مجلة الرسالة/العدد 265/سخرية الأقدار

مجلة الرسالة/العدد 265/سخرية الأقدار

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 08 - 1938



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كنت في يوم من الأيام جالساً إلى مكتبي أترقب أن يحمل إلي ساعي البريد (حوالة) مالية. وكنت عاكفاً على الكتابة ولكني كنت أحصى الأبواب والوجوه التي أنفق فيها المبلغ المرقوب. وللذهن قدرة على الاشتغال بأكثر من موضوع واحد في لحظة واحدة. فبينما كنت أجري القلم بوصف ما تعاني فلسطين، وأعرب عما جاشت به نفسي من العواطف من جراء هذه القنابل التي تلقى على باب المسجد الأقصى وفي الأسواق العامرة الغاصة، فتقتل النساء والأطفال والرجال، وتطير أشلاء الإنسان والحيوان وتخلطها بالخضر والفاكهة، واللحم والسمن والعسل، والأنقاض التي تهاوت، والقُفَف التي تبعثر ما فيها؛ وأقول إني أعرف حكومة فلسطين نسفت بيوتاً عدة للعرب، وفرضت غرامات متفاوتة على قراهم الفقيرة، ولا أعرفها هدمت بيت يهودي واحد، أو غرمَّت حياً من أحيائهم أو مستعمرة من مستعمراتهم - أقول بينما كان القلم يسحُّ بهذا كنت أتخيل الثياب الجديدة التي سأشتريها، والأثاث الحديث الذي أحب أن يحل محل القديم في بيتي، والسيارة الجديدة التي سأستبدلها بسيارتي وإن كان عمرها عاماً، وأسأل نفسي هل أستشير المرأة الصالحة التي لا تعترض لي طريقاً، ولا تأخذ عليَّ مُتوَجَّهاً، ولا تنكر من فعلي أو قولي شيئاً، ولا أراها في أي حال إلا راضية، ولا أعرف أن غيرها في هذه الدنيا يمكن أن يطيقني ويحتمل عبثي وسخافاتي وحماقاتي؟

في هذا كله أيضاً كان تفكيري. وكنت أتصور الألوان والثيات والأشكال، وأحاور نفسي وأجادلها، وأتلقى الاعتراضات وأردها، والقلم مع ذلك لا يتوقف ولا يكف عن المضي، وجاءني الخادم بإيصال رسالة بريدية مسجلة لأوقعها، فاستبشرت وقلت: (الحمد لله جاءنا الخير المرتقب. . . خذ يا شاطر فتح الله عليك، ولك. . . (ومددت له يدي بالإيصال) وأسرع. . . عجل، ولك الحلاوة)

وخرج الخادم، وهو يبتسم، وراح هو أيضاً ولا شك يتخيل ما سينعم به في يومه السعيد (بعد أن أعطيته الحلاوة) الموعودة. ومضيت أنا في الكتابة، مغتبطاً، وإن كان القلم يقطر بالنقمة على رؤوس المستعمرين، ورأيتني أدندن، وأنا أجري القلم، ولم لا؟ ألست مسروراً منشرح الصدر، ولا نكران أني كنت ساخطاً ناقماً، ومغيظاً محنقاً، وثائراً فائراً، ولكن هذا جانب، وذاك جانب، فأنا - في الجانب المشرق الوضاء من نفسي - أشعر بالاغتباط والمرح، فأدندن، ولكن هناك جانباً آخر حالك السواد لا يضيئه إلا ما يتهاوى فيه من صواعق الغضب، والجانبان لا يختلطان، ولا يتداخلان، ولا يعدو واحد منهما على صاحبه؛ فالسواد هنا لا يعصف بالبشر المتألق، والسرور هناك لا يمتد نوره إلى الظلمة الطاخية. . .

