مجلة الرسالة/العدد 216/حول الثقافة العربية

مجلة الرسالة/العدد 216/حول الثقافة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1937



للأستاذ قدري حافظ طوقان

إن من يطالع المؤلفات الحديثة عن الحضارة العربية يرى آراء متضاربة في الأساس الذي قامت عليه، وفي المناهل التي استقت منها؛ ويرى كذلك تحاملاً عليها وانتقاصاً لقيمتها. فبعض المؤرخين لا ينسب إلى العرب أي فضل في خدمة المدنية، وينفي عنهم الابتكار، ويقول إنهم لم يكونوا غير نقلة للعلوم، وإن نتاجهم العقلي هو من الدرجة الثانية من حيث قيمته وأثره على تقدم العلم، وإنهم كانوا متأثرين بالثقافة اليونانية وقد اتبعوها وفضلوها على غيرها. وهناك فريق آخر من الأوروبيين يرى غير ذلك، ويقول بأن العرب فضلوا الثقافة الهندية وتأثروا بها أكثر من غيرها، وإنهم كانوا عالة عليها اقتبسوا منها أكثر ما جاءوا به من آراء ونظريات في العلوم والفنون، ويرى هذا الفريق في هذا نقصاً معيباً وناحية الضعف في الحضارة العربية

وقد حاولت أن أعرف الأساس الذي يبني عليه هؤلاء العلماء أقوالهم وأحكامهم في الحضارة العربية، فتوصلت بعد بحث إلى أن الأساس الذي يعتمدون عليه في هذا الشأن هو هذا الاقتباس، إذ يرون فيه النقطة الضعيفة في تاريخ العلوم والفنون عند العرب

إن اقتباس العرب عن اليونان أو الهنود أو غيرهم ممن سبقهم من الأمم لم يكن إلا بموجب غريزة في الإنسان تميزه عن الحيوان، فالإنسان على رأي الفيلسوف كورزبسكي يأخذ دائماً ما عمله غيره ويزيد عليه، وإن قوة الإنتاج في (الإنسان) لا تقوم وتقوى إلا على نتاج السابقين. وعلى هذا فليس في الجري على هذه الغريزة عيب أو مجال للتنقص

لا ننكر أن العرب اقتبسوا عن غيرهم، وهذا الاقتباس مما ساعد على تقوية قوى الإنتاج فيهم، ومما أدرى إلى إصلاح الأخطاء التي وجدوها في تراث الأمم التي سبقتهم والى إضافة بحوث ونظريات هامة جعلت العلماء المنصفين يعتبرون بعض العلوم من موضوعات العرب. وتصفح بسيط لتاريخ العلوم في الرياضيات والطبيعيات والطب والفلسفة والفلك يثبت صحة رأينا ويريك خصب القريحة العربية بأجلى بيان

قال البارون دي فو: (إن الميراث العلمي الذي تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به، أما العرب فقد حفظوه وأتقنوه. . . فهو لم يكونوا حفظة وخزنة للعلوم فحسب، ولكنهم ت على ترقيتها وتطبيقها باذلين الجهد في تحسينها وإنمائها حتى سلموها للعصور الحديثة. . .) وقال الدكتور سارطون في إحدى محاضراته في جامعة بيروت الأميركية: (إن بعض الأوروبيين يحاولون أن ينتقصوا من قدر العرب العلمي في القرون الوسطى، وذلك بقولهم إن العرب لم يكونوا غير نقلة للعلوم ولم يزيدوا عليه شيئاً. . . هذا خطأ. . . وإذا افترضنا أن العرب لم يكونوا غير نقلة أليس في عملهم هذا خدمة كبيرة للعالم؟ فلولا نقلهم لما تقدمت العلوم تقدمها الحاضر ولكنا حتى الآن في قرون وسطى. . .)

