مجلة الرسالة/العدد 236/في عليين

مجلة الرسالة/العدد 236/في عليين

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 01 - 1938


للأستاذ عباس محمود العقاد

سلفادور مدرياجا أديب إسباني كان أستاذاً للدراسات الإسبانية بجامعة أكسفورد. ثم ظهر في عالم السياسة الأوربية على أعقاب الثورة التي قام بها في بلاد الأسبان جمهرة الأدباء والمثقفين، فمثل حكومته في عصبة الأمم والولايات المتحدة وفرنسا، وراجت تواليفه التي تتمثل فيها عبقرية بلاده، فترجمت إلى معظم اللغات الغربية

وقد لازمته روح الأدب حتى في أعماله السياسية فرويت له طرائف شتى أثناء المناقشات المحتدمة في مشاكل الدول وأزمات الحكومات، ومنها انه حضر (مؤتمر السلاح) وسمع ما يقترحه كل فريق من الدول القوية من تقييد هذا السلاح أو السماح بذاك على حسب اختلاف العدة عند كل فريق، فأصغي إلى الأعضاء الجادين في مناقشاتهم ومساجلاتهم ثم قال:

(أيذكر مسيو لتفينوف خرافة الحيوانات التي اجتمعت للبحث في التقليم والتجريد؟ لقد نظر الأسد في ذلك المؤتمر إلى النسر ثم قال: علينا أن نلغي المخالب؛ ونظر النمر إلى الثور ثم قال: علينا أن نلغي القرون؛ ونظر الثور إلى النمر ثم قال: علينا أن نلغي الأظافر؛ ونظر الدب إليهم أجمعين ثم قال: بل نلغي كل شيء إلا حق الصراع والعناق!)

وعجب الناس من هذه المؤتمرات التي تجتمع ثم تفترق، وتفترق ثم تجتمع، وهي لا تأتي بنتيجة وتعلم أنها غير آتية بنتيجة. فذهب إليه مراسل بعض الصحف وسأله: ما جدوى كل هذا الاجتماع والافتراق وكل هذا الافتراق والاجتماع؟ وما يعني الساسة المحنكون بهذا العناء في غير طائل؟ فكان جواب مدرياجا للمراسل:

(أسمعت قصة الصبي اليهودي؟ إن كنت لم تسمعها فاعلم أن صبياً يهودياً تعود أن يصرف ريالاً أرباعاً ثم يصرف الأرباع سنتيمات ثم يعود فيرد السنتيمات في دكان آخر إلى أرباع فريال صحيح؛ وهكذا كل يوم بغير تحول ولا انقطاع. فتعقبه بعضهم يوماً بعد يوم ولحق به في طريقه بين الدكاكين فسأله كما تسألني الآن: فيم هذا العناء على غير جدوى؟ قال الصبي: لابد من يوم يقع فيه بعض الناس في خطأ حساب، ولن أكون أنا بعض الناس هؤلاء!) وقس على ذلك طرائفه التي يتناول بها معضلات السياسة بين الجد والمزح والنوادر والأمثال

آخر كتاب لهذا الأديب اللبق الأريب ظهر في اللغة الإنجليزية هو كتابه (في عليين) وهو على هذه الوتيرة محاورات وأمثال ومحادثات وقعت كما تخيلها في عليين بين أرواح العظماء المرفوعين إلى السماء:

منها روح فولتير الفرنسي وجيتي الألماني وكارل ماركس زعيم الاشتراكية وواشنطون ونابليون وماري ستيوارت ونخبة من طراز هؤلاء

وهي غير مقصورة على أرواح الأموات دون الاحياء، بل يشترك فيها بعض الأحياء الذين يستدعيهم أولئك العظماء من الأرض في حالة النعاس أو حالة الغيبوبة

