مجلة الرسالة/العدد 257/سحر الصحراء

مجلة الرسالة/العدد 257/سحر الصحراء

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 06 - 1938


للأستاذ عباس محمود العقاد

السحر هو أن يختار الإنسان الشيء وهو مرغم على اختياره، فهو مزيج من حكم الإرادة ومن حكم القضاء

ليس بسحر أن نختار الشيء ونحن قادرون على تركه

وليس بسحر أن نرغم عليه ولا رغبة لنا فيه

إنما السحر أن ترغب في الشيء حتى نحاول أن نكف عن الرغبة فيه فنعلم يومئذ أننا غير أحرار، وأننا مسحورون أو مأخوذون

وإنما السحر أن نحسب أننا مكرهون على ذلك الشيء وأننا نضجر منه ونتململ ونفرح بالخلاص، حتى إذا أوشكنا أن نخلص منه علمنا أننا نكره الخلاص كما نكره البقاء

وحيثما وجد السحر وجدت الحيرة في أمره. فإذا فتن الرجل بالمرأة وحار الناس سائلين: والله ما ندري ما يفتنه منها فذلك هو السحر

وإذا أقدم الرجل على الخطأ وهو يعلم أنه خطأ ويعلم أنه مدفوع إليه غير مختار في الرجوع عنه، حائر فيما يدفعه إليه كما يحار من حوله في سر اندفاعه، فذلك هو السحر

وقوة السحر أنه هو قوة الإنسان وقوة القضاء مجتمعتين، متحدتين، سائرتين في طريق واحد. فإذا تنازعتا فذلك هو ابتداء الخلاص منه أو ابتداء بطلانه وانحساره، ولو كان لا ينحسر إلا بهلاك المسحور

كذلك سحر الصحراء

تسأل لماذا يسكنها أبناؤها؟ وتسأل لماذا يألفونها وهي جرداء خاوية تلهبهم قيظاً في الصيف وتجمدهم قرة في الشتاء، وتظمئهم وتجيعهم إذا امتنع الغيث وهو كثير الامتناع مجهول المواعيد مكذوب الوعود؟

والصحراء - بعد - ساحرة لأنك تسأل هذا السؤال، فلو أنك استغنيت عن سؤاله وعلمت سبب هيام البدوي بقفاره وجباله لما كان ثمة سحر ولا ساحر، ولا باطن للأمر غير ما فيه من ظاهر، بل هو شيء يجري في مجراه، ولا يلتبس عليك أصله ومغزاه

لماذا يشرب الماء ويأكل التمر ويستجيد الهواء حيث يجود، وينعم بالصيف والشتاء حيث تتهيأ فيهما النعمة، ويفعل ما ينبغي أن يفعل، ويسأل وهو لا ينبغي أن يسأل

لماذا؟ أتسأل لماذا؟ إن هذا لهو العجب الذي يحوجنا إلى استفسار، وليس هو هيام البدوي بالصحراء حين تكون على ما نهواه نحن ويهواه كل إنسان

عرفت الصحراء منذ الطفولة؛ واحسبني ورثت عرفانها في دماء الآباء والجدود؛ وقاربت حدودها وشارفت أعاجيبها وهي مما يظهر على حافتها في بعض الأحايين

فعند ضاحية أسوان خيام يسكنها بعض البجاة، وكان على الجانب الشرقي منها بناء مسوَّر في وسطه فضاء فسيح، وفي وسط الفضاء خيمة يأوي إليها صاحبها ولا يأوي إلى ما بني من حجارة وحجرات، ونحن نحسب أن الإنسان لا يأوي إلى الخيمة إلا لقلة البناء. فها هو ذا رجل يؤثر الخيمة والبناء في وسعه وعلى مقربة منه: هنا بدأت في العجب في أمر الصحراء ونقائض أبناء الصحراء. ثم قرأت أن للصحراء سحراً فحسبت أنني وقعت على السبب وأبطلت العجب، ولم أدر يومئذ أن كلمة (السحر) إنما هي تلخيص الأعاجيب التي لا نفقه أسبابها، وليست هي بتفسيرها ولا بالدليل على إدراكها وتعليلها، ومضيت من ثم في سؤال الصحراء عن مفتاح سرها، وفي علاج الباب الذي أنكره ابن من أبناء الصحراء حيث قال:

ما إن سمعت ولا أراني سامعاً ... أبداً بصحراء عليها باب!

