مجلة الرسالة/العدد 256/فلسفة التربية

مجلة الرسالة/العدد 256/فلسفة التربية

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 05 - 1938



تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 18 -

(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور والتذوق للجمال!)

(احمد أمين)

(للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية، هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون!)

(هكسلي)

8 - خريج اليوم

أقرأت هذين القولين العظيمين فيما مرَّ عليك من قواعد وأصول؟ وهل أدركت ما يرميان إليه من معنى سام دقيق هو قوام الشخصية الكاملة التي تنشدها التربية الحديثة في الجماعة الديمقراطية؟ إن يكن أفليس من الخير أن أبحث معك عن نتائج ذلك (المجهود الهائل) الذي تبذله الدولة في التربية والتعليم، كيما نستطيع أن نقدر هذه المدارس بطرائقها، وتلك المعاهد بأساليبها؟ أليس من الخير أن تنشد جماعة (الخريجين) لندرسهم ما داموا هم غرض التربية الأول والأخير؟ ألحق أن كل نظام يغفل درس نتائجه وتقويمها وتقديرها قدرها الصحيح يعرض نفسه دائماً لآفة الرجعية والجمود والفشل والاضطراب! فترى ماذا عسانا واجدين إذا شئنا أن ندرس (خرِّيج اليوم) على ضوء هذه الأصول العامة التي قدمنا بها لذلك النقد المر البريء؟ سأحاول جهد المستطاع أن أرسم لك صورة واضحة شام ترى في خطوطها المتكسرة ظلا لما يمكن أن يكون عليه (السواد الأعظم) من مدارسنا. ولك بعد هذا أن تحكم على ذلك المجهود الهائل بما تريد، وأن تلتمس لعلاجه كل ما يمكن أن يفيد!

1 - الشخصية الكاملة

ولقد علمت فيما مضى أن التربية الصحيحة تنشد تكوين (الشخصية الكاملة) بكل ما في الكمال من معنى، وأن كمال الشخصية إنما ينحصر في (عقل) منطقي سليم التفكير مستقل الحكم رائده الحق وحده، وهي عاطفة مصقولة مهذبة تغذي الخلق القويم وتسكب على الحياة من أسرار الجمال ما يملؤها نعيماً ورغداً وفخاراً وشرفاً، وفي جسم قوي العضلات مفتول الساعد يقوم كهيكل مقدس للروح الخالدة وكأساس وطيد للعقل السليم والعاطفة المستقيمة، أجل! لقد علمت ذلك فيما مضى، فتعال إذاً يا صاح نبحث عنه في تلك الشخصيات القائمة في (الديوان) وغير الديوان علَّنا نسمع أو نرى. . .!!

2 - العقل

وقد مر بك أيضاً أن (العقل) هو ما جعل الإنسان إنساناً، وأنه يجب أن يقوم في النفس مقام السائق في العربة، حتى لا يجمح بها جوادها! وأنه يجب أن يصيب من الغذاء الصالح كل ما يشبع نهمه المطلق حتى يستطيع صاحبه أن يدعى بحق أنه يحيا حياة إنسانية رفيعة، وأن غايته الفريدة إنما هي (الحق البريء) في شئون الكون وشئون الحياة على السواء! وأن الخطأ الذي قد يتعرض له في أحكامه الخاصة والعامة يمكن أن يُجتنب بقوانين المنطق وطرق التدريس إذا حَسُنَ استعمالها؛ وأن وأن وأن مما قد لا يتسع الوقت لذكره! فأين ذلك كله أو بعضه يا عزيزي في (خريج) ذلك التعليم؟؟ أين هو العقل المسيطر؟ وأين هو العقل العاشق للعلم؟ وأين هو العقل السليم في أحكامه؟ وما لحياتنا تعج بأنواع الفوضى؟ وما لعقولنا تمتلئ بالقشور والسطحيات؟ وما لها تخطيء كل يوم فيما تكيف به الحوادث والحقائق خطأ قوامه الجهل أو الميل أو ما شئت غيرهما؟ لست أتكلم عن سواد الشعب ولكني أتكلم عن المثقفين وحملة الشهادات المتوسطة والعالية! أين فيهم ناشد الحق للحق وحده؟ وأين فيهم محب العلم للعلم فحسب؛ وما بالهم لا يقرءون بعد تخرجهم ولا يبحثون ولا يؤلفون؟؟ وما لك لا تجد في أيديهم - إذا وجدت - غير الأوراق التافهة من كتب ومجلات؟؟ وما لك لا تجدهم إذا بحثت عنهم في غير أوقات عملهم - إلا مكدسين في القهوات يتكلمون كثيراً في غير ما شيء، ويضحكون كثيراً على لا شيء؟! ما لهم لا ينتظمون في الجمعيات الإصلاحية المختلفة؟ وما لنواديهم تبقى خاوية على عروشها بينما هم يعمرون ما تحتها مقاهٍ وحانات؟! ثم ما لآرائهم الاجتماعية والسياسية تضطرب فهي آناً مع الحق الذي لا تعرفه! وآناً مع الحق الذي لها فيه غنم أو لذويها فيه نصيب! وآناً ثالثاً مع كل قوى التعبير جعجاع القول مموه الخطابة زائف المعنى؟! الأدب الرفيع في مصر هل له حياة عند غير أهله وعارفيه وهم أقل القليل؟ والعلم الدسم في مصر هل يجد له شارباً حتى من أولئك الذين درسوا فيه شيئاً، فلما نالوا (الشهادة) وكسبوا الوظيفة ركلوه بأرجلهم ومضوا يشبعون كل شيء غير العقول؟!

