مجلة الرسالة/العدد 221/مصر في أواخر القرن الثامن عشر

مجلة الرسالة/العدد 221/مصر في أواخر القرن الثامن عشر

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 09 - 1937


2 - مصر في أواخر القرن الثامن عشر

كما يصفها الرحالة سافاري

للأستاذ محمد عبد الله عنان

أشرف سافاري على القاهرة بعد رحلة ممتعة في النيل، فلم ترقه العاصمة ولم تبهره مناظرها كما بهرته مناظر السكندرية؛ ذلك أن القاهرة التي كانت خلال العصور الوسطى أعظم مدن الإسلام، انتهت في أواخر القرن الثاني عشر إلى مدينة متواضعة تحيط بها التلال والخرائب ويصف لنا سافاري خطط العاصمة المصرية يومئذ، وضيق شوارعها وأزقتها؛ ولكن القاهرة كانت مع ذلك تلفت النظر بمساجدها الثلاثمائة وقلعتها التاريخية المنيفة، ويقدم إلينا سافاري عن القلعة وعن أبنيتها وسكانها صورة شائقة، فيقول لنا إنها فقدت مناعتها القديمة منذ اخترع الديناميت، وان لها مدخلين تحرسهما ثلة من الانكشارية وستة مدافع مصوبة نحو مسكن (الباشا) ذلك أن الانكشارية يمالئون البيكوات المصريين، والبيكوات هم الذين يملون إرادتهم على الباشا، وفي داخل القلعة قصر سلاطين مصر السالفين، قد غلب عليه العفاء والخراب، ولكن بقيت منه عدة أعمدة فخمة وجدران زاهية؛ وفي أحد أبهائه المهجورة تصنع الكسوة النبوية التي يحملها أمير الحج كل عام. ويسكن الباشا بناء كبيراً يطل على (قره ميدان)، ويعقد الباشا الديوان ثلاث مرات في الأسبوع في غرفة الديوان الشاسعة، وقد خضبتها دماء البكوات المصريين الذين فتك بهم الباب العالي قبل ذلك بأعوام قلائل. أما اليوم فهم سادة مصر، وليس لمثل السلطان أية سلطة فعلية، وإنما هو أداة في أيديهم يحركونه طبق أهوائهم، بل هو سجين في القلعة لا يستطيع أن يغادرها دون إذنهم. أما الانكشارية فيسكنون في قصر صلاح الدين وقد بقيت منه أطلال تدل على عظمته السابقة، وأربعون عموداً من الجرانيت الأحمر؛ وإلى جانبه توجد منظرة عالية تشرف على القاهرة، يرى منها منظر المدينة الرائع بميادينها ومآذنها وحدائقها وهنا لا يتمالك سافاري نفسه من أن يصيح: (أن المطل من هذه المنظرة لتأخذه نشوة من التأملات اللذيذة) ولكن يغشاه في الحال كآبة، فيقول لنفسه: (أن هذه البلاد الفنية التي كانت عصوراً ملاذ العلوم والآداب والفنون يحتلها اليوم شعب جاهل بربري يسومها سوء الخسف؛ أجل إن الطغيان ليسحق بنيره الحديدي أجمل بلاد العالم؛ والظاهر أن شقاء الإنسان يزداد بنسبة ما تقدمه الطبيعة لإسعاده. . .)

هكذا يقدم لنا سافاري ذلك المنظر المحزن منظر مصر الإسلامية وقد أودى الحكم التركي الغاشم بكل عظمتها وبهائها السابقين.

ويصف لنا سافاري ثغر بولاق الذي كان مدخل القاهرة يومئذ، ومرساه الضخم الذي يغص بمئات السفن، وما به من الخانات التي خصصت لسكنى التجار الأجانب وتخزين بضائعهم. وفي مياه بولاق أيضاً كانت ترسو سفن النزهة البديعة التي يتخذها البيكوات وغيرهم من الأكابر للنزهة والسمر في النيل أيام الصيف الحارة ولا سيما في الليالي المقمرة. ثم يصف الرحالة بعد ذلك جزيرة الروضة والمقياس، ويستعرض تاريخ مقاييس النيل وقصة وفائه؛ وهنالك في الروضة على مقربة من المقياس كانت طائفة من القصور الفخمة التي خصصها البيكوات للتنزه فيها مع حريمهم وهي منعزلة تحيط بها الرياض الفيحاء، ولا يسمح لإنسان بالاقتراب منها ولا سيما حينما يوجد بها حريم الأمراء.

