مجلة الرسالة/العدد 141/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 141/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 03 - 1936


3 - ميرابو

ميرابو. . . تلك الأعجوبة!

جوته

للأستاذ محمود الخفيف

تتمة

صارت الغلبة للشعب، فلقد وقف ميرابو وقفة حاسمة كان في الثورة كما رأينا نجاتها؛ وليت شعري هل يحمل عمله هذا على الهدم أم هو يحمل على البناء؟ أتراه يوجه السفينة إلى حيث لا عاصم لها من الموج، أم تراه يجنبها الصخرة المعترضة؟ أدر الدفة يا ربانها! لكن الربان اليوم يزجيها ويستحثها! أكان عن طيش ذلك أم عن خبل؟ كلا فأنى لليطش أو الخبل أن يبلغا هذا الرأس الأشم؟ أولم ير الأشراف يأتمرون بالثورة ويرى الملك يتنمر بغتة ويهم أن يأتها من مقتلها؟ إنه يعرف ما يفعل يدرك متى يتخذ الهجوم سلاحاً ومتى يجعل من الصبر مثابة وأمنا. وإنك لتراه يجمع في ذلك إلى إقدام القائد حنكة السياسي

أكبرته باريس وكانت قد أعجبت بما قرأت له في صحيفته التي كان يصدرها دفاعاً عن آرائه، واليوم تخلص له الحب، ولو كان للرجل يومئذ مآرب خاصة كما تقول عنه خصومه لكان له من تلك الشهرة أعظم فرصة، ولكنه وقف من باريس موقف الحذر الفطن، إذ كان يخشى أن تنقلب الثورة من مظهرها الدستوري إلى مظهر دموي هو عنده الطامة الكبرى

ولكنه إذ يعمل على تفادي الخطر من ناحية الشعب لم يكن يأمن جانب البلاط، ولم ير في إذعان الملك وحمله السادة الممتازين على مجالسة العامة إلا سكون المتحفز الذي يتربص بالجمعية الدوائر ليضربها الضربة القاضية

ولم تلبث الحوادث أن أيدت ما رأى، فقد طافت شائعات السوء بالجمعية ثم أيقنت أن الملك يحشد حول باريس وفرساي من جنده نحو أربعين ألفاً، وأنه موشك أن يعود إلى سالف موقفه منها وهو اليوم بهؤلاء الجند أشد بطشاً وأعظم حولاً، ولقد أنكر ميرابو هذه السياسة المذبذبة من لدن ذلك الملك الذي كان بسياسته يوقظ لفتنة ويحركها؛ وتساءل في دهشة و قوة حجة: (إذا كان الملك يريد أن ينفرد بالأمر دوننا فلم دعانا إليه؟ وإذا كان قد دعانا لحاجة إلينا فكيف يسوغ له أن يشهر السلاح في وجوهنا)؟

وتطلعت الجمعية إلى رجلها من جديد وانتظرت باريس منه القول الفصل، ووثب ديموستين الفرنسي مرة ثانية إلى الصدر فهز جنبات القاعة بل جوانب فرنسا بخطاب من أبلغ ما فاه به. ثم أراد أن يأخذ الطريق على من يكيدون للجمعية بالدس فاقترح أن ترسل وفداً إلى الملك يعلن له ولاءها ويرجوه أن يسحب الجند من حول باريس. ولقد جعلت الجمعية ميرابو على رأس ذلك الوفد؛ فلما جاء الملك أجاب متهكما: (إنه وحده الذي يحرك جنده كما يريد، وإذا كان النواب يخافون هؤلاء الجند فلينسحبوا إلى ما وراء باريس؛ وبعد ذلك بيومين عزل (نكر) من الوزارة يوم 11 يوليو سنة 1789

أدرك ميرابو أن الكارثة واقعة لا محالة. ولم تنقض ثلاثة أيام على عزل نكر حتى حملت باريس السلاح ودكت ذلك الحصن العتيد سجن الباستيل رمز الطغيان والعبودية

دخلت الثورة في دورها الدموي الرهيب؛ ولقد ذعرت الجمعية وخشيت أن تقع الحرب الأهلية فتقضي على الثورة والجمعية معاً؛ وكان رجلها غائباً عنها لما علم من وفاة أبيه. فلما عاد عاودها الأمل وأوفدت وفداً جديداً يعيد على الملك ملتمس الجمعية، ووقف ميرابو ينصحه قائلا: (بلغوا الملك أن جنوده الذين أحاطوا بنا من كل صوب قد غمرتهم أيدي أمرائه وأميراته ورجال حاشيته بالهدايا والتحف. وأن هؤلاء الجند وقد بهرهم بريق الذهب ولعبت برؤوسه الخمر باتوا يتغنون بسحق فرنسا وكل ذلك في اليوم السالف لليلة سان بارنلميو)

ولكن هاهو ذا رسول من قبل الملك ينبئ الجمعية بأنه في الطريق إليها، وهاهو ذا ميرابو ينصح إليها أن تلاقيه جادة صامتة معلنة حدادها على من قتلوا في باريس قائلا: (إن في صمت الشعوب درساً للملوك)

وجاء الملك يستعين بالجمعية على تهدئة الحال في باريس ثم يدخلها في رهط من النواب معلناً رضاءه عما اتخذته بعد سقوط الباستيل! ويسحب الجند منها ومن فرساي!

وكانت باريس بعد أن أعلنت غضبتها قد سيطرت على الموقف فألفت الحرس الوطني وجعلت رياسته للافيات وانتخبت بابي عمدة لها وأسست كثيراً من الصحف والنوادي الثورية

أدر الدفة يا ربانها! لقد أحدق الخطر بها، فالربان مشفق يرقب مجراها وهو أشد حذرا وأكثر تشاؤما. لقد وقع ما كان يخشاه وجرت الدماء في باريس، وطاف شبح الفوضى بالأقاليم، وبات الشعب في سكرة النصر يتوعد ويتوثب، والملك لا يزال ألعوبة في يد بطانته وعلى الأخص في امرأته، والمهاجرون من الأشراف يؤلبون أوربا على الثورة، وغول الخراب المالي يطالع البلاد من كل ناحية

ولكن الربان وسط العاصفة لا يعرف اليأس سبيلا إلى قلبه. زار باريس فهبت تزاحم مهرجانه باريس، وطاف بخرائب الباستيل يشهد مصرع الظلم فامتلأت عربته بالزهور، ورأى الحرية الحمراء تعلن عن نفسها في أجواء المدينة راقصة صادحة، فهل أطربه ما سمع وما رأى؟ كلا بل أمضه ذلك وأزعجه

زادت الحوادث مهمته صعوبة ولكنها لم تفل من عزمه، ولعله كان يأمل أن يجد في اشتداد الأزمة مخرجا من الأزمة! وإن بدا ذلك متناقضا. كان يرجو أن يكف أعوان الملك من غلوائهم، ويصالحوا على الثورة نفوسهم، ولكنه ما لبث أن عرف أنهم لا يزالون يبيتون لها وهم بذلك يرسمون طريقهم إلى الهاوية ويجرون معهم ملكهم المسكين. ومن له بأن يدرك هؤلاء عاقبة طيشهم؟

يا لله! ألم يأن للذين استذلتهم شهواتهم وحطهم كبرياؤهم أن يفيقوا من غمرتهم؟ ما بال فرساي تتحدى في أشخاصهم باريس؟ ما بال أوانس البلاط وفرسانه تخف أحلامهم فيهينون في حفل بهيج يقيمونه لفرقة سويسرية من فرق الحرس الملكي شعار الثورة ويسخرون من مبادئها؟ يا ويحهم! ألم يكفهم ما باتوا فيه يتقلبون من نعمة، فهم ضاحكون ممن يبيتون على الطوى ويفيقون على الوساوس والأوهام؟ ولكن باريس ترسل إلى أختها رهطا من نسائها وغوغائها، فإذا الملك وحاشيته رهائن عندها يتخذ على الرغم منه من التويلري سجنا له!

أدر الدفة يا ربانها! لكنها جمحت اليوم والتوت عليه. وأنى للجمعية أن تقنع بما كانت تقنع به بالأمس؟ لقد صارت الكلمة لعامة باريس وأندية باريس وصحف باريس!

