مجلة الرسالة/العدد 15/العبقرية. علم وأدب وفن

مجلة الرسالة/العدد 15/العبقرية. علم وأدب وفن

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1933



للأستاذ الحوماني

واختلال نظام الحياة في الجسم مدعاة كبرى لاختلال نظام الحياة في الروح لشدة تلازمهما بشدة امتزاجهما، فإذا كان لمحيطك جزء فيك ولك فيه مثل ذلك بصحبتك إياه زمنا ما، فما قولك بصحبة الروح للجسم أزمانا يقصر العقل دون حدها؟

ولا تنس أنك وأنت تلحظ ما يدفعك اليها مستعرضا ما يحف بها من هذه العوامل، أنك جد عاجز عن لحاظ ما يردعك عنها من مرجحات العفاف.

وهكذا تراك، وأنت تلحظ مرجحات الفعل قاصراً بطبعك أن تلحظ مرجحات الترك، ضرورة أنه يستحيل على المرء أن يفكر في أمرين في وقت واحد فيجمع بين النقيضين، فاحفظ هذه لترجع اليها قريبا.

فالذي يدفعك إلى هذا العمل أو سواه من وراء الإرادة لقوة عوامل الدفع من الخارج في نفسك، والذي يردعك عنه لقوة نقيضها من عوامل الردع، والذي تستعرض به هذه العوامل أو غيرها في المجتمع، والذي يميز هذه الخواطر وهو يتصفحها فيفاضل بينها، والذي يخزنها في إحدى زوايا النفس أو يطبعها على صفحات القلب، والذي يستخرجها عند مسيس الحاجة إليها ويبحث عنها فيما إذا خفيت وراء الضمير، والذي يدرس بها الحوادث الخارجية درساً يستحيل مَلكَة في النفس تعصمها عن الزلل في الحياة، والذي تحس به ما تمسك إليه الحاجة في نفسك أو في بدنك، والذي يلهب جسمك تصوره ويحدم صدرك بما يتأثر به من عامل، والذي يزاوج بين محسوساتك فيستخرج من الحقيقة خيالا عن طريق الإبداع في التصوير، كل ذلك واحد لا تتعدد حقيقته، وجزئي فيك من ذلك المعنى الكلي تتعدد أسماؤه بما يتكيّف به من شكل ولون خارجيتين

فإذا استعرض الحوادث وحاكم بينها ليميز حسنها من قبيحها كان فكراً، وإذا حملك على فعل الحسن لقوة ما يحفه من عامل خارجي كان عقلا. وإذا دفع بك إلى اقتراف الإثم لما تحصّل عنده من ترجيح بسبب ما يحفه من عامل كان هوى، فإذا خزن ما يمر به من خواطر في إحدى زوايا النفس سمي حافظة، ثم إذا هو استخرجها بعد حين أو راح يبحث عنها سمي ذاك وإذا درست به الحوادث فربى فيك ملكه الاستنباط سمى حذقاً ودهاء، وهكذا قد تتصور به مباشرة أو عن طريق حواسك ما تنفعل به نفسك فينتج سروراً أو حزناً ينتجان لذة أو ألما فتدعو ما ينتج عنه عاطفة.

وقد يبدع في التصوير أو يتصور مرغما بدافع الوهم الخارجي فيعطيك على طريق العبث بالحياة أو الخطأ في التصور صورا خيالية ينتزعها من الحقيقة فتسميه خيالا أو وهماً

فالعقل والفكر والحذق والحافظة والذهن والفطنة والذكاء والحلم والهوى النفس الأمارة بالسوء والشيطان، كل ذلك مصدر، واحد لهذا العمل الخارجي، يتلون بالعوامل التي تحف بالعمل محسنه ومقبحه، يلبس لكل مؤثر لونا غير لونه مع مؤثر آخر، ويدعى معه باسم كان قد دعي مع غيره باسم آخر

أما استلزامه في الدين حكم الجبر فذلك مما أرجحه، والدين إنما كان لتربية المجتمع تدريجا ليستحيل الهوى فيه عقلا، ويحول المثل الأدنى فيه مثلا أعلى بحكم التطور، إذ الخصائص النفسية بعد الإرادة غرائز تكونت من الكسب الاجتماعي، والجبر لا مناص منه قبل هذه الاستحالة وبعدها، فالمرء مع الهوى المطلق مجبر على كونه شيطانا، ومع العقل المطلق مجبر على كونه ملكا.

فعلى هذا يكون مناط المثل الأعلى والمثل الأدنى في المرء واحدا ولكنه باعتبارين مختلفين، ولا عجب في ذلك فالمرء يجمع الأضداد، فبينما هو الحليم الرزين في حالة، إذا هو الأحمق الطائش في حالة أخرى، وبينما هو الشجاع المقدام في مشهد، إذا هو الجبان الرعديد في مشهد آخر، فليس ذلك ناشئا فيه إلا بفضل هذا السر الغامض الكامن في نفسه المتلونة. وربما استقام لنا أن نخص المثل الأعلى بالعقل، ونعزو المثل الأدنى للإرادة، إنما لابد لنا ونحن نمشي مع رغباتنا إلى العمل السيء بعد المحاكمة العقلية وثبوت قبح هذا العمل لدى العقل أن نتساءل أين ذهب عنا ما نسميه عقلا فلا نحصله إذ ذاك إلا بعد أن نلتفت إليه؟

فما هو هذا الذي نلتفت به إلى العقل؟

هل هي الإرادة وهي التي تدفعنا؟

ثم أين يكون العقل ونحن في انغماس بما تحملنا الإرادة على الخوض فيه خلاف العقل؟ فهل نفقده إذ ذاك ويكاد يكون جزءاً مقوما في النفس، والنفس بمجموعها تيار لا ينفك متلاطما، ولا يخبو له نشاط حتى يتعطل ما يمسكه من آلة.

فهل يذهب به إذ ذاك اختلال مركزه العصبي بينما نستطيع استرجاعه بأقل التفات؟

(النبطيه) جبل عامر