ويعتقد الدكتور سارطون بأن نقل العرب لم يكن ميكانيكياً بل على الضد فليه روح وحياة

هذا من جهة الذين يعيبون على العرب نقلهم عن الغير، أما الذين يقولون بان العرب فضلوا ثقافة على أخرى فمخطئون، وسنحاول تبيان رأينا بإيجاز

اختلفت أقوال علماء الغرب في أي الثقافات فضل العرب فقال كاجوري إن الكرخي وأبا الجود والخيامي فضلوا الطريقة اليونانية على الهندية في استعمال الأرقام، وقال كانتور بوجود مذهبين مختلفين (في زمن البوزجاني) أحدهما يتبع الثقافة الهندية والآخر اليونانية، وقال أحد علماء الغرب بأن العرب تأثروا بالثقافة اليونانية وفضلوها على غيرها، وقال آخرون مثل ذلك في الهندية

والحقيقة أنه لم يكن موجوداً أي تفضيل، فقد كان علماء العرب في العصر العباسي يترجمون ما يقع تحت أيديهم من المخطوطات هندية كانت أو يونانية، فالبيروني ذهب إلى الهند وساح فيها بقصد البحث والاستقصاء والتنقيب، وكذلك محمد بن موسى بن شاكر ذهب إلى اليونان ابتغاء الحصول على مخطوطات ورسائل، وهناك من العلماء العرب من أوجدتهم ظروفهم إلى أن سيتقوا من ثقافتين أو أكثر وقد مزجوا ما استقوا وكونوا من ذلك ثقافة خاصة. وعلى هذا فلم يكن هناك فكرة تفضيل إحدى الثقافات على غيرها بل جمع العرب الثقافات المختلفة التي نهلوا منها وخرجوا من هذا الجمع بثقافة تميزهم على غيرهم من الأمم. وقد لاحظ الدكتور سارطون كل هذا فقال: (والعرب لم يقتصروا على علوم اليونان فحسب، بل أخذوا عن الهنود، وفي كثير من الحالات جمعوا بين الثقافتين الهندية واليونانية. . .) وسبق الجاحظ الدكتور سارطون فيما قال، فنجد في كتاب الحيوان ما يلي: (وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونان، وحولت آداب الفرس فبعضها ازداد حسناً وبعضها ما انتقص شيئاً. . .)

يتبين مما مر أن العرب لم يفضلوا ثقافة على أخرى، ولم يأخذوا بإحدى الثقافات ويتركوا البواقي، إنما هم طلاب علم راحوا يبحثون عنه في الكتب والمخطوطات والرسائل القديمة من يونانية وهندية وفارسية وحبشية وسريانية وعبرية وغيرها، فنقلوا ما عثروا عليه إلى لسانهم وهو معظم ما كان معروفاً من العلم والفلسفة عند سائر الأمم المتمدنة، وكان أكثر نقلهم عن اليونانية والفارسية والهندية؛ وقد يكون النقل عن اليونانية أكثر من غيره ولكن هذا لا يعني أن العرب فضلوا ثقافة على غيرها. وعلى فرض أنهم تأثروا بالثقافة الإغريقية، فهل هذا يعني أن نية علمائنا الأقدمين تفضيلها على غيرها. وعلى كل حال فالقول بأن العرب فضلوا ثقافة على أخرى أو القول بوجود مذهبين مختلفين أحدهما يتبع الطريقة اليونانية والآخر الهندية قول خطأ لا يجب أن يؤبه له وهو من خيالات المستشرقين، إذ لا يوجد من الأدلة ما يحققه بل على العكس لدينا شواهد عديدة تجعلنا نميل إلى أن العرب لم يخطر ببالهم تفضيل ثقافة على أخرى كما تجعلنا نميل أيضاً إلى القول بعدم وجود مذهبين مختلفين أو مذاهب مختلفة، وبأن المآثر العربية في العلم والفن تأثرت بعناصر الثقافات المتعددة التي ساعدت على إيجاد ثقافة عربية لها مميزاتها وخصائصها الممتازة.

(نابلس)

قدري حافظ طوقان