ذلك وكثير غيره واقع وملموس!! فالمتعلمون هنا يتعلمون للعيش فحسب؛ والعلم عند أكثرنا وسيله لا غاية قط، والطريقة التي (نتعاطاها) بها كانت وما زالت في بعض نواحيها رثة بالية لا تحببنا فيه ولا تحببنه فينا، ولذلك ما نلبث أن نهجره وما يلبث أن يهجرنا!. ومن هنا لا تعجب قط إذا أدركت في متعلمينا عقول العصافير، وسمعت منهم زقزقة الطير، وتبينت في أنوفهم هذا الكبرياء وذلك الغرور، ولاحظت في حياتهم هذا الإقفار الأليم من (دنيا العقل) وسلطان العلم!

لست أنكر أن في الجامعة بعض ما قد ينشر بجيل جديد! ولكني ما زلت أخشى أن تطغى الحياة القاسية على الشباب الموموق فتزيل من نفسه ذلك التعلق بالحياة العلمية كما قد أزالته حتى في الكثير من رجال البعثات أنفسهم!! ذلك أن هذا التعلق مصطنع ودخيل وحديث، ولذلك ما يلبث أن يخمد في الكثيرين فإذا هم يسيرون في التيار العام ناسين أو متناسين آمالاً باسمة وأطماعاً هائلة!! ولست أنكر أن فينا من يؤلف وينتج ويخرج من الآثار الأدبية والعلمية كل ثمين قيم؛ ولكن ألا ترى معي أن علمنا ما زال عالة على علم الغرب، وأن تأليفنا يقل فيه (الإبداع) أيما قلة، وأن الكثير من رجالنا إما (معربين) فحسب، وإما (ملخصين) لا غير، وإما (قارئين) مع (الهضم) أو (عدمه)؟ ثم ألا ترى معي أيضاً أن الدولة مقصرة في حق رجال الأدب والعلم أيما تقصير، وأنها إذا كانت لا تعمل على تكوينهم تكويناً سليماً، فهي ما تزال تتركهم يكافحون الحياة القاسية بسواعدهم، وينفقون زهرة عمرهم ويوجهون نشاط عقولهم وقلوبهم إلى كسب قوتهم وقوت عيالهم فحسب، وإن هي تنبهت وقصدت إلى الأخذ بيدهم، فقلْ أن يأتي ذلك منها خالصاً سليماً، لأنها إما أن تعطيهم الأجر الضئيل، وإما أن تقذف بهم في عمل بغيض لا صلة له بعلمهم أو فنهم قط، وإما أن تسيء تقدير عملهم بالقياس إلى الأعمال الأخرى، إلى حد يزهق نفوسهم ويميت حماسهم.

وها أنت ترى أن (المعلمين) في مصر هم خير رجال العقل وأجدر الناس جميعاً بالمساعدة والتشجيع، وأن النهضة العلمية إنما قامت وتقوم على كواهلهم.

فماذا فعلت الدولة لهم وماذا قدمت غير ذلك العمل المرهق الذي يحرق أعصابهم، وغير ذلك الأجر الضئيل الذي لا يقارن بأجر غيرهم من رجال الدولة العاملين!؟ وإلى لقاء حيث أحدثك عن نواحي أخرى. . .

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية