مجلة الرسالة/العدد 124/من تراثنا الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 124/من تراثنا الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1935


4 - أبو العَيْناء

للأستاذ محمود محمود خليل

تتمة

قلت أن أبا العيناء اتسع أمامه الميدان أيام المتوكل، وظهر نجمه، وسعدت أيامه، فلم يقتصر الأمر على اتصاله بالخليفة، بل اتصل بوزيره الفتح وأخيه عبيد الله ابني يحيى بن خاقان واستفاد من عطاياهم وسخائهم مالاً كثيراً؛ ولقد مدح عبيد الله لدى المتوكل حينما سأله عنه فقال: (نعم العبد لله ولك، مقسَّم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عادَلَ بصلاح ملكك كل لذة). وله كتاب طويل كتبه إلى عبيد الله يستوهبه دابة يركب عليها حينما وهب له ابنه محمداً دابة، فزعم أنها غير فاره. وهذا الكتاب تستطيع أن تجده في كتب الأدب، وهو يدل على التلطف في المسألة، والاحتيال على هؤلاء الرؤساء بتلك الأحاديث الحلوة الفكهة، مما حبب أبا العيناء إليهم، وجعلهم يغضون عن بذاءته ويلبسونه على علاته.

انقضت دولة المتوكل ووزيريه الفتح وأخيه عبيد الله، واضطربت الأمور من بعده، حتى استتب الأمن، ورجعت المياه إلى مجراها، وتولى الوزارة عبيد الله بن سليمان بن وهب في خلافة (المنتصر، المستعين، المعتز، المهتدي) فاتصل به أبو العيناء وحضر مجالسه؛ وطالما حدثنا الرواة عن كثير من حوادثه معه. دخل عليه ذات يوم فقال: أقرب مني يا أبا عبد الله. فقال أعز الله الوزير! تقريب الأولياء، وحرمان الأعداء. قال: تقريبك غنم وحرمانك ظلم، وأنا ناظر في أمرك نظراً يصلح من شأنك إن شاء الله. وقال له يوماً: اعذرني فإني مشغول. فقال: إذا فرغت من شغلك لم نحتج إليك، وأنشده:

فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشغل

ثم قال يا سيدي قد عذرتك، فإنه لا يصلح لشكرك من لا يصلح لعذرك. ودخل عليه يوماً فقال من أين يا أبا عبد الله؟ قال من مطارح الجفاء. وأقبل يوماً إليه، فشكا سوء حاله، فقال له أليس قد كتبنا إلى إبراهيم بن المدبر في أمرك؟ فقال: كتبت إلى رجل قد قصَّر من همته طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة محن الدهر، فأخفق سعيي، وخابت طلبتي. فقال أنت اخترته قال: وما علىَّ أعز الله الوزير في ذلك، وقد اختار موسى قومه سبعين رجلاً، فما كان فيهم رجل رشيد، واختار النبي (ص) عبد الله بن سعد بن أبي سرح كاتباً فرجع إلى المشركين مرتداً، واختار علي بن أبي طالب (ض) حكماً له فحكم عليه؟! وإنما قال أبو العيناء ذل الأسر لأن إبراهيم المذكور كان قد أسره صاحب الزنج بالبصرة وسجنه فنقب السجن وهرب.

ولما نكب الخليفة المعتمد على الله عبيد الله بن سليمان وولي الوزارة صاعد بن مخلد حصل خصام بين الوزير وبين أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الكاتب، فانضم أبو العيناء إلى حزب أبي الصقر ولكن ذلك الموقف الذي وقفه من صاعد لم يمنعه من أخذ عطاياه واستجدائه، وحضور مجالسه. وقد عادى أبو العيناء رجلاً يقال له أبو العباس بن ثوابة لمعاداته لأبي الصقر، حتى إن الرجلين اجتمعا في مجلس صاعد يوماً، وكان ابن ثوابة قد سبّ أبا الصقر قبل ذلك بيوم، فقال ابن ثوابة لأبي العيناء: أما تعرفني؟ فقال: بلى أعرفك: ضيق العطن، كثير الوسن، خاراً على الذقن، وقد بلغني تعديك على أبي الصقر، وإنما حلم عنك لأنه لم يجد لك عزاً فيذله، ولا علوا فيضعه، ولا مجداً فيهدمه، فعاف لحمك أن يأكله وينهكه، ودمك أن يسفكه. فقال ابن ثوابة: ما تسابّ إنسانان إلا غلب آلامهما. فقال: لهذا غلبت أمس أبا الصقر!

