مجلة الرسالة/العدد 286/رد على باحث فاضل

مجلة الرسالة/العدد 286/رد على باحث فاضل

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 12 - 1938



بين الغرب والشرق

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

(بقية ما نشر في العدد 284)

أن معنى النظر في العالم المنظور هو النظر الحر من أوجه العالم المشهودة بدون أن يشوب هذا النظر اتجاهات مستنزلة من النظر الغيبي، والبحث عن الخالق عن طريق الطبيعة نظرة للطبيعة ولكن مشوبة بالنظر الغيبي. إذن فمتى سبق الشرق الغرب بمثل هذه النظرة الحرة للأشياء من أوجهها المشهودة؟ أليس اليونان أول من أطلقوا العقل من عقاله وحرروه من الخضوع في اتجاهاته للنظر الغيبي، وأعادوا العقل إلى مكانه الصحيح في عالم الشهادة؟

وبعد فيظهر أن باحثنا المفضال، متأثراً بعقليته الشرقية من جهة وبعدم تفهمه ما وراء عباراتنا من معان من جهة أخرى، انساق لاعتراضات ومواقف ليست من الحقيقة في شيء. ولا أدل على ذلك من تعليقه على رأينا (من أن الجانب العلمي والفلسفي من الثقافة الإسلامية نتيجة للأخذ بأساليب الفكر اليوناني) بقوله: (ولماذا لا يكون هذا الجانب نتيجة للأخذ بأساليب الدين الإسلامي وتعاليمه؟) ونحن إزاء هذا التساؤل لا نملك أنفسنا من السخط لا على أن باحثنا أتى بشيء ليس لنا قبل برده؛ ولكن لاعتراضه على حقيقة معروفة للجميع بمثل هذا التساؤل الذي لا يعني شيئاً غير قصور صاحبه عن الوقوف على تأثير الفكر اليوناني في نشأة الثقافة الإسلامية. يقول البروفسور نيلينو المستشرق الإيطالي المعروف في كتابة تاريخ علم الفلك عند العرب ص 141 ما نصه:

(في أواخر مدة الدولة الأموية، ثبتت سلطة الإسلام على جميع الأمصار والأقطار التي دخلتها ألويته عنوة أو صلحاً أثناء المغازي المتواصلة والفتوح من أقصى بلاد ما وراء النهرين في تركستان إلى منتهى المغرب والأندلس. فعمت اللغة العربية الشريفة أهل تلك الولايات والبلدان وغلبت على ألسنتهم الأصلية فأخذ المسلمون كلهم من أي جنس أو ملة لا يستخدمون في الإنشاء أو التأليف إلا لغة العرب. فابتدأت وحدة الدين تستوجب وحدة اللسان والحضارة والعمران، فصار الفرس وأهل العراق والشام ومصر يدخلون علومهم القديمة في التمدن الإسلامي الجديد)

وقد قلنا في نفس هذا المعنى شيئاً في كتابنا (الرسالة الأولى من مصادر التاريخ الإسلامي) ص 37 - 83 (طبع 1936 - الإسكندرية)

(لقد فتح العرب البلاد وملكوا الأمصار عن طريق الحرب وقد نجحوا في نشر الإسلام في الأمم المغلوبة. ودخول هذه الأمم الإسلام جعلهم يخضعون لروح الإسلام الديني والاجتماعي إلى حد. إذ لم يكن هؤلاء إلا أبناء تواريخ مجيدة وحضارات تليدة فسرعان ما رأيناهم قادة المدنية الإسلامية في ساحات التفكير والحضارة. . . دخل أبناء هذه الأمم الإسلام وهم يحملون في تضاعيف عقولهم مرونة فكرية، وبين ظهرانيهم كانت مذاهب دينية متعددة في انتشارها من الوثنية إلى المسيحية في صورتيها النسطورية واليعقوبية، وكانت عقولهم تحمل في طياتها بذور المدنية اليونانية كما نقلها لهم اليعاقبة، ولم تخل أذهانهم من منازعات ستة قرون في المسائل الدينية