وعاد الغلام الخفيف الحالم بالحلاوة، ودفع إلي الرسالة المسجلة فنظرت إليها وأنا أتناولها منه، وعرفت ممن جاءتني قبل أن أفض غلافها. ولم يكن هذا لأني ذكي ألمعي أرى بأول الظن آخر الأمر من وراء الغيب، بل لأن الاسم مطبوع على الظرف

وابتسمت وأنا آخذ الرسالة، وأضعها على المكتب كما هي، وأنقدت الغلام المسكين قرشين، وأكببت على الورق أكتب. . وماذا عسى أن أصنع غير ذلك؟ لم تجئ الحوالة المالية المرتقبة، ولا ضير من هذا، ما كانت بي حاجة ملحة إليها، وهي خير إذا جاء فأنعم به وأكرم، وإذا لم يجئ فلا بأس، وستجيء على كل حال غداً إذا لم تجئ اليوم أو بعد شهر أو أكثر، ولو اقتصر الأمر على حرمان ما نعمت نصف ساعة بتخيله لهان، ولكن المضحك. . . نعم المضحك. . . أن يجيئني بالبريد المسجل في هذه اللحظة على الخصوص إنذار من محام بتنفيذ حكم صدر خطأ في غيابي، وعندي المستندات التي تثبت أني أبرأت ذمتي، ولكني لسوء حظي مهمل وشديد النسيان، فلست أذكر أين وضعت هذه الأوراق، وقد كلفني هذا النسيان ما لا يعلمه إلا الله، وبدا لي - لسذاجتي - أن من السهل أن أقنع الخصم بمراجعة أوراقه وحسابه ليتبين أني أديت إليه حقه. وخطر لي أن هذا أسهل من عثوري أنا على مستنداتي التي لا أدري ماذا صنع بها الإهمال، وكان الخصم يضحك مني ويقول للحاضرين (اسمعوا. . . هذا جديد. . . يريد مني أن أقدم أنا له ما يثبت براءة ذمته!! فلماذا لا يعد هو مستنداته؟) فأقول له محتجاً (يا أخي إن المسألة ليست مسألة خصومة وعناد، وإنما هي مسألة ذمة وحق، وعندك دفاتر مسجلة تقيد فيها مالك وما عليك وأوراقي لا أدري أين هي، والبحث عنها يضيع وقتي، ويطير عقلي، ولا صبر لي على هذا على كل حال؛ ولأهون على أن أؤدي إليك المال مرة أخرى من أن أنفق عمري وأطير صوابي في البحث عن هذه الأوراق، فلماذا لا تؤثر العدل والحق فتعاونني؟ إنك ناس، والموكل بهذا الحساب قد ترك عمله عندك، والمراجعة لا تجشمك عناء، فمر واحداً من عمالك أن يقوم بها)

وقد ضاعت سنتان من عمري وعمره في هذه المراجعة التي لم تخل من بعض الفائدة، فقد اهتدينا إلى مبالغ ثبت أني أديتها فتزعزعت ثقته بعامله الذي أكد له أني ما زلت مديناً، ولكن دفاتره كانت على حال من الفوضى كالتي عليها أوراقي في بيتي. ويظهر أنه سئم أو تبلد فلم يعد وخز الضمير يؤلمه أو يزعجه، فقال أنفذ الحكم عليه بما لم نجد دليلاً على أدائه وأريح نفسي، وعليه هو - لا علي أنا - أن يبرئ نفسه بإبراز ما عنده!

وهكذا تلقيت إنذاره

وأتممت المقال ثم فضضت الظرف وقرأت ما في الكتاب وضحكت. لقد كنت أنتظر فرجاً أوسع به على نفسي، فإذا بي أطالب بأداء دين مرة ثانية!؟ فماذا أصنع؟ قلت لنفسي - وكان اليوم الخميس - هذا موقف ممتع. وخير ما أصنع هو أن أركب سيارتي وأستصحب بعض الرفاق، ونمضي جميعاً إلى الإسكندرية فنقضي على ساحل البحر أياماً وليالي ننسى فيها سخرية الأقدار وتهكم الأيام. . .

وقد كان. قمنا إلى الإسكندرية قبل الغروب بساعة، فلقينا في رحلتنا ما هو أعجب وأغرب مما سأقصه على القراء في المقال التالي

إبراهيم عبد القادر المازني