مجلة الرسالة/العدد 276/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 276/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 10 - 1938



شيء من فلسفة الموسيقى

للدكتور أحمد موسى

إذا انحصرت فلسفة الموسيقى في تفسير جمالها وإيضاح التأثر بسماعها أمكننا أن نعتبر التمتع النفسي بهذا السماع أهم عنصر مكون لجمالها الذي هو بدون شك جزء من الجمال العام

وإذا كان جمال الفن المكاني منحصراً فيما يمكن رؤيته، أو ما يمكن لمسه، كان جمال الفن الزماني منحصراً فيما يمكن سماعه

وعلى ذلك يكون التأثر بهذا المسموع وقياس القدر الفعال في نفسية المستمع هو موضوع فلسفة الموسيقى

ومعنى هذا أن نقد وتحليل ما نسمعه منها على قاعدة الأسمى والأجمل والأروع هو الغرض الأول من التفلسف الموسيقي

وإذا كان أثر الجمال هو دخول السرور المطلق على النفس نتيجة المشاهدة، كان أثر الموسيقى السامية الجميلة الرائعة نفس السرور المطلق نتيجة هذا السماع

ولا يخرج السرور هنا عن معنى الارتياح والرغبة في الاستزادة دون رد فعل يُشعر بالخيبة أو الضجر، حتى ولو كانت القطعة الموسيقية تمثل الحزن والألم؛ لأن هذا ما تصادفه أحياناً في المشاهد الطبيعية التي تكون ثورة بركانية، أو اصطدام غيوم نشأ عنه برق ورعد، أو مطر غزير لا يبعدها عن الجمال الذي يمكن للفنان أن يتأمله ويتأثر به دون رد فعل

فالألحان الموسيقية تكون تارة ممثلة لحلاوة اللقاء، وأخرى لمرارة الفراق، وغيرها للذة الانتصار، أو لقساوة الانهزام، وما إلى ذلك من مختلف النواحي التي يتصيدها الفنان بفنه

وعلى هذا القياس يمكن اعتبار كل ما يلفت الإرادة الشخصية إلى السماع دون إرغام موضوعاً من موضوعات الموسيقى - على أني لا أقصد بالسماع مجرد الإنصات، بل السماع المشفوع بالتفكير والفهم والتقدير والتأثر؛ إذ عندئذ نجد العقل مفكراً لتكوين حكم معين على ما يسمعه، بعد قياس درجة تناسب الأصوات وانسجام أجزائها المكونة للقطعة، وأخيراً لاتحاد الهارموني فيها

والموسيقي الفنان الذي يعبر عما يجول بنفسه الثائرة هو ذلك الذي يدرس الطبيعة في مختلف مظاهرها ويتأملها فلا يقنع بما فيها فيشقى؛ ثم يجدُّ في الوصول إلى غايته راغباً التعبير عما يتغلغل في نفسه من جمال كمالي يعتقد بوجوب ظهوره فيعجز، ثم يقنع بتقليد ما فيها إلى حد ما، في أصوات يخرجها للناس، متوخياً الوصول إلى ذلك المثل الأعلى الذي لا يخرج عن كونه الظمأ نحو الخلود.

والمثل الأعلى مما لا يمكن وجوده أو رؤيته أو سماعه، ولهذا فهو غاية نسمو إليها بالخيال الذي يعبر عنه الفنان الموهوب بما نسميه الوحي أو الإلهام وما يسميه الجميع الخلق الفني

والفن روح خفية تسكن نفس الفنان فتبعث فيه عينين قادرتين على النظر لا كما يرى الجميع، بل على ذلك النظر التقديري الذي يتعرف به الجمال أينما كان، وأذنين قادرتين على السمع لا كما يسمع الناس، بل على السمع الدقيق الفائق الذي به يستطيع التفرقة بين ما هو سام وما هو غير سام. لذا وجب أن يكون الموسيقي رجلا تمثلت كل قواه في عينيه وأذنيه، فبالعينين يتلمس الجمال المشاهد، وبالأذنين يتلمس الجمال المسموع، فيخرج للناس ما لا غنى لهم عنه، ألا وهو الخلق الموسيقي السامي

والأصل في الخلق الموسيقي السامي هو حاسة النظر بلا شك لأن بها يتأثر الفنان - موهوباً كان أو ملهماً - بما في الحياة، وتكون نتيجة هذا التأثر القدرة على الخلق الفني، وعلى ذلك نرى الفنان دائم التأمل الذي يعود عليه بالبؤس - غالباً - فهو أشبه بالفيلسوف الذي لا يقنع بما يراه أو يسمعه؛ فيقضي حياته عاملا مكملا قدر استطاعته، ولكنه يفنى دون أن يصل إلى ما تصبو إليه نفسه، تلك النفس التي تميزت على نفوس المجموع بصفاء النظر ودقة التأمل والدرس والتغلغل في كنه المرئيات والمسموعات وأخيراً بالهيام والمقدرة الهائلة على تفهم الجمال المطلق. كل هذا متجمعاً يكون لك تلك النفسية البريئة الهادئة الوديعة، نفسية الفنان.