دخلوا الإسلام فمحا كل هذه المظاهر من عالم الشعور، ولكنه لم يمحها من طيات النفس وعالم اللاشعور، فأثرت هذه العوامل على مر الزمن عن طريق غير شعوري في تعاليم الإسلام فظهر علم الكلام

فإذا كان علم الكلام وهو من أخص العلوم الإسلامية، ظهر تحت تأثير الامتزاج الغريب بين العناصر الثقافية المختلفة في كيان الشرق العربي مع غلبة للعنصر الثقافي اليوناني في هذا الامتزاج، فلا شك أن مثل الدعوى التي يقدمها باحثنا الفاضل بأن العلم والفلسفة في تاريخ المدنية الإسلامية يرجعان إلى أصل من الإسلام في القرآن، دعوى لا تجد لها ما يسندها من حقائق التاريخ الإسلامي وفلسفة هذا التاريخ

ونقطة أخرى من نقط اعتراضات كاتبنا (باحث فاضل) فهو يعلق على قولنا (انتهى متكلمة المسلمين إلى أن العالم حادث وانتهى الغربي إلى أنه قديم) بأن معنى حادث عند متكلمة المسلمين لا تدل على تاريخ معين، وإنما أراد بها المتكلمة أن العالم حادث بالنسبة للخالق، ونحن نقول: من ذا الذي أنبأ صاحبنا بأننا لا نعني من كلمة حادث ما يعنيه المتكلمون، ونحن ننسبها لأصحاب الكلام من المسلمين. والمسألة عندي أن الشرقي يعتقد أن العالم حادث على الوجه الذي تكلم به الإمام الغزالي، والغربي يعتقد أن العالم قديم على الوجه الذي تكلم به ابن رشد فيلسوف قرطبة، و (تهافت الفلاسفة) و (تهافت التهافت) هو الحد الفاصل بين هذين الاعتقادين: اعتقاد في حدوث العالم من جهة المتكلمين، واعتقاد في مقدمه من جهة الغربيين انتهت إلى صورة في الفكر الإسلامي على أنها من آراء الفلاسفة الواجب تكفيرهم من أجلها. وبعد فهذه المسألة معروفة لطالب الثانوي من طلبة المعاهد الدينية في مصر، وهم يدرسونها في علم التوحيد (الكلام) فكيف بعد ذلك يسمح كاتبنا المفضال لنفسه أن يتخذ من هذه الأولية مثاراً لاعتراض؟!. . .

هذا وقد وقف الفاضل في القسم الثاني من تعليقه في الرسالة يغمز غمزات ويدير الكلام على وجه لا يتفق مع الحقيقة، من ذلك أنه علق على قولنا (انتهى الغربي إلى أن إرادة الله مقيدة بنظام الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار بعبارة من عنده قائلاً: كلام من؟ وأي كلام هذا؟. . .

أما كلام من؟ فالإجابة هينة: هو رأي الفكر الغربي إذا ما آمن بالله! وإذا أراد باحثنا الفاضل أكثر من ذلك قلنا له إنه رأي الفلاسفة من المسلمين ذلك أن هذا الرأي قائم على الاعتقاد بأن وجود العالم صادر عن الله بطريق التعليل. أما استنكار الكاتب هذا الكلام فليس لنا في هذا الكلام شيء فنحن نقرر الواقع، ولكن لنا أن نتساءل: لم هذا الاستنكار؟

أليس هذا رأيا يدرسون في كلية (أصول الدين) بالأزهر دلائله ويناقشونها مناقشة جدلية صرفة؟ أليست كتب الكلام فيها عشرات الصفحات في مناقشة هذا الرأي؟

أليس تكفير الغزالي لابن سينا والفارابي كان من أجل هذا؟ ألم يرد ابن رشد على الغزالي في تكفيره ابن سينا والفارابي من أجل هذا الموضوع في كتابه (تهافت التهافت)؟