وإن المرء ليتساءل لم يخاف ميرابو كل ذلك الخوف من خطوات الشعب وانتصاراته؟ والجواب على ذلك يسير، فقد كان يرى في خطة الشعب ما يباعد بينه وبين الملكية وما يحمل الملك وبطانته على الجد للقضاء على الثورة وهو لا يرى لها نجاحاً إلا في التوفيق بين القوتين، هذا إلى ما كان يخشاه من احتمال تدخل أصحاب العروش لحماية عرش فرنسا إذ كان المهاجرون لا يفتأون يوقعون بينهم وبين شعبهم العداوة والبغضاء، وأهم من ذلك كله فقد راحت الجمعية تعلن حقوق الإنسان وتثير عقيم الجدل حول الدستور، دون أن تتناول مشاكل البلاد الأساسية بالحل. فلقد ظلت الحالة المالية على ما هي عليه إن لم تكن ازدادت سوءا، وتعقد الموقف السياسي بين فرنسا وإنجلترا والنمسا، ومما ضاعف حرج الموقف أن الجمعية رأت ألا تجعل للملك سلطة فعلية في الاعتراض على القوانين، وفي إعلان الحرب والسلم، ولقد هال ذلك ميرابو فقال يوماً لصديقه لامارك: (إن البلاد مقدمة على أشد ضروب الفوضى، وما لم تتدارك الملكية فالفناء مصيرها حتما، ويوم يحيق بها الفناء وتضرب الفوضى بجرانها يساق الشعب إلى الرضى بالاستبداد المطلق، إذ يكون المستبد في تلك الحال في نظره هو المنقذ المصلح). وإنك لتراه بهذا كأنما يرى المستقبل ويصف لك مذابح سبتمبر وعهد الإرهاب وديكتاتورية روبسبير مما يدل على لقانة مدهشة!

وقف في الجمعية وكانت قد انتخبته رئيساً لها يدافع في عزم وقوة عن حق الملك في الاعتراض على القوانين، داعياً بكل ما في وسعه إلى تقرير مبدأ الملكية الدستورية؛ ولا تسل عما كان يبذله من جهد أعانته عليه قوة بدنه، وعما كان يعرض من آراء أوحت بها إليه دقة فهمه، وبعد نظره، وصدق تجربته؛ وهو في هذا الموقف الذي يؤود حمله الجبابرة لا يغفل شؤون وطنه فيفاوض (بت) في إنجلترا، ويتلمس حلا لإرضاء النمسا، ويلقي على الجمعية البيانات المسهبة في المشكلة المالية، ويلفت إليها أصحاب الرأي. وجملة القول أنك تراه يعمل عمل رئيس حكومة، وإن لم يكن له مركزه، حتى لقد وصفه كاي ديمولان بطل الهجوم على الباستيل بأنه (قنصل أكثر منه رئيس جمعية دستورية)

ألا ترى في ذلك الإخلاص كأروع ما يكون الإخلاص، وتلمس فيه الرجولة كأقوى ما تكون فيه الرجولة؟ ألا ترى كيف ينسى الرجل نفسه، ولا يذكر إلا وطنه؟ ولكن الجمعية وا أسفاه قد خذلته حين كان ينتظر منها العون. وظلمته حيث كان يطلب إليها الإنصاف!

أخذ الشك في نياته يتسرب إلى نفوس النواب، والشك إذا تملك النفس يعمي ويصم، وليس مثله داء يبدل عرف الناس نكرا، ويجعل نهارهم ليلا، ويلبس الحق بينهم بالباطل. أنظر إلى هؤلاء النواب كيف يرون في رجلهم اليوم رجل الأمس، تخيفهم طويته وإن أعجبتهم حجته، أو تريبهم حماسته وأن هزتهم فصاحته، وتدفعهم إلى معارضته بديهته وإن أنقذتهم يقظته! ولكن أخيل الثورة لم تلن قناته وإن جاء غمزها ممن يعمل لهم، ولم تنفك عنه عبقريته وإن التوت عليه الأمور أو كادت؛ وظل يبسط آراءه للناس وينذرهم أن الثورة تقتل نفسها إن جرد الملك من سلطانه وجعل التشريع والتنفيذ جميعاً للشعب. وكان قد أدرك يومئذ أن الملك بعد أن صار رهينة في باريس، وبعد أن ترامى إلى سمعه وسمع حاشيته ما يريد العامة بنفوذه، وما تقول الصحف عنه، لابد أن يفكر في الالتجاء إلى أعداء البلاد، وما لبث ميرابو أن تحقق من ذلك، إذ علم أن المفاوضات كانت جارية بين البلاط الفرنسي والبلاط النمسوي؛ ومعنى هذا أن الحرب عما قريب ستكون كبرى مصائب البلاد!