أما الحياة الاجتماعية المصرية فيخصها سافاري بكثير من عنايته، ويفرد لها عدة رسائل شائقة؛ وهو يصف المصري بالكسل، ويقول لنا إن الجو يؤثر في عزيمته، ومن ثم فانه يميل إلى الحياة الهادئة الناعمة، ويقضي يومه في عمله وفي منزله، ولا يعرف المصري صخب الحياة الأوربية وضجيجها، وليست له أذواق أو رغبات مضطرمة. ونظام العائلة المصرية عريق في المحافظة، فرب البيت هو السيد المطلق؛ ويربي الأولاد في الحريم ويدينون للوالد بمنتهى الخضوع والطاعة والاحترام، ويعيش أفراد الأسرة جميعاً في منزل واحد، ويتمتع الوالد بكل مظاهر التكريم والإجلال ولا سيما في شيخوخته. ويجتمع أفراد الأسرة حول مائدة الطعام جلوساً على البسط؛ وبعد الغذاء يأوي المصريون إلى الحريم حيناً بين نسائهم وأولادهم؛ وفي المساء يتريضون في النيل في قوارب النزهة، ويتناولون العشاء بعد الغروب بنحو ساعة. وهكذا تجري الحياة على وتيرة واحدة. ويشغف المصري بالتدخين ويستورد الدخان من سورية ويخلط بالعنبر. وللتدخين أبهاء خاصة منخفضة يجتمع فيها السيد مع مدعويه؛ وبعد انتهاء الجلسة يأتي الخادم بقمقم تحترق به العطور، فيعطر للمدعوين لحاهم، ثم يصب ماء الورد على رؤوسهم وأيديهم.

والمرأة المصرية ماذا كانت أحوالها في ذلك العصر؟ يقول لنا سافاري إنها كانت كالرقيق لا تلعب أي دور في الحياة العامة؛ وإذا كانت المرأة الأوربية تسيطر على العروش، وتقود الآداب والعادات، فان دولة المرأة في مصر لا تتعدى (الحريم) ولا علاقة لها بالشئون العامة. وأعظم أمانيها أن تنجب الأولاد، واهم واجباتها أن تعني بتربيتهم. والحريم هو مهد الطفولة ومدرستها، وفيه يربى الأولاد حتى السابعة أو الثامنة. كذلك يعني النساء بالشئون المنزلية، ولا يشاركن الرجال في الظهور، ولا يتناولن الطعام معهم إلا في فرص خاصة، ويقضين أوقات الفراغ بين الجواري والغناء والسمر؛ ويسمح لهن بالخروج إلى الحمام مرة أو مرتين في الأسبوع. وهنا يصف لنا سافاري حمامات القاهرة، ومناظر الاستحمام والزينة، وكيف يشغف النساء بالذهاب إلى الحمام مع جواريهن، وهنالك يقضين أوقاتاً سعيدة بين مجالي التزين واللهو، ويستمعن في الأبهاء الوثيرة إلى الغناء وقصص الحب

وتستقبل المرأة زوارها من النساء بأدب وترحاب، ويحمل الجواري القهوة، ويدور الحديث والسمر، وتقدم أثناء ذلك الفاكهة اللذيذة، وعند الانتهاء من تناولها تحمل الجواري قمقم ماء الورد فيغسل المدعوات أيديهن، ثم يحرق العنبر وترقص الجواري. وفي أثناء هذه الزيارات النسوية لا يسمح للزوج أن يقترب من الحريم، إذ هو مكان الضيافة الخاصة، وهذا حق تحرص المصريات عليه كل الحرص. وقد ينتفعن به أحياناً لتحقيق أمنية غرامية، إذ يستطيع العاشق أن ينفذ إلى الحريم متنكراً في زي امرأة، فإذا لم يكتشف أمره فاز ببغيته، وإذا اكتشف أمره كان جزاءه الموت. والمرأة المصرية مفرطة في الحب والجوى، مفرطة في البغض والانتقام، وكثيراً ما تنتهي الروايات الغرامية بفواجع مروعة