وبعد فيظهر أن باحثنا الفاضل نسي أو تناسى كل هذا فوقف يصرخ قائلاً: من قال بأن الغربي يعتقد هذا إلا إذا نقد الجانب العلمي من قوى تكفيره؟ أما هذا القائل فهو أنا. . . ذلك أن الغربي حين نظر للأشياء نظر إليها من ناحيتها المشهودة الواقعة في العالم المنظور، فانتهى عن طريق النظر فيها إلى أن العالم مسوق في سيره بسنن وقوانين ونواميس، وهذا جعله ينتهي بتفكيره إلى اكتشاف الأسلوب العلمي

وقد جاء لنا في ذلك من بحث منشور بالمقتطف م93 ج4 (نوفمبر 1938) ما نصه: (لقد كان الإنسان من عهد سقراط الحكيم (469 - 399 ق م) يرى غاية التفكير في إدراك الماهية، وذلك بمعنى تكوين معاني تامة الحد. وكان معين التفكير طيلة هذا المهد منحصراً في الاستقراء حيث يتدرج العقل من الجزئيات إلى الماهية المشتركة بينها راداً كل جدل إلى الحد والماهية

وفي أوائل القرن السادس عشر أخذت جماعات قليلة من مفكري الغرب يشكون في قدرة الأسلوب التجديدي وإمكان الوصول به إلى نتائج عملية تطبيقية. وأخذت هذه الجماعات تعمل على إدماج النتائج التي تسفر عنها المشاهدات والتجارب في نظام مادِّي على قاعدة الوحدة والعلاقة. . . وكان يحدوهم في تفكيرهم هذا إيمان ثابت بنظام العالم الخارجي وتجانسه ووحدته

إذن يتبين أن التفكير العلمي قام على أساس أولي هو الإيمان بنظام العالم الخارجي وثبات هذا النظام. وهذا يعني أن العالم بقوانينه ونواميسه خالد (أبدي)، فإذا انتهى رجل العلم اليوم إلى الخالق قيده بنظام هذا الكون، على اعتبار أن العالم صادر عنه بطريق التعليل

وصرخة أخرى. . . ذلك أننا قلنا: (إن في قدرة الإنسان تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المتحكمة في وجوده) وهنا أولاً: نسبة هذه الوجهة من النظر إلى الغربي. ثانياً: ورود لفظ النواميس تجعل معنى المقدر للإنسان ما قدر له حسب نواميس الطبيعة. وهذا المقدور بطبيعة الحال يفترق عن مفهوم المقدر للإنسان في علم الله عند الشرقي. فإذا كان الأول من الممكن تغييره، وحياة الإنسان منذ بدء وجوده على الأرض تغيير للمقدرات الطبيعية له، فإن الثاني ليس في الإمكان تغييره. . . وكأني بصرخة باحثنا الفاضل قد انبعثت من عدم تفهمه كلامنا على وجهه الصحيح.

وبعد فننهي ردنا هذا بكلمة هادئة لباحثنا الفاضل، فقد وهم حين ظننا من العرب أولا ومن الشرقيين ثانياً، فلسنا من أصل عربي ولسنا شرقيين، وهذا نسبنا وتاريخ حياتنا مبسوط في شيء من الإسهاب في مقدمة دراستنا التحليلية (طه حسين) التي صدرت ربيع هذا العام. وعلى فرض أننا شرقيون ومن أرومة عربية فهل كوننا شرقيين أو عرباً يمنعنا عن قول الحقيقة إذا كانت ضدنا؟

أما ما أثاره الباحث الفاضل من اشكالات في نهاية مقاله فموعدنا بالرد عليه مقال تال، نضمنه رداً لنا على ما أثاره من اشكالات واهية ذلك الأديب الكبير الذي حاول أن يتعرض لإحدى فكراتنا بالمناقشة بين سطور مقال كتبه في مناقشة لكتاب للبروفسور مارتن الإنجليزي.

إسماعيل أحمد أدهم