مجلة الرسالة/العدد 168/الجاحظ

مجلة الرسالة/العدد 168/الجاحظ

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 09 - 1936



في مقالة (الفلسفة والإلهيات)

للأديب محمد طه الحاجري

جاء في المقالة التي نشرتها (الرسالة) عن (الفلسفة والإلهيات) مترجمة عن الأستاذ الفرد جيوم، بقلم الأديب الفاضل توفيق الطويل عبارة مروية عن شيخ الكتاب أبي عثمان الجاحظ في صدد الدعوى بأن مرد الفلسفة العربية في مادتها وصورتها وغايتها إلى حضارة البلاد التي غزاها العرب، وأن المعين الذي استقوا منه مذاهبهم هو الفلسفة اليونانية.

والذي يجب التنبيه إليه أولاً هو أن هذه العبارة مروية بالمعنى، بل بأصل المعنى، لا بالنص الذي كتبه الجاحظ، والذي لا ينبغي أن يعدل عنه أو يتسامح في إيراده، إذا كنا نلتزم الأسلوب العلمي (الجامعي) في البحث والاستشهاد، ولا سيما حين يكون النص المروي من ميراثنا الأدبي، ردّ إلينا، وورد في سياق عربي وموضوع عربي، ثم كان بعد ذلك لإمام من أئمة الأدب العربي. أما أن يترجم النص إلى الإنجليزية، مع ما تستلزمه طبيعة الترجمة من إضعاف المعنى وإخفاء بعض خصائصه، ثم ترجمة هذه الترجمة إلى اللغة العربية، فصنيع غريب من شأنه أن يهلهل المعنى وينهكه، حتى لا يبقى منه في العبارة المنقولة إلا ظل خفيف ناصل. ولقد عرض الجاحظ نفسه لهذا المعنى في كتابه (الحيوان) في سياق كلامه عن الترجمة وخصائصها.

ولكن وزر هذه المخالفة للأسلوب العلمي لا يرجع، فيما نحسب، إلى المترجم الفاضل بقدر ما يرجع إلى ضعف الروح الأدبية العربية التي تركت الجاحظ - وهو شيخ الكتاب وأمير البيان العربي بلا منازع - مغمور القدر مجهول المكان، وتركت ما أبقت عليه أحداث الزمن من ذخائر كتبه - وهي طرف فنية لا تكاد تظفر المكتبة العربية بما يناظرها - وكأنما هي كتب ألغاز وطلسمات من كثرة ما منيت به في نشرها من تحريف وتصحيف وخرم وتشويه وسوء طبع وفساد كبير.

أما أصل هذه العبارة المترجمة فهو - فيما نرى - ما يلي: (مأخوذاً من كتاب الحيوان، الجزء الأول، صفحة 42، 43 في أثناء الفصل القيم المستفيض الذي كتبه الجاحظ في فضل الكتب والترغيب في اصطناعها).

(ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، وخلّدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيَرها؛ حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لما حسن حظنا من الحكمة، ولضعف سببنا إلى المعرفة).

أما الاستشهاد بهذه العبارة التي سيقت في فضل الكتب على تلك الدعوى العريضة التي يلج الكاتب فيها، والتي يزجيها الهوى وتصوغها العصبية، فاستشهاد ضعيف متهافت كما ترى، فليس فيها إلا ما بقوله كل ناظر في تاريخ العلم من أنه حلقات متصلة مترادفة، يكمل لاحقها سابقها، وينبني آخرها على أولها إنبناء الحاضر على الماضي، في جميع مجالات الحياة وفروع المعرفة، وإن كتب الأوائل هي التي أوجدت هذه الصلة، ومهدت للفكر العربي سبيله.

على أن هذا الاستشهاد غريب من ناحية شخصية الجاحظ، فإنه من المثل القوية التي تبين إلى حد كبير بروز الشخصية العربية في عالم المعرفة، واصطباغها صبغة مستقلة. ويلاحظ قارئ كتابه الحيوان أنه كثيراً ما ينقل عن صاحب المنطق بصيغة التمريض: (وزعم صاحب المنطق) ويعقب عليه أحياناً بعبارات يتبين فيها اعتداده بنفسه، إذ يقول مثلاً: (وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما يليق بمثله أن يخلّد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الامتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء).

أمثل صاحب هذا الأسلوب الشامخ بنفسه يزج في معرض الاستشهاد على أن الفلسفة العربية ليست إلا صورة من الفلسفة اليونانية، مشوبة ببعض الفلسفات الفارسية والهندية؟!

وبعد، فنرجو ألا يحسب أحد أننا نغض بهذه الكلمة العاجلة، وبهذا التعقيب على صورة من صور الاستدلال من القيمة العلمية لكتاب (تراث الإسلام) الذي نرجو أن نرى فيه صورة من صور البحث الدقيق إن شاء الله.

محمد طه الحاجري