مجلة الرسالة/العدد 253/البحث عن غد

مجلة الرسالة/العدد 253/البحث عن غد

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 05 - 1938


للأستاذ عباس محمود العقاد

- 3 -

كان مستر (روم لاندو) على صواب في اهتمامه بالناحية الروحية من حياة الشرق الأدنى في العصر الحاضر؛ وقد أحسن تعليل هذا الاهتمام حين قال في مقدمة كتابه: إن الشرق الأدنى هو الذي رسم للعالم الإنساني مجراه في طريق الحضارة والتهذيب. فلو خلت الدنيا من ثلاث (قارات) كاملة لما تغيرت ثقافتها الروحية إلا قليلاً، ولكنها لو خلت من أمم البقاع المحصورة بين البحر الأبيض والبحر الأحمر والخليج الفارسي، لكانت أديانها غير هذه الأديان، وآدابها غير هذه الآداب، وثقافتها غير هذه الثقافة، ومعاني الحياة والمثل العليا فيها غير ما نعلمه من معانيها ومثلها العليا في عصرنا الحديث

قال: (نعم حدث في القرن الخامس عشر بعد كشف أمريكا وإخراج العرب من الأندلس أن المحور قد تحول نحو الأقطار الغربية، ولكن الأمر لم يحتج إلى أكثر من ثلاثمائة سنة لاتجاه (الرقاص) إلى الشرق من جديد. وجاءت حملة نابليون المصرية وما وراءها من آماله في الهند وما نجم عنها من كشف الحضارة المصرية التي طال العهد بنسيانها فأنشأت عهداً جديداً له شأنه وخطره في بلاد الشرق الأدنى)

ونحن الشرقيين يحق لنا أن نغتبط بما لبلادنا من الشأن الحاضر أو المنظور في حياة العالم الروحية، ولكننا خلقاء ألا ننظر إلى الأمور بالعين التي ينظر بها الغربيون، فإنهم يبالغون ولا ريب في استضعاف شأن الحياة الروحية كما يرونها في أنحاء أوربا وأمريكا، لأنهم سئموها وعالجوا أكاذيبها ومواطن القصور منها، فكان استضعافهم إياها داعياً إلى التحول بالرجاء إلى غيرها، وكان من جراء ذلك هذا الإقبال على مسائل الشرق الأدنى ولاسيما المسائل الروحية. وقد وجد بينهم أناس تحولوا إلى الشرق الأقصى والهند خاصة لتعليل أنفسهم بشيء من الرجاء وشيء من الثقة واليقين فهي حيرة تهديهم تارة إلى هنا وتارة إلى هناك. ولا ينبغي لنا أن نجعل هذه الحيرة مقياسنا ومعيارنا في تقويم ما لنا من قيمة، وعرفان ما لنا من وزن وأمد. ونعتقد نحن خلافاً لما يعتقده بعض الأدباء الأوربيين أن البلاد الغربية ليست من النضوب الروحي بالحال التي يتخيلونها، وليست من الركون إلى المادة والضرورات العملية بالموضع الذي يضعونها فيه. وينفعنا نحن الشرقيين أن نذكر ذلك لأننا محتاجون إلى بقية باقية في الغرب من زاد الروح والذهن والخيال، فإذا اعتقدنا في الغرب النضوب والإقفار فلا ربح في ذلك لنا بل فيه الخسارة والفوات لا جدال

لنا أن نعرف قيمتنا، ولكن ليس لنا أن نجهل قيمة غيرنا. ومن الحسن أن نحيط بما يكتبه الأجانب عنا لأنهم يرون ما يخفى علينا أحياناً من أحوالنا وخطواتنا لفرط الألفة وتكرار النظر بغير انقطاع، كما يعرف المسافر العائد إلى أبنائه كم طالوا وكم كبروا وهو لا يلتفتون إلى ذلك. ولكن المرجع إلينا آخر الأمر في الشعور بحقيقتنا، والنفاذ إلى سريرتنا، والمقابلة بين أمسنا وغدنا. ولا ضير في قليل من الثقة - بل قليل من الغرور - يزيد على المقدار، فإن المبالغة في الثقة خير من المبالغة في فقدها على كل حال

وصاحب كتاب (البحث عن غد) رجل يشعر بالإسلام والشرق الأدنى شعور المودة والترفق، ولا يتعصب عليهما أو يتعصب لأعدائهما. فهو من ثم غير متهم في مقاصده ونياته، وغير بعيد عن أسباب الفهم الصحيح والحكم العادل، ولكنه ينشد الحقيقة على طريقته العاجلة التي يتسع لها وقته في رحلاته الكثيرة، فهو أقرب إلى الأنباء الصحفية منه إلى المباحث العقلية والدروس العلمية أو الفلسفية. وهكذا ينبغي أن نتلقى آراءه وأحكامه، وننظر إلى أغراضه ومناحيه

قصد البحث عن حياتنا الروحية فماذا صنع؟ ذهب إلى السفارة المصرية في العاصمة الإنجليزية وتسلم منها كتب التوصية المعهودة وأسماء الأفراد المعهودين!! ولو قيل للمستر (روم لاندو) إن مصرياً أراد البحث في حياة إنجلترا الروحية فذهب إلى السفارة البريطانية ليسألها عن وجهات الفكر والروح في بلادها لابتسم وأدرك نتيجة البحث لأول وهلة، ولكنه رجل صحفي أو شبيه بالصحفيين، فهذه أقرب الوسائل إلى إنجاز عمله وجمع المادة اللازمة لتأليفه. وكذلك كان في كتبه السابقة حيثما تناول الأقطاب الروحيين المقيمين في باريس أو لندن أو نيويورك: سبيله إليهم كسبيل الصحفيين إلى المحادثات وجمع المعلومات

