مجلة الرسالة/العدد 266/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 266/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 08 - 1938



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 34 -

مقالاته للرسالة (5)

لم تكن قصة (بنت الباشا) هي آخر حديثه عن الزواج، وإن كانت آخر ما أنشأ في هذا الموضوع بخصوصه؛ ثم بقي عنده طائفة من المعاني والخواطر في موضوع الزواج والمرأة جاءت مبعثرة في طائفة من المقالات من بعد؛ ومنها مقالة (احذري) وهي قصيدة من النثر الشعري مترجمة عن الملك، تقع منزلتها بازاء القصيدة المترجمة عن الشيطان في مقالة (لحوم البحر).

وكان الرافعي في هذه الفقرة قد اصطنع مودة بينه وبين طائفة من الشباب اللاهين، كانت تجمعهم قوة (لمنوس) في طنطا للعبث واللهو والمجانة؛ فتألفهم بالنادرة والفكاهة ليجمعهم إليه فيستمع إلى أحاديثهم في شئون المرأة والزواج؛ وقد قدَّمت القول في بعض ما سبق من هذه الفصول بأن ذهن الرافعي كان سريع الالتفات إلى معاني المرأة، وكانت أعصابه قوية الانفعال بحديث النساء، حتى لتراه وهو يستمع إلى محدِّثه إذ يتحدث عن الحب والمرأة كأنما يخيل إليه أنه يرى قصة ما يسمع، وأنه يشهد حادثة لا حديثا؛ ثم يزيِّن له خياله ما يزين فيضيف من وهمه إلى ما سمع ما لم يسمع؛ فتراه كما ترى الفتى المراهق: يجد حديث الغزل والحب حريقا في دمه وثورة في أعصابه لا حديثا في أذنيه. . . فيستزيد مما يسمع وهو صاغٍ ملذوذ؛ فيحمل محدثه بذلك على الإطناب والاسترسال حتى ينفض جملة ما في نفسه من رواية الواقع أو مبتدعات الخيال. . .!

وعلى شدة إحساس الرافعي بمعاني (الجنس) إلى هذا الحد، فانه بإيمانه وخلقه وتديُّنه واعتصامه بالوحدة، كان قليل الخبرة ضئيل المعارف في هذا الباب: فكان له علم جديد في كل ما يسمع من هؤلاء الفتيان من قصص ما بين الشبان والشابات من ناشئة هذا الجيل؛ وكان هذا العلم الجديد يسرع به إلى سوء الظن بكل فتى وكل فتاة، وكان من هذا الظن مذهبه الاجتماعي الذي يعرفه القراء.

من أحاديث هؤلاء الفتيان، كان إليه وحي المعاني في قصيدة (احذري)؛ كما كانت توحى إليه حوادث بعض الصحف وأحاديث بعض المجلات بكثير من المعاني وكثير من الموضاعات؛ إذ كان يحرص على أن يقرأ كل ما تنشره الصحف والمجلات من أحاديث الهوى والشباب ومصارع الأخلاق.

وكان الرافعي يختلف في طنطا إلى بيوت طائفة من مهاجرة لبنان كان بينه وبينهم صداقة ومودة؛ فكان يزورهم بين أهليهم، فيكرمونه ويتسعون له ويحفون به؛ والرافعي محدِّث لبق ظريف المسامرة؛ فكانت مجالسه هناك تطول ساعات يتحدث إليهم ويتحدثون إليه. وفي بيوت المتمصرين من أهل لبنان عادات غير ما نعرف في بيوتنا، فكان الرافعي يجد هنالك جواً يوحي إليه ويمده بعلم جديد. . .

وأنا لم أصحب الرافعي في طنطا إلى (زيارة مصرية) إلا فيما ندر، على أني كثيراً ما كنت أصحبه في تلك الزيارات. . .!

وأعترف بأن الرافعي لم يكن يقصد إلى زيارة أصدقائه هؤلاء لغرض مما يتزاور من أجله الأصدقاء، ولكنها كانت زيارات يقصد بها إلى معنى مما يتصل بفنه وأدبه؛ وأحسب أن كثيراً ممن كان يزورهم ويزورهن كن يعرفن له ذلك فيهيئن له أسبابه وكثير من نساء لبنان أحفل بالأدب من رجال في مصر.

