مجلة الرسالة/العدد 163/ذكرى. . . .!

مجلة الرسالة/العدد 163/ذكرى. . . .!

ملاحظات: ذكرى Souvenir هي قصة قصيرة بقلم غي دي موباسان نشرت عام 1882. نشرت هذه الترجمة في العدد 163 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 17 أغسطس 1936



للقصصي الفرنسي موباسان

بقلم الأديب محمود البدوي

ما أمتع الربيع وغصن الشباب رطيب وماء الحياة يجري! وما أشجاه والشباب يولي والرأس يشتعل والحياة تدبر! لا زلت أذكر أي مخاطرة عظمى كانت الحياة في تلك الأيام الخوالي، وقد اعتدنا أن نجوب معاً خلال باريس رائجين مع الصبا بقلوب نزقة ونفوس مرحة، يملؤنا الرجاء، وتحف بنا النعماء، دون أن نعير الدنيا التفاته أو نحسب لها حساباً.

سأقص عليك إحدى هذه المغامرات التي وقعت لي منذ أمد مديد وعهد بعيد، حتى يصعب علي الإقرار بصحتها والتسليم بما فيها. كنت في الخامسة والعشرين من عمري، ولم يمض علي في باريس غير عهد قصير. كنت أخرج كل أحد مجدا في البحث عن مخاطرة أو مغامرة وأنا ممتلئ شباباً وفتوة. والآن. . . ما الذي تشابهه أيام الآحاد؟ أيام مروعة يضيق فيها المرء ذرعاً بكل فكر يثبته أو يتحدث به وبكل صحب يرافقه.

استيقظت في ذلك الصباح مبكراً وفي نفسي هذا الإحساس بالحرية الذي يعرفه أولئك الذين يعملون طيلة الأسبوع والذين ينظرون إلى يوم الأحد كيوم راحة وحرية. فتحت نافذتي ورمقت الجو البهيج وحرارة الشمس الفائضة والعصافير المغردة.

ارتديت ملابسي على عجل، وخرجت لتمضية يوم في الغابة الحبيبة خارج باريس، وكانت المدينة كلها تلمع في ذلك اليوم المشمس، ووجوه المارين تفيض بالبشر والسعادة لحياتها وسط هذا الجلال الرائع، وانتظرت على شط النهر ذلك القارب الذي سيقلني إلى (سان كلو).

وانتظاري بهذا القارب بدا لي كأنه مخاطرة في نفسه، فقد تصورته آخذاً بي إلى نهاية الدنيا، إلى أمصار عجيبة جديدة. وشد ما ابتهجت عندما لمحته قادماً كقطعة صغيرة من السحاب أخذت تكبر تدريجياً حتى لاحت أمامي، ورست على امتداد الرصيف.

ركبت القارب فألفيت نفسي وسط رهط من المتنزهين الذين ينعمون بلذائذ الأحد ومتعه، ووقفت على سطحه أرقب الأرصفة والمنازل والأشجار وهي تتوارى عن العين، حتى خلفنا باريس وراءنا، وانساب بنا القارب إلى ماء هادئ ساكن، تحفه السهول وتقوم عل جانبيه التلال الشاهقة، وفي أسفلها الغابات والأحراج والمراعي الخضراء الرطبة.

نزلت في (سان كلو) وتخطيت مسرعاً القرية الصغيرة ثم أشرفت على الطريق الذي سيقودني إلى الغاب، وكان معي خريطة لباريس وما يجاورها، ولذا فلن أضل الطريق إذا وليت وجهي شطر إحدى هذه الطرق الصغيرة التي لا تعد والتي تؤدي على اختلاف امتدادها إلى الأحراج. وبعد فحصها رأيت أنه علي أن أتيامن ثم أتياسر ثم أنعطف إلى اليسار ثانية إذا وجب أن أصل فرساي وقت العشاء.

سرت متمهلاً أسحق الأوراق الجافة بقدمي وأنشق الهواء العليل المعطر ناسيا كل ما يتصل بالمكتب والعمل والرئيس، وفكرت فقط في المستقبل المجهول الذي سيزاح لي ستره، والذي فيه كثير من الجمال المحتمل. وذكرتني بساطة الريف عهد الطفولة وجعلتني أشعر حقاً بأنني رجعت إلى الحياة طفلاً. فهناك نفس الزهور التي كنت أرى مثلها يانعة حول باب منزل أمي الصغير والحشرات التي في لون اللهب وهي تنساب متثاقلة على أنصال العشب الذي ينحني تحت ثقلها الضئيل.

أخذتني عيناي، وحملت بكل هذه الأشياء، ولما قمت كنت منعشاً تماماً وواصلت رحلتي. امتدت أمامي طرق جليلة من نبات السرخس وقد خطط بصف من زهر الكاميليا الأبيض الطويل. وهنا تبينت في نهاية الطريق شخصين قادمين نحوي، رجلاً وامرأة، ودار بذهني أنني سمعت من ناداني فحنقت على هذا التطفل الذي عكر علي صفو وحدتي الهادئة. وكانت المرأة تلوح بمظلتها والرجل في قميصه ذي الأكمام حاملاً معطفه على ذراعه ومشيراً لي.

استدرت وانتظرتهما وكانت المرأة تسير بخطوات سريعة قصيرة. أما الرجل فأفسح المجال لقدميه وكان يلوح عليهما الضجر والتعب.

تكلمت المرأة أولاً:

(سيدي. . . هل لك أن تتكرم بإخبارنا أين نحن؟ قال زوجي إنه يعرف كل فتر الريف المحيط ومع هذا فقد ضللنا الطريق!.)