ولقد كان من جزاء أبي العيناء من أبي الصقر على وقوفه منه هذا الموقف في سبيله أنه عندما تولى الوزارة خيّره فيما يحبه حتى يفعله به، فقال أريد أن تكتب إلى أحمد بن محمد الطائي تعرفه مكاني، وتلزمه قضاء حق مثلي من خدمة، فكتب إليه كتاباً بخطه فوصله إلى الطائي، فسبب له في مدة شهر واحد مقدار ألف دينار وعشرة أجمل، فانصرف بجميع ما يحبه. وله أحاديث كثيرة، ومجالس طريفة مع الوزير أبي الصقر. ويظهر أن هذا آخر وزير اتصل به أبو العيناء من وزراء الدولة العباسية فإنه لم يعش بعد ما نكب الموفق أبا الصقر إلا قليلاً، وتوفي سنة 282 أو سنة 283هـ.

مهاترته مع كاتبين في عصره

على أننا نرى من الواجب علينا أن نأتي بشيء مما جرى بين أبي العيناء وبين كاتبين قديرين في عصره، هما محمد بن مكرم، وأبي علي بن جعفر الضرير؛ أما مكرم فكانت له معه مداعبات، وكان يهاتره كثيراً؛ كتب إليه ابن مكرم يوماً: قد ابتعت لك غلاماً من بني ناشر ثم من بني ناعظ ثم من بني نهد. فكتب إليه: فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. وولد لأبي العيناء ولد، فأتى ابن مكرم فسلم عليه، ووضع حجراً بين يديه وانصرف، فأحس به فقال: من وضع هذا؟ فقيل ابن مكرم، فقال: لعنه الله إنما عرض بقول النبي (ص): الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقال لابن مكرم وقد قدم من سفر: مالك لم تهد إلينا هدية؟ قال: لم آت بشيء، وإنما قدمت في خِف، قال: لو قدمت في خف لخفت روحك. وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدد المكذبين بالبصرة؟ فقال: مثل عدد البغائين ببغداد!

وأما أخباره مع أبي علي الضرير فكثيرة، وكم أتمنى أن يتيح لي الزمن فرصة الموازنة بين هذين الرجلين، فإن بينهما شبهاً قوياً، وقد وجدا في عصر واحد، وكانا في البلاغة نسيج وحدهما، ولكن كانت بينهما منافسة قوية أدت إلى أن تجري بينَهما مساجلات ومفاخرات كثيرة، حتى إن فتى من أبناء الكتاب في بعض الدواوين تعرض لأبي العيناء، وكان فيه جرأة فقال: كل الناس يا أبا العيناء زوجة، وأنت زوجة أبي علي البصير. فقال له أبو العيناء: قد ملكنا عصمتك بيقين فحواك، ثم ننظر في شكوك دعواك، وقد طلقت الناس كلهم سواك، ذلك أدنى ألا نعول، وفيك ما يروي الفحول، ويتجاوز السول. ففضحه بهذا الكلام ولم يجبه.

وهذا الحديث يدل على أنه قد كان بين الرجلين تصادم؛ وإن شئت فسمه مشاكسة وجدلاً عنيفاً وصراعاً قوياً بالألسن وأنه كثيراً ما يكون الغلب في جانب أبي علي الضرير.

أدب أبي العيناء

ونقصد بهذا الأدب الشعر والنثر؛ أما الشعر فلا نستطيع أن نعد أبا العيناء شاعراً مكثراً من فحول الشعراء لأننا لم نجد له في كتب الأدب والتراجم التي بأيدينا شعراً كثيراً؛ إنما الذي نقدر أن نحكم له به أنه كان من شعراء الكتاب أضراب أحمد ابن يوسف الكاتب والوزير للمأمون فيما بعد، وقد تقدم له بضعة أبيات مدمجة في أحاديثه تؤيدنا في حكمنا هذا.

وأما النثر فقد كان أبو العيناء سباقاً فيه، وتمتاز كتابته بأنها تارة تكون مفرغة في قالب فكاهي مضحك، تقرؤها فلا تكاد تملك نفسك من الضحك، ولكنه إذا أفرغها في قالب الجد أتى بالفقر القصيرة حيناً والطويلة حيناً آخر؛ وكثيراً ما تكون مرسلة، وقد يقيدها بالسجع. فأسلوبه من السهل الممتنع كما يقولون، ويكفيه في منزلته من البلاغة تعجب المتوكل منه، إذ سأله: أكان أبوك في البلاغة مثلك؟ فأجابه بقوله: لو رأى أمير المؤمنين أبى لرأي عبداً له لا يرضاني عبداً له. ونرى كاتباً معاصراً له يشهد له شهادة قيمة وهو محمد بن مكرم الكاتب قال: من زعم أن عبد الحميد أكتب من أبي العيناء إذا أحس بكرم أو شرع في طمع فقد ظلم. ونحن إن كنا نعتقد أن في كلامه غلواً مراعاة للصداقة المحكمة الأواصر بينهما، إلا أن الحال التي وصف فيها أبا العيناء بالإجادة خليقة بتقدير النقد الأدبي لها. فإننا نرى الرجل يأتي برسائل ممتعة حقاً نعجب كيف صدرت عنه، ولكننا لو علمنا أن الدافع له إحساسه بالكرم، أو شروعه في الطمع كما يقول ابن مكرم لا نستغرب هذا.