يقول أرسطو إنه لا ينبغي أن يقف الغرض من الموسيقى عند حد التلهية والتسلية، لأنها من أهم وسائل التهذيب الأخلاقي ومن خير طرق العلاج الفعال البطيء لتنقية النفس من عيوبها المتأصلة وقد التفت إلى هذا رجال التعليم في العصر الحاضر فأخذوا ينشرون الموسيقى في دور التهذيب، أما فيما يتعلق بعلاج الأمراض فقد دلت آخر الأبحاث على فائدة الموسيقى إلى حد أدهش العلماء.

وثبت أن الألحان ذات أثر مختلف في مستمعها الفاهم لها، فمنها ما يؤثر تأثيراً هادئاً يعقبه نوم عميق، ومنها ما يوقظ ويبعث نشاطاً عجيباً. ولا أدل على ذلك من تأثير قطعة أيرل كوينج ليبتهوفن على مرضى الميلانخلولي، أو قطعة تانهويزر لفاجنر، أو قطعة الافتتاحية لميستر زنجرن اللتين تلائمان مرضى الغضب السريع

ودلت تجارب عدة على أن الدورة الدموية تتأثر أيضاً بالموسيقى إلى حد أنها تنتظم وتصل إلى المستوى الطبيعي

وجد الدكتور تراخانوف أن الموسيقى السهلة تساعد على تنشيط العضلات الضعيفة، على حين لاحظ أن الموسيقى المدرسية (كلاسيك) لا تؤثر هذا الأثر؛ بل على النقيض تكسب العضلات شيئا من التراخي

والعناية بأمر الموسيقى في علاج الأمراض قائمة على أشدها في ألمانيا - بلاد العلم والفن والمدنية - حتى لنرى أن أعظم جامعة فيها وهي جامعة برلين قد منحت دكتوراه الشرف للموسيقي المغني ماكس ريجر الذي أثبت أن المعالجة بالموسيقى ذات أثر قيم قائم بالدليل في معالجة الأمراض النفسية

من كل هذا نرى أن الموسيقى هي إحدى نعم الله التي منحها خلقه العاقل المعذب، والتي بها يستطيع أن يبعد عمل الشيطان من نفسه، ويلتفت إلى ما في الوجود من جمال يدل على قدرة الخالق وعظمته

ولعل الشاعر شكسبير لن يبالغ بقوله في رواية روميو وجوليا (1593) أن الموسيقى بلسم القلوب الجريحة ونعيم العقول المتعبة، إذ بصوتها الفضي يكتسب القلب بهجته والعقل راحته

وإذا رجعنا إلى كتاب شوبنهاور (الدنيا كإرادة وتصور) نجد فيه الفيلسوف يقول إن أحسن موسيقى وأسماها هي تلك التي لا نستطيع وصف أثرها في نفوسنا عند الاستمتاع بها، حيث تذهب بنا إلى جنة الخيال البعيد عن مرارة الحقيقة الراهنة أما جوته (1827) فقد وجد أن الموسيقى تعاصر الإنسان منذ خلقه، قديمة بقدمه، تناسبت مع نفسه وروحه وشاعريته ووجدانه، فتطورت بتطوره. ويؤمن بأن الإنسان قد يستمع لموسيقى جديدة فلا يطرب لها لأول وهلة وذلك لعدم تفهمه إياها (قصد موسيقى فاجنر)، أما بعد أن يألفها فإنه يجد استمتاعه بها متناسباً مع تفهمه لها، حتى يحين الوقت الذي يجدها فيه خير معَّبر عن مثله الأعلى في ناحية من نواحي وجدانه، ألا وهي ناحية العاطفة السامية والحس الدقيق

وهذا تفلسف اتفق مع الواقع، ولا سيما أنه اشترط في الموسيقى أن تكون متناسبة مع عقلية الإنسان وتفكيره ودرجة فهمه وتمدنه، فقد ترى السذج يطربون لموسيقى لا انسجام فيها ولا طرب؛ على حين تجد أولئك الذين أنعم الله عليهم بنعمة العقل وسمو المشاعر لا يطربون إلا لما أخرجه الفنان الموهوب الذي أمكنه التعبير عن حب دفين لا نهائي للخالق جلت قدرته في أصوات منسجمة متوفرة الارتباط، تسمو بالمستمع إلى ملكوت مقدس بعيد كل البعد عن الطرب المصطلح عليه في الشرق

أحمد موسى