وفي هذا الجهد الذي يبذله ميرابو دليل على مقدرة فائقة في السياسة تزيد إعجابنا بهذا الرجل، ويدحض فرية من يصفون أعماله بالهدم، وتسخر ممن يذكرونه فيجرؤن على تسميته كبير الغوغاء! على أن لكل عظيم حساده وأعداءه، كما أن له مناصريه وأصفياءه. وليست الحنكة السياسية فحسب ما ينطوي عليه موقف ميرابو، بل إن المرء ليعجب ببسالته، حين يواجه الثوار بتلك الآراء وحين يترفع عن تملق الشعب واسترضائه، وحين يجعل الإخلاص لما يرى أنه الحق فوق العواطف والأهواء الشعبية، ولو لم يكن له غير ذلك من المآثر والصفات، لعد بذلك الخلق وحده عظيما من العظماء!

يئس ميرابو من النواب ولكنه لم ييئس من نفسه وسنراه اليوم يخطو خطوة جعلها خصومه كبرى خطيئاته، وأود لو أجعلها كالعنوان من حسناته لولا ما أحاط بها من ظروف وما اكتنفها من ظنون، بل وما لحق بها من عيوب!

كان طبيعياً أن يلجأ إلى الملكية بعد أن أعياه صرف الشعب عن غيه، وبعد أن حيل بينه وبين منصب رسمي يستعين فيه بالقوة على تنفيذ سياسته. ولو أن نواب الجمعية أدركوا حقاً مصلحة وطنهم لعلموا أن هذا الرجل كان يومئذ خير من يضطلع بأعباء الحكم. ولكنه حين اقترح عليهم السعي إلى استبدال الوزارة القائمة بوزارة قوية بادروا إلى إصدار قرار يحرم الوزارة على كل عضو من أعضاء الجمعية، وما كان المقصود بهذا القرار سوى ميرابو وحده! ولقد ثارت ثائرته لهذا القرار، فلم يتمالك أن صاح بالنواب قائلا: (سوف تذرفون الدمع دماً على ما تفعلون). وندم ميرابو أشد الندم أو قل أسف أشد الأسف على أن لم يكن بباريس عقب سقوط الباستيل، إذ لولا غيابه عنها لتشييع رفات والده لانتخب عمدة لها بدل باي، ولقد كان هذا المنصب يمكنه من صد تيار العنف أو على الأقل يمهد له سبيل الاتصال بالملك.

وهل كان في تطلع ميرابو إلى الحكم ما يشينه؟ كلا بل إن في ذلك ما يزيدنا احتراماً له وتقديراً لسياسته مادام الحكم إحدى وسائله إلى تنفيذ غرض يعتقد حقاً في صلاحيته، فضلا عن دفعه به خطراً يكاد يجتاح البلاد. وإن أعجب فعجب عد ذلك من نقائصه أو من نقائص أي زعيم في مثل موقفه يرى في الحكم طريقا إلى الخلاص! إن النقيصة كل النقيصة ألا يسعى الزعيم في تلك الحيلة ما وسعه السعي للوصول إلى الحكم

خطا ميرابو خطوته نحو الملكية ووسط صديقه لامارك لدى البلاط، وأخيراً قبل الملك أن يستعين بآرائه، وصار ميرابو منذ مايو سنة 1790 المستشار السري للملك! وهنا يأبى سلوكه الخاص إلا أن يختلط بسياسته العامة فيلحق بها كثيراً من الشوائب أطلق الناس فيما بعد من أجلها ألسنتهم فيه بكل فاحش من القول وباطل من الاتهام. وبيان ذلك أن ميرابو وقد غرق في الدين من أخمصيه إلى قمة رأسه بسبب تبذيره من ناحية وبسبب انشغاله بشؤون وطنه عن شؤونه الخاصة من ناحية أخرى، قد قبل أن يدفع عنه الملك ديونه وأن يجعل له أول كل شهر ستين ألفاً من الفرنكات