وقد صحبته مرة إلى زيارة أسرة الآنسة ق، وهي فتاة ذكية من أهل الفن والأدب؛ وقد ألحَّ عليَّ يومئذ إلحاحاً شديداً أن أصحبه، ولم أكن أعلم ما يقصد إليه بهذه الزيارة إلا أن تكون تسلية بريئة ومتاعاً من متاع أهل الفن.

وكنت في ذلك اليوم صانعاً أغنية عامية في معنى من معاني الشباب تعبر عن حال من حالي في تلك الفترة، ودفعتها إلى الرافعي لينظر فيها؛ فلما قرأها طواها وجعلها في جيبه. . .

. . . وصحبت الرافعي إلى حيث يريد، فاستقبلتنا الفتاة وأمها وشاب من قرابتها، ثم لم يكد يستقر بنا المجلس، وأهل الدار حافون بنا يبالغون في إكرامنا، حتى أخرج الرافعي الورقة من جيبه فدفعها إلى الفتاة. . .

وقرأت الفتاة الأغنية، ثم ردتها إلى الرافعي وهي تقول: (جميل. . . شعر عاشق!)

قال الرافعي وهو يشير إليَّ مبتسما: (إنها أغنيته!)

قالت: (إيه. . .! أعاشق هو!)

قال الرافعي: (نعم!. . . ومن أجلك صنع هذه الأغنية!)

ومضت فترة صمت، وصبغت حمرة الخجل وجه الفتاة، وتولتني الدهشة مما سمعت فما استطعت الكلام، ونظر الرافعي إليَّ نظرة طويلة لم أفهمها، وكان بي من الحياء أضعاف ما بالفتاة. . . وكانت دعابة غير مألوفة ولا منتظرة، أوقعتني في كثير من الحيرة والارتباك. . .

وقطعت الأم هذا الصمت الثقيل قائلة: (أغنية رقيقة!)

وردد الشاب صدى صوتها يقول: (. . . رقيقة!)

وثبتُّ في مكاني لا أتحرك، لا أرى أمامي غير تلك الابتسامة الغامضة على شفتي الرافعي. . .

ثم نهضت الفتاة إلى الغرفة الثانية وعادت بطبق الحلوى فقدمته إليَّ؛ ثم إلى الرافعي؛ واتخذت مجلسها إلى جانبي. . . وعاد الحديث ألواناً وأفانين بين الجماعة وأنا صامت في مجلسي لا أكاد أفهم ما يدور حولي من الحديث!

وجعلت أسائل نفسي وأكاد أنشق غيظاً: (ترى ماذا حمل الرافعي على هذا القول. . .؟)

فلما انفض المجلس وخرجنا إلى الطريق نظرت إلى الرافعي مغضباً أسأله جلاء السر، فضحك ملء فمه وهو يقول: (قصة طريفة. . .) لقد عقدنا العقدة فانظر في طريقة للحل. . . سيكون فصلا أدبياً ممتعا يا شيخ سعيد، تكون أنت مؤلفه وعليَّ أن أرويه؛ لقد سئمنا الخيال فالتمسناك وسيلة إلى الحقيقة. . .!)

وغاظني حديث الرافعي أكثر مما غاظني الذي كان منه فتمردت عليه، ولكن الرافعي عاد يضحك ويقول: (أتراك - إن أبيت - تستطيع أن تمنع نفسك الفكر فيها وأن تمنعها؟ لقد بدأت القصة فما بدٌّ من أن تكون لها خاتمة!)

وضقتُ بهذه الدعابة وثارت نفسي فأخشنتُ القول؛ فزاد به الضحك وهو يقول: (وهذه الثورة أيضاً هي حادثة من فصول هذه الرواية. . .!)

واعداني مرح الرافعي وانبساطه فضحكت، ثم لم أجد للجدال فائدة فسكتُّ على غيظ ضاحك. ولقيتُ الفتاة بعدها مرتين فتناسيت ما كان ولم أسأل نفسي عن شيء من خبرها. . . ومضى زمان، ثم جاءني الرافعي يوماً يقول: (أن بينك وبين صديقنا الأديب ج لشيئاً؟) قلت: (ماذا؟)

قال: (أحسبه يغار منك على خطيبته الآنسة ق؛ فأنه ليعلم أن بينكما عاطفة. . .!)

وقال لي ع الذي صارت ابنته في داري من بعد: (أتراك كنت مع الرافعي أمس في زيارة فلانة؟) فتوجست من سؤاله شيئاً. . .

وكادت تكون قصة كما أراد الرافعي ولكني حسمت أسبابها فراراً بنفسي!