ويدور البحث بين هذه الأرواح في كل ما يخطر لتلك العقول من مسائل الفن والسياسة والاجتماع، ويتخلل ذلك كلمات بعضها مخترع وبعضها مما روي عن قائليه أثناء الحياة؛ وقراءتها من أمتع ما يطلع عليه القارئ في الأدب الحديث

من أمثلة ذلك أنهم اختلفوا على مشاركة الولايات المتحدة للأوربيين في حل المعضلات العالمية. فأمر واشنطون باستدعاء روح من رجال مجلس الشيوخ المعارضين في ذلك. فجاء الروح وكان أول ما استشهد به قول الرئيس واشنطون في خطاب الوداع، وجرى الحوار على هذا المنوال

الشيخ - ولم يا سيدي؟ إن الجواب لظاهر. وتوقيراً لذكرى الرئيس واشنطون أعيد كلماته التي يعيها جميع الأمريكيين في أطواء القلوب. . . لقد قال: (إن لأوربا طائفة من المصالح الأولية التي لا مصلحة لنا فيها أو تكون علاقتنا، بها جد بعيدة، ومن ثم نتورط في أسباب الخلاف والشقاق التي لا تني تتعاقب وتتلاحق، وهي أسباب غريبة عن شواغلنا، فليس من الحكمة أن نزج بأنفسنا في غمارها، ونعقد الروابط المصطنعة بيننا وبينها، في أحوال سياستها المألوفة أو علاقات الصداقة والعداوة بين أجزائها)

ثم قال: (إن سياستنا هي أن ندير شراعنا بعيداً عن رياح الدول الأجنبية)

فالتفتوا جميعاً إلى القائد واشنطون فإذا به يقول:

واشنطون - عجيب! إنني لم. . . متى قلت ذلك يا حضرة الشيخ الموقر؟ الشيخ - أخالك أنت الرئيس واشنطون إنك لشبيه بتمثالك ولكن ليس بالشبه كله، أفأنت الرئيس واشنطون بعينه؟

واشنطون - نعم يا سيدي: ما يخلد منه

الشيخ - إني سعيد بلقائك أيها الرئيس. إن الكلمات التي سمعتها هذه اللحظة مقتبسة من خطاب وداعك

واشنطون (متذكراً) - وما ذاك؟

الشيخ - حسن أيها الرئيس. إنه الخطاب الذي ألقيته لدواع لست اذكرها الساعة، ولكني أذكر منها أنك ألقيته يوم اعتزمت ألا تغزو ميدان الانتخاب للرآسة

واشنطون - أغزو؟ أنا ما غزوت قط ميدان الانتخاب، ولكني أفهم ما تعنيه وإن كانت عباراتك غريبة عني بعض الغرابة

الشيخ - لم تكن من عباراتك. إلا أننا نحفظ دروسك عن ظهر قلب. لا اشتباك في المسائل الأجنبية!

واشنطون - ومع هذا يا حضرة الشيخ أقول لك إن الابتعاد عن حوافر الخيل سياسة حسنة لصغار الجراء، ولكنها ليست بالسياسة الحسنة لكبار الأفيال

ومن أحاديث الرسالة كلمة توجهها ماري ستيوارت إلى الشاعر جيتي - وهو أستاذها ودليلها في السماء - فتقول له:

(إنك أيها الأستاذ العزيز تطلب (الحرية في النظام) ولكني أرى أن الحرية راجحة على النظام، لأن الحرية خلاقة موجدة. أما النظام فقصاراه أن يحفظ ما هو موجود، وهو يحفظ كل شيء؛ ويا له من شيطان مسكين: يحفظ ما يستحق الحفظ وما هو حقيق بالتلف والزوال، وكأنه ربة البيت المجنونة بالشح والتدبير، فهو يحيط الحياة بنطاق من حديد؛ ثم تأتي الحرية - حرية الأرواح القوية - فتحطم النطاق ولا تزال تفتحه فتحاً يوسع أطراف الحياة)

ومن أقوال ماري ستيوارت في هذا الحديث: (ليست الحياة متاجرة، ولكنها مقامرة. وليست هي مقامرة الرجل مع رجال آخرين، وإنما هي مقامرة الرجل مع الحياة نفسها)

ويقول فولتير في بعض أحاديثه: (لست أزعم أنني موضع ثقة الإله وأنني مؤتمن على سره كالدكتور جيتي الذي يطلع على الأسرار الإلهية! بل إنني معترف بقلة الفهم لأساليبه، ومن ثم لست على يقين من أسباب لجميع هذه الأشياء)

فيقاطعه واشنطون قائلاً: لابد من أسباب على كل حال. فتصيح بهم ماري ستيوارت: أفكل شيء يجري على حكم العقل وحكم أسبابه؟ ما أحسب ذاك!

فيجيبها كارل ماركس: (ليست الدنيا مستشفى مجاذيب)

فيعود فولتير قائلاً: (أحقاً؟ لست أدري، ولكن إذا جرت الأمور على هوى أتباعك الاشتراكيين وأتباع الإمبراطور - يعني نابليون - العسكريين. فمن يدري؟)

ومن فكاهات فولتير في الرسالة قوله: (إن مذهب الشيوعيين الذين يدعون إلى استيلاء الحكومة على كل شيء لا يختلف عن مذهب الرهبان الذين يقولون باستيلاء الكنيسة على كل شيء) ثم يقول: (إن الشيوعيين هم الطبقة العصرية لطائفة اليسوعيين! الغاية تبرر الواسطة، وإلا فالأقوال الحتمية والتعميم والطاعة، كأنما الإنسان جثة ميتة باختياره، وإلا فهو جثة ميتة على الفور بغير اختيار، ولا احتمال لمذهب غير المذهب، ثم لابد من تسليم البضاعة. . .)

ويدور بعض الأحاديث في الرسالة عن الحرب كما يلي:

كارل ماركس - حرب. حرب. في أوربا كثير من أسباب الحرب غيري أنا. . .

جيتي - على التحقيق، ولكن أوربا كانت تعالج إصلاحها ومحوها، واليك مثلاً عصبة الأمم

كارل ماركس - فشل كامل!

جيتي - أتراك تنفض يديك من الشيوعية عند أول تجربة فاشلة؟

كارل ماركس - كلا! لأنني موقن بنجاحها الأخير

جيتي - وكذاك نجاح العصبة الأخير لا شك فيه

نابليون - لا. لا يا دكتور جيتي. هذا يدهشني أن أسمعه من رجل حكيم كما عهدتك

جيتي - إنما دهشتي من دهشتك

نابليون - نهاية كل قول أن الحضارة قائمة على القوة

واشنطون - كلا. بل الحضارة قائمة على العقيدة

كارل ماركس - العزة الإلهية مرة أخرى! واشنطون - ليس هذا ما عنيت الساعة يا سيدي. وإن كنت أرى أننا لو تعمقنا في الرأي الذي أبديته فنحن منتهون لا محالة إلى العزة الإلهية

نابليون - ولكنك حين تقول إن الحضارة قائمة على العقيدة أيها الجنرال ماذا تريد؟

واشنطون - أعني الصلة الروحية التي تبعث الناس إلى عمل يعلو على مآربهم الحيوانية القريبة. أفتحسب أن جنودك ماتوا من أجلك لأنك أكرهتهم على ذلك؟

نابليون: إنما أحسب جيشي دعامة حضارتي، وإن جيشي على كل حال قوة!

