مجلة الرسالة/العدد 253/عدو المرأة

مجلة الرسالة/العدد 253/عدو المرأة

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 05 - 1938



للسيدة وداد سكاكيني

ما لأيدينا حيلة بابي العلاء، فلقد أتى على وفاته ألف سنة أو ما يزيد. لقد كانت المرأة بغيضة إلى نفسه، كريهة على سمعه، ولو استطاع أن يبيد من الدنيا كل أنثى لفعل. فوا حرباً مما في لزومياته عن بنات حواء! ما لنا حيلة به فلقد مات وخلد علينا مقابح الوصف ومطاعن الهجاء. ولعل له عذراً في امرأة أساءت إليه فعد كل النساء مسيئات، وغضب عليهن، وقد عرفه القوم فيلسوفاً متشائماً ناقماً على الحياة والناس أجمعين. ثم أتى على أدب العرب حين من الدهر استراحت فيه المرأة من أعدائها والساخرين منها حتى كان زمننا وجاء توفيق الحكيم

يقول الناس عن توفيق الحكيم إنه عدو المرأة، ويقول هو ذلك عن نفسه تياهاً مباهياً، ثم جد في قوله حتى كتب قصته (عدو المرأة) فعجبت له وقد ألقى سلاحه أمام ناتالي الراقصة البولونية، وعجبت من مذهبه في البغضاء فسألته هل أبغض أمه وأخواته وخالاته وعماته؟ وهل كان رجلاً من حمل به ثم ولده فملأ الدنيا بتوفيق الحكيم وشغل الناس بأدبه الرفيع؟

إذا أقام توفيق الحكيم على رأيه واستبد به فليعش في عالم غير عالمنا، فإن من جنسنا الشمس والأرض، ومن أنوثتنا الحياة. وليحص الأسماء في المعاجم فيجد فيها الكثير مؤنثاً كالمرأة، وليترك الزهرة لا يشمها والتفاحة لا يأكلها، وليعش وحده في كون من الرجال ممن طالت لحاهم وعرضت مناكبهم وخشنت أصواتهم وقست قلوبهم، وليترك النساء الرعابيب، والغيد الأماليد لغيره من الرجال

ولكن على رسله! ألم تلهمه المرأة رواياته الرائعة، ومقالاته البارعة؟ ألم تكن شهرزاد من النساء؟

إن من عرف باريس وفيها الغواني الحسان لا يكون عدو المرأة إلا إذا نهل منها حتى ارتوى وقاء كالمثخن الجريح يخرج من القتال وهو عدو له، ولكنه لا يظل محارباً عظيماً، فأهل الفروسية أبداً يدفعهم الشوق إلى استعادة الحرب

المرأة ريحانة من السماء عطر الله به جنات هذه الأرض وجعلها فيض الحنان وفتنة الوجود. أتماري - وأنت تنشد الحق - في سلطانها المطلق ومعانيها التي لا تحد؟ انظ إلى المتنبي فإن خلود شعره من وحي خولة. وتطلع نحو بيرون فقد مات في سبيل امرأة من اليونان. وتذكر وريث التاج بالأمس أدوار كيف انطلق من قيود العرش ليخضع للمرأة. وإذا كنت مسلماً فإن رسولك أحب كثيراً من النساء

لم تصيخ بسمعك إلى أعداء المرأة وغلاظ القلوب؟ ألا سامح الله المعري وشوبنهور، فلقد أورثاك الشنآن، وطبعاك على التشاؤم. إنهما يسولان لك هذه البغضاء ليعطلا قصصك من مباهج الأرواح، ومتع الحياة. إنهما يريدانك على الخمول والفتور، ولئن كنت في ريب مما أقول، فاجمع كتبك واحرقها ثم أعد صفها وطبعها، وهي خلو من ذكر المرأة، كل من فيها من الأبطال، رجال في رجال، ثم انظر ماذا يكون، إنها ستبلى ويعلوها الشحوب، وهي معلقة بأبواب الوراقين، حتى إذا يئس الباعة من عرضها على المعرضين عنها نبذوها وراءهم، وطرحوها جنبات الدروب حتى يمر بها الكانس فيلمها ويرميها في مطارح الإهمال والبلى. وستمر بك أيام أشد سواداً من الليل تهدهد كبرياءك وتخمد صيتك، فينساك بعدها الناس، وتنطفئ من الأدب العربي الحديث شعلة ساطعة، فإذا صرت إلى هذا الدمار جن جنونك، وضربت بيدك منضدة الكتب، فمادت بما عليها واندلع الحبر من دواتك على القراطيس البيض، فيثور ثائرك وتحطم قلمك وتقذف به إلى حيث لا تمسك به ما حييت

أنت يا عدو المرأة فيك طبع المرأة. يقول الفلاسفة الذين أفسدوا قلبك عليه: إذا أجابت المرأة بلا فإنما هي قائلة في سرها نعم. وإذا أبغضت فقد أحبت، وإن كثيراً من النساء كن يكرهن الرجال فهوين على أقدامهم مقبلات، وما أنت يا توفيق الحكيم إلا أشد محب للمرأة وأصدق نصير لها، تملأ أحلامك بالرواء والبهاء، وتطوف بروحك كما يطوف الجمال بفنك، ونراها تسكب في فكرك سراجاً وهاجاً يضيء عبقريتك، ويلهمك البراعة والإبداع. ومن يدري فلعل وراء آثارك العظيمة امرأة تهزك وأنت تحلم، وتوحي إليك وأنت تكتب، من عندها تفجر نبوغك، ومن أنوثتها لمع نجمك حتى شهدناه مشرقاً في آداب العرب، متألقاً في سماء هذا العصر. ومن غيرك أجدر بأن يحب المرأة ويحن إليها ويحنوا عليها؟ بل ما يليق بالكاتب المبدع أن يعيش في الأرض التي لا تعطرها المرأة وتزهو على حواشيها النضرة

ليس كل النساء كجوديت؛ ولكم بين الرجال من هو (لاندرو)؛ ولن تكون الحرب إلا ليكون السلم؛ فإذا شئتها عواناً مأيمة كحرب البسوس فستجدن من بيننا الكثيرات تقول كل واحدة لك: أنا عدوة الرجل

(دمشق)

وداد سكاكيني