وتوجد طبقة خاصة من نساء الفن هي طبقة القيان (العوالم)، وهؤلاء العوالم يمتزن بالذلاقة ومعرفة الشعر والمقطوعات الغنائية، ولا تخلو منهن حفلة، وتقام لهن منصة يغنين من فوقها، ثم ينزلن إلى البهو ويرقصن في رشاقة ساحرة، وأحياناً يبدين في صور مثيرة من التهتك، ويدعون دائماً في كل حريم، وهنالك يروين القصص الغرامية ويخلبن الألباب بذلاقتهن ورشاقتهن وفصاحتهن.

وهكذا يحدثنا سافاري بإفاضة عن الحياة الاجتماعية المصرية في أواخر القرن الثامن عشر، ولأحاديثه في هذا الموطن قيمة خاصة؛ فهي أحاديث باحث مطلع درس وشهد بنفسه، وملاحظات عقلية مستنيرة، تمتاز باتزانها ودقتها فيما نلاحظ وفيما تصف وتعرض وأخيراً يصف لنا سافاري آثار هليوبوليس والجيزة؛ ويقدم لنا عن الأهرام وأبي الهول صوراً شعرية ساحرة، ويستعرض مختلف الروايات عن أصلها وبنائها منذ هيرودوت إلى عصره. ويصف لنا منفيس وأطلالها، ويحدثنا عن الجيزة وخططها وتاريخها وعن الفسطاط ومعالمها وكنائسها وآثارها، كل ذلك بإفاضة ممتعة تتخللها مقارنات وملاحظات تاريخية قيمة؛ ثم يحدثنا بعد ذلك عن رحلته في دمياط وضواحيها، وكيف تتبع في رحلته سير حملة القديس لويس الصليبية منذ نزولها في دمياط وسيرها بعد ذلك حتى مدينة المنصورة. ويقدم إلينا خلاصة تاريخية لهذه الحملة الشهيرة مشتقة من المصادر الإسلامية ومذكرات دي جوانفيل مؤرخ الحملة وأحد شهودها

وإلى هنا تنتهي رسائل سافاري عن الوجه البحري ومدينة القاهرة والحياة الاجتماعية المصرية، وهذه الرسائل تشغل الجزء الأول من مؤلفه عن مصر، وهي أهم وأقوم ما في المجموعة. أما بقية الرسائل، وهي تشغل الجزأين الثاني والثالث، فيخصصها سافاري لوصف رحلته في الوجه القبلي، ووصف مدنه وآثاره وواحاته، ثم وصف الجو والإقليم والزراعة والتجارة، وديانة المصريين القدماء وآلهتهم، والنيل وخواصه الأزلية؛ وهذه الرسائل تحتوي كثيراً من البحوث والملاحظات القيمة، بيد أنها لا تقدم إلينا جديداً يعتد به، ولذا اكتفينا بالإشارة إليها

هذه خلاصة شاملة لرسائل العلامة المستشرق سافاري عن مصر في أواخر الثامن عشر، وهي رسائل لا شك في قيمتها وأهميتها؛ وإذا استثنينا مذكرات الجبرتي، فإن رسائل سافاري تعتبر أنفس وثيقة من نوعها عن أحوال مصر في هذه الفترة المظلمة من تاريخها؛ وتبدو قيمة هذه الرسائل بنوع خاص فيما تقدمه إلينا من صور الحياة الاجتماعية المصرية بإفاضة لا نجدها في مصادر أخرى؛ فهي من هذه الناحية وثيقة ذات أهمية خاصة. وقد كانت بحوث سافاري بلا ريب مصدراً من أقوم المصادر التي انتفع بها علماء الحملة الفرنسية فيما بعد حينما وضعوا موسوعتهم الشهيرة في (وصف مصر) بعد ذلك بنحو ربع قرن

تم البحث

(فينا في أوائل سبتمبر) محمد عبد الله عنان