وكل صحراء عليها باب، وعلى بابها مفتاح، وهذا هو المفتاح الذي بحثت عنه فاهتديت بعض الهداية، ونفذت إلى بعض الإغلاق

كل صحراء عاش فيها الرعاة فإنما كان اجدابها على التدريج بعد أزمان طوال تبدلت فيها طبيعة الأرض والجو، فندرة الأمطار بعد كثرة، ويبست المروج بعد نضرة، وقلت الأرزاق بعد وفرة، ثم أجدبت بعد ذلك إلا من قليل زرع هنا وقليل ماء هناك، وأهلها مع هذا قادرون على تعويض ما فقدوه بالإغارة على جيرانهم من سكان الحواضر وأصحاب الأنهار والمزارع، حيث تأصلت عادة المعيشة، وتمكنت طبيعة الترحل، واستقامت البنية على هذه العادات والطبائع فجاءت ضرورة الانتقال بعد استقامة الطبيعة على هذه الأحوال، وفعل سحر الوراثة فعله غير مفطون إليه ولا مقدور على منعه، فكان منه ذلك القيد الذي يربط صاحبه في مكانه برضاه وهواه، ويلوح للناظرين كأنما يربطه هنالك على غير رضاه ولا هواه

وتنازع أبناء الصحراء حين قلت خيراتها فغلب الأقوياء منهم ضعفاءهم على جانب الخصب والري والرخاء، وتراجع الآخرون إلى جانب القفر كارهين حتى ألفوه طائعين، فذلك مع الوراثة هو السحر الذي يمتزج فيه الإكراه بالاختيار

على أن الوراثة - أو الألفة - عقدة واحدة من عقد السحر الكثيرة في كل صحراء، ولا سيما الصحراء التي هي أوفى إلى الجدب والخلاء، فمن عقدها ما يشبه التنويم المغناطيسي، ومن عقدها ما يشبه الخمر، ومن عقدها ما يشبه الشعوذة ولعب الحواة؛ وهذه عقد قلما يجمعها سحر واحد في نسق، فإذا اجتمعت فأخلق بفعلها أن يطغي على صواب العقول

ينام الإنسان النوم المعروف بالمغناطيسي إذا أتأر نظره إلى الشيء الواحد لا يتحول الشيء عن مكانه ولا هو يتحول عنه بنظره. وتنقضي هنيهات على ذلك فيخدر الحس وتشتمل عليه حالة من حالات الغيبوبة، وتنقاد الواعية لذلك الذي نومها هذا التنويم انقياد المعبود للعابد أو المفتون للفاتن، ملكها وملأها فلا مشيئة لها معه ولا فراغ لها من وحيه وسلطانه

فماذا تصنع الصحراء بالذي يدمن النظر إليها إلا أن تنومه هذا التنويم وتشمله بمثل تلك الفتنة وتقوده بمثل ذلك القياد!

أنه لينظر إلى مائة شيء فيها فإذا هو ينظر إلى شيء واحد لتشابه المناظر وتقارب الألوان والهيئات؛ وأنه لينتقل ميلاً بعد ميل وساعة بعد ساعة وكأنه قائم في موضعه لا يتزحزح منه قيد خطوة، لأن العبرة بما يقع في الواعية لا بما تقع عليه الأقدام، وأن النائم لينام بعد هنيهات قليلة فكيف يكون الحال بمن تنقضي عليه في تلك النظرة أعوام، ومن تنقضي على آبائه وأجداده في تعاقب تلك الفتنة أجيال؟؟

تلك هي العقدة المغناطيسية في سحر الصحراء

أما عقدتها التي تشبه الخمر فما هي الخمر إن لم تكن نشوة الطلاقة وعزة الإفلات من القيود، وتوهم القدرة على كل مطلب في غير حذر من رادع ولا مبالاة بملام؟

تلك الطلاقة هي سكرة الآفاق الواسعة أو سكرة الصحراء التي لا تقوم فيها الحواجز، ولا تصطدم فيها الحدود، ولا يشعر فيها المرء بين الأرض المديدة والسماء الرفيعة بطغيان مخلوق أو خضوع متهور

ثم شعوذة الحواة وحسبك منها السراب!!

مضينا في السيارة من الضحى إلى الغروب ثماني ساعات بين مرسى مطروح وسيوة فلم يغب قط عن أبصارنا منظر هذا السراب بعلو ويهبط، ويبدو ويختفي، ويتراءى حتى لا شك في صدقه، ويتوارى حتى لا شك في كذبه وزوره

السراب السراب!! ما أشبه الحقيقة فيه بالكذاب، وما أولاه منا بالعجب العجاب!

لقد عدنا وعلى الأفق غاشية من سحاب رقيق فلم نر سراباً في طول الطريق

فقلنا لبعض أصحابنا في السفر: أرأيت كيف يكون النور سبيل الضلال في بعض الأحايين؟ ترجم هذا لأعداء الحديث من الشعر وقل لهم: إن الذي يتحدث عن (ضلال النور) لا يتحدث بالأحاجي والألغاز، ولا يقول إلا ما تبصره العين فكيف بالضمير وكيف بالخيال؟ وقل لهم إنهم لا يفهمون الصحراء وهم يعيشون منها بين ذكريات النوق والوهاد، وأساطير الأفراس والجياد. وقل لهم بالإيجاز أنهم لا يفهمون!

سراب الصحراء، هذه المشعوذة البارعة

وخمر الصحراء، هذه المشعشعة الصارعة

وغيبوبة الصحراء، هذه المنومة الفارعة

وعراقة الصحراء هذه القديمة في الآناء، القديمة في الآماد والأجواء، القديمة في العروق والدماء

ذلك هو سحر الصحراء!

عباس محمود العقاد