(سيدتي أنت قادمة من فرساي وفي طريقك إلى سان كلو)

والتفتت إلى زوجها بحقارة: (ماذا! إننا قادمون من نفس المكان الذي نرغب العشاء فيه!!)

وهزت كتفيها معنفة ومزدرية الرجل الذي ارتكب هذا الخطأ.

كانت حسناء في رونق شبابها وربما كان هذا هو الذي حملني على إخبارهما عن رغبتي في العشاء بفرساي. وأخذنا بأطراف الحديث. . . ووبخت زوجها الحائر وهو كأنما أخذته نوبة جنون يعوي عواء غريباً في خفوت كأنما لا تسمعه آذان غير أذني.

(تيـ يـ يـ ـت. . . . تيـ ـيـ يـ يـ يت)

واستطردت زوجه تقول:

(أنت دائماً مخطئ، فأنت الذي قلت إن (لاتورنيه) يسكن في شارع دي مارتز والواقع أنه لا يسكن هناك، وأنت الذي قلت إن (سلست) ليست لصة مع أنها كذلك، وأنت و. . .

وأخذت تلوم زوجها على كل أفكاره الخائبة وأعماله وجهوده الضائعة في مدة حياته الزوجية.

وعبثاً حاول زوجها إسكاتها بقوله:

(ولكن يا عزيزتي. . . أمام هذا السيد. . . ما الذي سيتصوره. . . ليس هذا بسار له).

وختم هذا بصياحه البربري الوحشي الذي بدا لي أنه عارض فجائي لحالة عصيبة مضطربة، وهنا تحولت الزوجة الصبية إلي وغيرت سلوكها بسرعة وقالت:

(إذا كان السيد لا يعارض فسنرافقه وعلى هذا فلا خوف علينا من التيه في الغاب).

فانحنيت. . . وجذبت بذراعي إليها وأخذت تحثني عن آلاف الأشياء، عن نفسها، عن حياتها، عن أسرتها، عن العمل، وزوجها يسير بجانبها ناظراً من مرة لأخرى بلهف يميناً وشمالاً صائحاً.

(تيـ يـ يـ يت)

فقلت له أخيراً:

(ما الذي يجعلك تصيح هكذا؟)

فأجاب بقلق:

(فقدت كلبي الصغير المسكين وما أتم الحول، أخذته معي اليوم لأول مرة ليرى الريف وكاد أن يجن من الفرح، كان يتوثب وينبح ويجري إلى الأحراج، ربما يموت جوعاً إذا ضل السبيل، أواه، الصغير المسكين).

فعنفته زوجه (إنها غلطتك. . . أنت أبله. . أه. . إنك تحملني على الغضب).

غربت الشمس وأخذ الضباب المتكاثف يحجب حوافي الريف، وتأرج الغاب بعبير الزهور الذابلة. . توقف الزوج يبحث في جيوب صديريته باهتمام.

(عزيزتي إني آسف. . . . نسيت. . .).

فرمقته وهي تتميز من الغيظ.

(ما الذي تعمله الآن؟).

(يبدو لي أنني نسيت محفظتي. . . وفيها نقودي).

فامتقع لونها من الغضب.

(لقد عيل صبري. . . آه. . أيها الغبي. . حتى النساء ترمي بمثل هذا المأفون. . . اذهب وابحث عنها حالاً، وحذاراً من العودة بدونها، أما أنا فذاهبة إلى فرساي في حماية هذا السيد فلا أرغب في المبيت في الغاب).

فأجاب بوداعة:

(حسناً. . يا عزيزتي. . . وأين أراك؟).

فحدثته عن مطعم معين أنيق جداً، ووعد بموافاتنا هناك، ثم غادرنا يبحث عن كلبه. . .! ومن آونة لأخرى كنا نسمع الصياح الحاد:

(تيـ يـ يـ يـ يت) الذي أخذ يتضاءل كلما بعد.

وتكاثف الضباب فحجب أعالي الأشجار وانساب في خلال الفروع واستطعت بعد لأي أن أميز بناء جسم مرافقتي، ونحن نسمع من حين لحين صياح (لامنتابل):

(تيـ يـ يـ يـ يت).

وأسرعت الخطى سعيداً جذلاً بهذه الرياضة الجميلة في الغسق مع امرأة مجهولة تستند على ذراعي وتميل نحوي. وبحثت عن أشياء أقولها عن عبارات سامية، أو نكات مستملحة. . على أني لم أوفق لكلمة واحدة. والحق أقول ما كنت في حاجة لشيء من هذا.

ووصلنا إلى طريق رحب تقع على يمينه مدينة كبيرة في واد خصيب وسالت ماراً عن اسمها فأخبرني أنها بوجيفال فدهشت.

(بوجيفال!. . أمتأكد أنت؟).

(حسن!. . . تصوري بأنني ولدت هنا).

وأخذت المرأة النحيلة تضحك لإضلالنا الطريق بقلب طروب، فعزمت على ركوب عربة إلى فرساي ولكنها رفضت.

(أه. . لا. . حقاً. . . إني لا أتعطش إلى ذلك ولا أتلهف عليه، وزوجي في استطاعته أن يراني في وقت ما، وأضف إلى هذا أني سأكون أمام مخاطرة سارة لم أرها من قبل).

ودخلنا مطعماً على حافة النهر، واجترأت على طلب غرفة خاصة. . . والحق أنها. . . متعت نفسها. . استسلمت. . كنا في حالة نشوة لذيذة. . غنت وشربت الخمر، وفعلت أكثر من هذا. . . فعلت في الواقع كل ما تستطيع عمله. . .

محمود البدوي