن سعيد باشا ثم ضمت لمديرية البحيرة، وهم يؤدون ضريبة النخيل الحكومة، وكان مجموعها زهاء 800 جنيه وزعت على عدد النخيل الجيد الذي يثمر البلح الصعيدي، فخص كل نخلة نحو تسعة مليمات ضريبة تدفع للدولة كل عام؛ ويكاد يكون لهم نظام حكم خاص بهم فالحكومة تكل أمرهم إلى المشايخ وعددهم سبعة يتقاضون مرتبات تتراوح بين جنيهين وأربعة كل شهر، وهؤلاء الوسطاء بين الدولة وبين الأهلين؛ وعند انتخابهم يجتمع أعيان الواحة ممن تزيد ملكيتهم على مائة نخلة وينتخبون الشيخ ولا تقل أملاكه عن 250 نخلة؛ وغالب منازعتهم تحل بطريق التحكيم فيختار كل من الخصمين رجلين يوكل إليهما الأمر وقضاؤهما نافذ بعد عرضه على المأمور، وأساس تشريعهم القواعد التي وضعها لهم عالم أسمه محمد يوسف، وتكاد تكون وفق تقاليدهم الخاصة، إلا في الزواج والميراث فهم خاضعون لقضائنا. وعدد سكان الواحة يقرب من خمسة آلاف ليس بينهم مسيحي واحد؛ ويقولون إن أربعين رجلاً من العرب والبربر وقبيلة أغورمي وفدوا إلى تلك البقعة وأقاموا لهم معصرة ودونوا أسماءهم في سجلاتهم، ثم تكاثر نسلهم حتى بلغ هذا العدد ومن لا ينتمي إلى واحد من أولئك الأربعين يعد دخيلاً عليهم.
وطبقة العمال هناك يسمون الزجالة أو الزجالين، يزيد عددهم على الخمسمائة، وهم الذين يقومون بخدمة الأرض نظير قيام السيد بمؤنتهم الضرورية، ولكل خادم جبة من صوف وثوب من قماش كل عام، وعند جمع المحصول يتسلم الواحد 32 صاعاً من الحب وأربعين من البلح الصعيدي الجيد. وتلك الطائفة كبيرة العدد مفتولة السواعد ممتلئة الجسوم، ممنوع أفرادها من الزواج مخافة أن يزيد نسلهم فتزيد النفقة على سيدهم، ومن تزوج منهم طرده سيده وتخلص منه؛ وهذا لا شك من أسباب قلة النسل في الواحة كلها، وقد أخذ ذلك يهدد السكان بالإنقراض، فضلاً عن إنه ساعد على انتشار الفساد إلى درجة كبيرة.
(يتبع)
محمد ثابت