أيفسر عمله هذا بالخيانة؟ ويعتبر قبوله المال رشوة؟ هل غير خطته فمالأ الملك على حساب أمته في نظير ما أخذ من مال؟ كلا! بل لقد ظل أميناً لمبدئه وفياً لوطنه، إذاً فمن الظلم أن يفسر عمله بالخيانة، ومن الإسراف أن نعتبر قبوله المال رشوة، بيد أني وإن نفيت الخيانة والرشوة عنه وشايعت من يعتبرون هذا المال مكافأة له على خدماته، لا يسعني إلا أن أقرر أنه ليؤلمني أن يلجأ من كان له مثل عظمته وبسالته إلى العمل في الخفاء مهما كان من نقاء طويته ومهما جر ذلك من غضب الشعب عليه، كذلك ما كان لزعيم أن يبيع خدماته بالمال ولو عدم قوت يومه

أخذ ميرابو يقدم التقارير للملك، كما أخذ يدافع بكل ما في نفسه من قوة عن مبدأ الملكية الدستورية، ولكن الجمعية أوشكت أن تتم الدستور في سبتمبر وجعلت حق الملك في الاعتراض على القوانين حقاً معلقاً، ولم يسع الملك سوى الإذعان، فلقد أصبحت باريس قوة خطيرة وظهر اليعاقبة أبطال الإرهاب فيما بعد واستهان الناس بالملكية واجترأت عليها الصحف والأندية

على أن الأمر قد أصبح اليوم أعظم خطراً من الدستور وما يتعلق بالدستور. فلقد يئس الملك من الثورة وما تدعوا إليه ويئس أصحاب الثورة من الملكية وما تحافظ عليه، ولذلك لم يكن عجباً أن يلجأ الملك إلى أعداء فرنسا، وأن يلجأ الثوار إلى الاستعداد واليقظة حتى لقد عول الملك على الهرب سراً!

وكان ميرابو الرجل الوحيد الذي لم يأخذه دوار الزوبعة فألم بالموقف من شتى نواحيه، وتمثلت لعينه الساهرة تلك الهوة السحيقة التي أوشكت أن تتردى فيها البلاد، فتلفت حوله عله يصيب من يعينه، فهذا موقف يتطلب معونة الرجال، ولكن بصره وا أسفاه ارتد إليه خائباً، فلقد أبى سوء طالعه، أو على الأصح سوء طالع فرنسا إلا أن تحرم من خبرة الرجل الوحيد الذي كان يستطيع خدمتها، إذ أحيط بالريبة من جميع الجهات. تطلع إلى الملكة وكان يقول: (إنها الرجل الوحيد في حاشية الملك)، ولكن الملكة لم ترى فيه سوى صعلوك يتكلف خلال العظماء على حساب الظروف، وتطلع صوب الملك، ولكن الملك ما وثق به يوماً وما كان يرى فيه إلا خصما يظهر عكس ما يبطن، ولذلك اتقى شره فاشتراه بماله واحتمى خلفها. كتب شاتوبريان بعد الثورة يقول: (كانت المأساة الحقيقية أن الملك في أحرج أيامه لم يثق في هذا الرجل، وما كان يضره أن جاء ذلك متأخراً. وما كان يضره أن يعمل بنصائحه أو أن يتقبلها قبولاً حسناً ولو في ظاهر الأمر، وأي مأساة لعمري أفظع من أن تهيئ الأقدار رجلاً مثل هذا، وفي مثل هاتيك الظروف فلا ينتفع به؟! على أنه وقد أعوزه الرجال قد اهتدى إلى رجل واحد، وذلك هو شخصه، هو نفسه، فأطلع الملك على جلية الأمر ذاكراً له أن الهرب معناه التنازل عن العرش وضياع حقه فيه، وما على مولاه سوى أن يخرج في جيشه إلى مدينة غير باريس فيتحاكم إلى شعبه طالباً إنصافه ومعونته معلناً رضاءه عن مبادئ الحرية والمساواة، ولو فعل لانتصف له الشعب، ولكنه لم يفعل وما كان مثله ليستطيع ذلك، وليس من يفكر في الهرب بقادر على أن يواجه الحقائق ولكن هل يدنو اليأس من ميرابو؟ كلا. فما كان ليزداد على الشدة إلا مضاء وعزماً، فوقف كالطود يتلقى عن البلاد السهام ويطرد عنها شبح الحرب، ويجد في إنقاذها من الجوع، ويسعى في التقريب بين الملك والثورة، يواصل العمل طيلة يومه وشطرا من ليله حتى لقد قال عنه كاي ديمولان: (لقد كان يوم هذا الرجل بعشرة أيام من عمر غيره)