. . . من مثل هذه الحادثة كان يلتمس الرافعي موضوعاته ويبدع معانيه في المرأة والحب والزواج ومشاكل الأسرة؛ ومن هذه المجالس التي كان يصطنعها أو يسعى إليها ويهيئ أسبابها، كانت تنجلي له الفكرة ويومض الخاطر وتتشقق المعاني؛ ومن هذا الجوّ زخرت نفسه بالعواطف النابضة التي ألهمته من بعد أن ينشئ ما أنشأ من القصص لقراء الرسالة، ومنها كانت قصص الأجنبية، وسموّ الحب، والله أكبر، واليمامتان، وغيرها، وما أعني أن ذلك كان يملي عليه القصة والموضوع، إنما كان يمده بالمعاني والخواطر حتى يملأ نفسه ويوقظ حسه؛ فما تزال هذه الخواطر والأفكار مضمرة في الواعية تزبد وتتوالد وينضم شيء منها إلى شيء حتى يأتي وقتها؛ فإذا همّ بموضوع مما يتصل بهذه الخواطر المضمرة انثالت عليه المعاني انثيالا حتى يتم الموضوع تمامه على ما يريد.

ولما قص الرافعي قصة (الأجنبية) وحكى حكايتها على لسان ولده الدكتور محمد، أحس بالتعب والملل، وراجع ما كان من عمله في الأشهر الستة الماضية منذ بدأ يعمل في الرسالة، وما عاد عليه؛ فضاقت نفسه وبرمتْ به، وأحس في نفسه شعوراً جديداً ليس له به عهد، وقال لنفسه وقالت له، وثقل جسمه في الفراش بما يحمل في صدره من هم وما يضني جسده من علة؛ وخفت روحه إلى سماواتها، وتنازعته قوتان. . . وهم أن يكتب إلى الأستاذ صاحب الرسالة ليعفيه من الاستمرار في العمل. . . وطال الحديث بينه وبين نفسه فأرّقه ليلة. . .

وتركته وروّحت إلى داري وهو شاك متبرم ينكر موضعه من الحياة ومكانه بين أهل الأدب. فلما كان عصر اليوم التالي دعاني ليملي عليّ (قلت لنفسي. . . وقالت لي. . .)

من أراد أن يعرف الرافعي العرفان الحق، فليقرأ هذا الحديث يعرف نفسه الصريحة على فطرتها؛ ثم يعرف مذهبه في الأدب وهدفه في الحياة.

إن غاية ما ينشده الباحث عندما يهم بالبحث في حياة إنسان له أثر في تاريخ الحياة أو تاريخ الأدب، أن يعرف مضمر نفسه من ثنايا أعماله أو من حديث معاصريه؛ وإنه مع ذلك ليخطئ أو يصيب سبيل المعرفة، ولكن هاهنا إنساناً يتحدث عن نفسه وتتحدث نفسه إليه، حديثاً كله صدق لا اختراع فيه ولا تزوير ولا سبيل فيه إلى الخطأ

وأشهد أني رأيته قبل أن يملي عليّ الحديث وان في وجهه لمعانيه قبل أن يكون كلاماً؛ فما رأيته ورأيت حديثه من بعد إلا كما تصور معركة في حكاية وصف: هذه هي هذه، وكانت حركات صامتة فصارت عبارة ناطقة.

وأكثر معانيه في هذا الحديث قديم في نفسه؛ وقد نظم شيئاً منها قبل ذلك بسنتين أو ثلاث في قصيدة نشرها في مجلة المقتطف

. . . وكما تثوب إلى المحزون نفسه إذا صرح بشكاته إلى صاحب سره، هدأت نفس الرافعي بعد إملاء هذا المقال وثاب إلى الطمأنينة والرضى، وكأنما نفض همومه وأحزانه في هذه الكلمات وكانت تثقل رأسه؛ أو كأنما كان يستمع إلى مداولة الرأي في محكمة الضمير بين نفسه وهواه، فما هو إلا أن استوعب ما قال وقالت حتى اطمأنت نفسه إلى الحكم الأخير، وانتصرت الروح السامية على ما كان ينازعها من أهواء البشرية. . .

ثم كان هلال رمضان فأنشأ مقالة (شهر للثورة) وهي السابعة مما أنشأ من المقالات الدينية لقراء الرسالة

(سيدي بشر)

محمد سعيد العريان