واشنطون - ما كان جيشك إلا شجاعة، وإيمان بك، وحب لفرنسا

نابليون - ومدافع وذخائر وطعام

واشنطون - كل أولئك (مادة ميتة) بغير العقيدة

نابليون - أتريد عقيدة بغير مدفع؟

واشنطون - خير من مدفع بغير عقيدة

جيتي مخاطباً نابليون - فالمي يا سيدي! تذكر معركة فالمي؟ لقد غلبت العقيدة بغير المدفع على المدفع بغير العقيدة في تلك المعركة. إنني معك أيها الرئيس، وإني لشاكر لك إجابة الإمبراطور وإن كان توجيه سؤاله إلي لعجبه من إيماني بعصبة الأمم. ولقد أردت أن أقول له إنني لم أؤمن بالعصبة إلا لإيماني بأن الجماعة من الناس ينبغي أن تبادر إلى حكم نفسها ساعة وجودها أو ساعة شعورها بوجودها، فأما وجد الشعور بالجماعة الدنيوية فالحكومة الدنيوية لابد لها من وجود)

ومناقشة أخرى تدور بين فولتير وكارل ماركس عن سخافة الروايات الروسية الحديثة، فيشير ماركس إلى أسباب اقتصادية لسخافتها، ويعود فولتير فيقول:

فولتير - حتى تثبت أن غباوة جماهير المدينة نجمت من أسباب اقتصادية

كارل ماركس - حقيقة ذلك ظاهرة

فولتير - بل هي على نقيض ذلك، فما الأسباب الاقتصادية إلا وقائع ثانوية؛ أما الوقائع الأولى فهي دوافع النفوس

كارل ماركس - كلمات وليس إلا كلمات

فولتير - أأنت فأر مدينة أم فأر خلاء (تلك حقيقة ثانوية أما الحقيقة الأولى فهي أنك فأر على كل حال)

وجيء إلى السماء بوليام جننجز بريان الذي حارب أستاذاً لأنه علم مذهب داروين في بعض المدارس الأمريكية

قال فولتير - فما هو إلا أن ارتفع إلى هنا حتى مثل بين يدي العزة الإلهية. فتهلل وليام جننجز بريان بشراً، ولكنه لم يلق ترحاباً من جانب العزة الإلهية. فقال وهو في حماسة تشغله أن يلمح ما حوله من قلة الترحاب في هذا الجو لأنه قد صعد في الأرض بحماسة كافية لأجواء عديدة: رب. هأنذا. لا يزال يغشاني غبار المعركة. لقد كانت حرباً زبوناً، ولكن الظفر كان لنا

فأجابه الله بصبره السماوي - إن لغة المعركة والحرب والظفر لا تعجبني

قال بريان - لكنك يا الله رب الجنود. أو ليس هذا اسمك في كتاب العهد القديم؟

قال الرب في حلمه السرمدي يلطف ما به: لقد كنت يومئذ ناشئاً ألهم أنبياء إسرائيل إلهام الناشئين! ولعلك نسيت أنني أرسلت إليكم منذ عشرين قرناً رسول حب وسلام

فحار بريان ثم توسل قائلاً وهو في ريب مما يسمع: ولكني يا رباه قد حاربت أعداءك

فوسعه حلم الرب وسدده إلى الصواب وهو يوحي إليه أن ليس لي يا بني أعداء. كل ما لي يا بني خلائق

فاضطرب الكتابي المسكين والشك يأكل قلبه، وصاح. لكن آراء دارون رباه تخالف أقوال كتابك

فأكد له الله قوله في حلم وحزم: (كل ما أخلص كاتبوه في كتابته فهو وحي من عندي، وكل ما استقام على الصراط فهو من مصدر الاستقامة)

وفي بعض المحادثات يقول ماركس لجيتي: إن من يعمل يعيش. فيقول جيتي: إنك إن أقمت حق العامل على عمله لا على صنعته الإنسانية قتلته، ولاسيما حين تكثر الآلات وتقل الحاجة إلى الأعمال والعاملين

وهكذا تفيض الرسالة بالطرائف التي لها مثل هذه الطلاوة أو هذه الدقة أو هذه الفكاهة. وقد رأيت أن أشرك قراء العربية في نصيب منها حتى ينقلها ناقل برمتها وهي قلما تربي على مائة صفحة صغيرة عباس محمود العقاد