لو ذهب مصري إلى السفارة البريطانية يسألها عن رجال الفكر والروح والخيال من الإنجليز لما ذكرت له اسم لورنس أو اسم موجهام، ولعلها لا تذكر له حتى اسم برناردشو ومن إليه من الأدباء الذين لا يلتزمون التقاليد ولا يدخلون في السجلات الرسمية. وهي لا تهمل ذكرهم لأنها تجهلهم أو تستخف بأثرهم بين قرائهم، ولكنها تهملهم لأن وظيفتها توجب عليها أن تلتزم التقاليد ولا تعترف بما وراءها من وجهات الأفكار ومذاهب الضمائر

ومن المعقول أن تسأل السفارة أو وزارة الخارجية في إنجاز عمل أو الإرشاد إلى من ينجزه ويتولى تسهيله. أما الإرشاد إلى نزعات الفكر والروح، فالسفارات والوزارات لا تتولاه وإن عرفت طريقه، لأنها لا تدل على شيء إلا كان داخلاً في حدود المرسومات المحدودة، حتى لو ظهر عليه لون من الشذوذ

ولهذا لا عجب أن يتحدث الكاتب عن (قدم المادة) وما قيل عنها في الجامع الأزهر كأنه فتح جديد في تفكير المسلمين، مع أن المسلمين يعرفون مذاهب القائلين بالقدم والحدوث منذ مئات السنين. ومع أن المفكرين المعاصرين لا يحفلون بقدم المادة وحدوثها ولا يشغلهم من صفاتها شيء أهم من هذه الصفة التي تجلى عنها البحث في الإشعاع والتقريب بين المادة والقوة بهذه المثابة حتى أصبحت وكأنها معنى من المعاني وعدد من أعداد الرياضة والحساب

فلو أن (الباحث عن غد) وصل إلى الجامع الأزهر ووجد فيه البحث قائماً على اختلاف هذه الفروض في كنه المادة لجاز له هذا الدهش الذي أفرط فيه حين علم بما قيل عن قدم المادة من قول صحيح أو غير صحيح. أما الدهش لأمر تكلم فيه المسلمون قبل ألف سنة فماذا فيه من البحث عن غد؟ وماذا فيه من النزوع إلى الجديد؟

كذلك يغلو الكتاب الأوربيون على هذه الشاكلة في قياس الحركات الذهنية بما تثيره من الضجيج بين رجال الدين أو بين طلاب المعاهد الدينية. ومن ذلك مثلاً اعتقادهم أن الأستاذ علي عبد الرازق قد غير في قواعد الدين يوم قال إن الخلافة ليست من مراسم الإسلام. وما اعتقدوا هذا الاعتقاد إلا لأنهم حسبوا أن الضجة التي أثيرت حول كتابه كان مبعثها التعصب والغيرة على الدين. ولم يعرفوا الحقيقة التي يعرفها معظم المصريين، وهي أن السياسة لعبت لعبتها في هذه المعمعة من مبدئها إلى منتهاها. فلو أن الأستاذ علي عبد الرازق أعلن رأيه قبل بضع مئات من السنين يوم كان الأمراء المصريون يسعون في إضعاف الخلافة لقوبل كتابه بالترحيب والمكافأة الجزيلة. ولو أن المسألة مسألة قديم وجديد وتغيير في الأصول الدينية لكان الأولى أن يثير من الغضب يوم ذاك أضعاف ما أثاره في عصرنا هذا، ولكنها مسألة لها موقعها من السياسة ومن مآرب العيش عند بعض الناس فكان من جرائها ما كان

لهذا نقول إن حكم الأوربيين ولاسيما المستشرقين على شؤون مصر وشؤون الشرق العربي كافة أضعف الأحكام وأبعدها عن حساب العوامل الصحيحة والبواعث الخفية، بل ربما كانت أبعدها عن البواعث الظاهرة في كثير من الأحيان. وما كتبهم في هذه الأغراض إلا طائفة من (الكتالوجات) على طراز آخر غير الطراز التجاري أو الطراز السياسي، ولكنه مثله في الجوهر وطريقة التحضير

ونخص المستشرقين بالخطأ مع أنهم أحرى أن يقتربوا من الصواب ويرجحوا إخوانهم الأوربيين الآخرين بمعرفة اللغة والاطلاع على التاريخ، إذ الواقع أن (الاستشراق) قد نشأ قديماً في بيئة التبشير ولا تزال فيه جذوره ومراميه؛ وكل ما يعني المبشرين هو مراسم الدين وتقاليد المساجد والكنائس والعبادات. فإذا نشبت مشاجرة في مسجد أو كنيسة فذلك أدنى إلى ملاحظتهم من اختلاف مقاييس الفكر ودعائم الضمير، لأنهم هم أنفسهم يعيشون في هذه البيئة وما يحاذيها من طبقات الأدب وطبقات التفكير، فهم معرضون لأخطاء أعظم من التي يتعرض لها الأوربيون الجاهلون بلغات الشرق وتواريخه الأدبية، لأنهم ينظرون مغرضين وفي أعينهم قصر وعلى أعينهم غشاوة لا تميز الحقائق ولا تنفذ إلى ما وراء القشور

وعلى هذا يصح أن نحيط بما يكتبه الأوربيون عنا لنعرف منهم ملاحظاتهم التي تخفيها الألفة والنظر المتكرر إلى المتواتر من أحوالنا، ولا يصح أن نقوم آراءهم وأحكامهم بأكبر من هذه القيمة أو نسومها بغير هذا السوام

عباس محمود العقاد