وإني أريد أن أؤيد كلامي بنماذج من رسائله، ولقد كنت في غنى عن هذا لما تقدم من أحاديثه وكتاباته، ولكني لم أر بداً من الإتيان بنبذ يسيرة منها، فمن رسائله الفكاهية: ما كتبه إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان حينما أهدى إليه ابنه محمد دابة زعم أنها غير فاره:

أعلم الوزير أعزه الله أن أبا علي محمداً أراد أن يبرني فعقني، وأن يربكني فأرجلني: أمر لي بدابة تقف للنبرة، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عَجَفاً، وكالعاشق المجهود دنفاً، قد أذكرت الرواة عذرة العذرى، والمجنون العامري. يساعد أعلاه لأسفله،. . . مقرون بسعاله، فلو أمسك لترجيت، أو أفرد لتعزيت، ولكنه يجمعهما في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد، تضحك من فعله النسوان، وتتناغى من أجله الصبيان، فمن صائح يصيح داوه بالطباشير، ومن قائل يقول نقّ له من الشعير، قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء في الأمصار، فلو أعين بنطق، لروى بحق وصدق، عن جابر الجعفي، وعامر الشعبي، وإنما أتيت به من كاتبه الأعور، الذي إذا اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإذا اختار لغيره أخبث وأنزر. فإن رأى الوزير أن يبدلني ويريحني بمركوب يضحكني كما ضحك مني، يمحو بحسنه وفراهته، ما سطره العيب بقبحه ودمامته، ولست أرد كرامة، سرجه ولجامه، لأن الوزير أكرم من أن يسلب ما يُهديه، أو ينقض ما يمضيه.

فوجه إليه الوزير برذونا من براذينه بسرجه ولجامه؛ ثم اجتمع مع محمد بن عبيد الله عند أبيه، فقال الوزير شكوت دابة محمد، وقد أخبرني الآن أنه يشتريه منك بمائة دينار، وما هذا ثمنه لا يشتكي. فقال أعز الله الوزير لو لم أكذب مستزيداً لم أنصرف مستفيداً، وإني وإياه لكما قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين، فضحك الوزير وقال: حجتك الداحضة بملاحتك وظرفك أبلغ من حجة غيرك البالغة.

ومن رسائله الجدية ما كتبه إلى عبيد الله بن سليمان بن وهب: أنا أعزك الله وولدي وعيالي زرع من زرعك، إن سقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى، وقد مسني منك جفاء بعد بر، وإغفال بعد تعاهد، حتى تكلم عدوّ، وشمت حاسد، ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعباً، ولهم مجرّساً. ولله درّ أبي الأسود في قوله: -

لا تهني بعد إكرامك لي ... فشديد عادة منتزعه

وتلك الرسالة كانت كافية في أن تطلق يد عبيد الله بالعطاء فوقع في رقعته: أنا أسعدك الله على الحال التي عهدت، وميلي إليك كما علمت، وليس من أنسأناه أهملناه، ولا من أخرناه تركناه، وقد وقعت لك برزق شهرين، لتعرفني مبلغ استحقاقك، لأطلق لك باقي أرزاقك، إن شاء الله والسلام.

وكتب إلى الوزير أبي الصقر يشكوه: أنا أعزك الله طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدي عند عثرة الدهر، وكبوة الكبر، وعلى أية حال حين فقدت الأولياء والأشكال، والإخوان والأمثال الذين يفهمون في غير تعب، وهم الناس الذين كانوا غياثاً للناس فحللت عقدة الخلة، ورددت إلى بعد النفور النعمة، فأحسن الله جزاك، وأعظم حماك، وقدمني أمامك، وأعاذني من فقدك، فقد أنفقت علي مما ملكك الله، وأنفقت من الشكر ما يسره الله لي، والله عز وجل يقول لينفق ذو سعة من سعته، فالحمد لله الذي جعل لك اليد العالية، والرتبة الشريفة، لا أزال الله عن هذه الأمة ما بسط فيها من عدلك، وبث فيها من رفدك والسلام.

الزقازيق

محمود محمود خليل