ولكن الموقف ازداد سوءا على سوء حين وقفت الجمعية موقفها من رجال الدين وأعلنت الدستور المدني للكنيسة بحيث صار منصب الأكليروس بالانتخاب على أن تدفع لهم الحكومة أجرا ويستولي على أراضي الكنيسة وعشورها مما أغضب البابا وأزعج الملك فأعلن اعتراضه على قرارات الجمعية، ولكن أنى للجمعية أن تفرض له اليوم وجودا؟ لقد أجابت على عمله بأن من لا يقسم اليمين على احترام ذلك الدستور جزاؤه الطرد

أدر الدفة يا ربانها! لكن الأيدي تتكالب اليوم عليها والريح جانحة عاتية. والربان يغالب المرض ويتحامل على أعصابه، بل ويستمهل الموت. ما باله يدخل الجمعية في مارس سنة 1791 مصفوراً مضعوفاً على خلاف عادته، ما باله يكتنز كل يوم وما بال بريق عينيه يتضاءل لولا ما يشع فيهما من يقين وعزيمة؟ ترفق أيها الموت بالربان! إنه رجل أمة بل إنه أمة في رجل!

يا لقسوة القدر! ولكن أنى لجسم مهما كانت قوته أن يطيق مثل ذلك المنصب؟ وحسبك أن تعلم أنه خر مغشياً عليه في أواخر مارس وهو في طريقه إلى الجمعية ولكنه على الرغم من ذلك وصل إليها وألقى خطاباً مطولا. لا. إنه يسر إلى صديق من أصدقائه أنه يموت!

وفي أوائل أبريل في أشد ما تكون الحاجة إليه يرقد هذا الطود الأشم، ويحيط الناس بمنزله من جميع الطبقات والهيئات، والأطباء يصدرون تقاريره مرة كل ثلاث ساعات، والملك يستفسر في السر مرات وفي العلن مرات، والأندية تستنبئ عنه بلا انقطاع، والشعب يعلق أنفاسه في انتظار ما يطمئنه وقد غشيه من الهم ما غشيه

والرجل عظيم في الموت كما كان عظيما في الحياة، يقول لصديق يستند له رأسه: (ليتني أعيرك هذا الرأس) ويسمع صوت المدفع فيقول: (أهكذا يحتفى بدفني كأخبل) ويتذكر الملكية فيقول والأسف يمزق نياط قلبه: (إني أحمل معي الملكية إلى القبر) ويفيق الناس من غشيتهم على الخبر الفاجع، فتفيض عيون وتدمى قلوب، ويخرج شعب بأسره يشيع جثمان رجله، وتقضي العاصمة أياماً في حدادها، ويجهش أشداء الرجال بالبكاء في طرقات الجمعية وفي ردهات البلاط، ثم. . . ثم تسير السفينة بلا ربان!

إنه فرد ينقص من البلاد، ولكن فرنسا يزعجها ويهولها ما ترك وراءه من فراغ، ولم تلبث الكوارث أن داهمتها من كل صوب، فلقد فر الملك وألقي القبض عليه عند الحدود، ثم وقف عن عمله، واندلعت فرنسا في طريقها إلى الحرب، ثم إلى إعدام الملك، ثم إلى المذابح الأهلية وعهد الإرهاب!

ولو عاش ميرابو عاماً واحداً لتغير تاريخها، بل وتاريخ العالم؛ ولكن للقدر أحكاما مباغتة هي التي تصنع التاريخ!

الخفيف