مجلة الرسالة/العدد 299/أعلام الأدب

مجلة الرسالة/العدد 299/أعلام الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1939



درامات إسخيلوس

للأستاذ دريني خشبة

أقدم ما وصلنا سليما من مآسي إسخيلوس هي درامته البارعة (نسوة متضرعات) وهي درامة شائقة لا يعرف في أي سنة نظمها الشاعر بالضبط، وتليها في القدم درامة (الفُرس) فقد نظمها سنة 472 ق. م وفي سنة 458 تقدم إلى المباراة التمثيلية بدرامة مفقودة ففاز عليه الشاعر الشاب سوفوكليس للمرة الأولى وكان لهذا الحادث أثره الذي لم يمح من نفس إسخيلوس والذي قيل إنه هاجر بسببه إلى جيلا بعد ذلك بعشر سنين

وفي السنة التالية (467) فاز على جميع منافسيه بدرامته (سبعة ضد طيبة)، ولا يعرف المؤرخون على وجه التحقيق متى نظم رائعته العصماء (برومثيوث) ويظن الأستاذ جلبرت موراي أنها نظمت هي وأختها المفقودة (ليكورجيا) بعد (سبعة ضد طيبة)

وقبل أن يموت في جيلا بعامين نظم أقوى دراماته وأعنفها (الأورستيّة) (458ق. م) وهي الثلاثية الوحيدة الكاملة التي وصلتنا سليمة من هذا التراث الأدبي الحافل المفقود

1 - نسوة متضرعات

نسوة متضرعات هي الحلقة الأولى من ثلاثية كاملة ما تزال حلقتاها الثانية والثالثة مفقودتين وإن يكن موضوعهما معروفاً. . والثلاثية كلها تتلخص في أن إيجبتوس أحد أمراء مصر الشمالية كان له خمسون ولداً؛ وكان له أخ يدعى دانوس رزقه الله بخمسين ابنة ذوات جمال بارع، فحدث أن هام كل من أبناء إيجبتوس بواحدة من بنات دانوس. . . وتقدم إيجبتوس إلى أخيه يخطب بناته على أبنائه. . . وهنا تقوم عقبتان أولاهما تلك النبوءة التي تنبأ بها بعضهم لدانوس وهي أن أحد أزواج بناته سيقتله، وثانيتهما أن شريعة القوم في هذا العصر كانت تحرم زواج الرجل من أبنة عمه وتعتبره زناً. . . فماذا يصنع دانوس؟ فكر الرجل ثم فكر، ثم رأى أم يقر ببناته إلى بلاسجوس ملك آرجوس إحدى ممالك اليونان. . . ورست الفلك على الشاطئ ونزل الركب، ولمحت إحدى البنات رجلاً عظيما بادي الوقار يتنزه هناك، فلما سألت عنه قيل لها إنه الملك. فأستاذنت أباها وذهبت إليه تدعوه إلى والدها ورحب الملك بهؤلاء المحتمين به اللائذين بظله وخصص لهم منزلاً رحباً وعيشة رغداً. . . وأقبل قائد مصري بعد أيام يطلب تسليم دانوس وبناته الخمسين. فجمع الملك وزراءه ومجلس شوراه، وجميع مواطني آرجوس يعرض عليهم الأمر فأبوا جميعاً أن يسلموا اللائجين لما في صنع ذلك من منافاة النخوة وعدم الوفاء. . . فيرتد القائد المصري، ويعود بعد أيام بجند كثيف فيغزو آرجوس ويقبض على دانوس وبناته ويعود بهن معززات مكرمات إلى مصر

إلى هنا تنتهي الحلقة الأولى. . . وقد سمى إسخيلوس درامته الثانية من هذه الثلاثية (فِراش العرائس) أو (ماهدات فراش العرس) وفيها يتآمر دانوس وبناته على أن يقتلن أزواجهن ليلة العرس بعد أن يناموا على ألا يمكنَّهم منهن من شيء. وتُنَفّذ البنات ما عاهدن عليه أباهن من هذا الإثم إلاهيير مسترا التي استفظعت أن تريق دم هذا الجمال الشاب النائم المستسلم لها، فوقفت تنظر إلى الخنجر المشحوذ مرة، وإلى ابن عمها الذي أحبته وهويته وأغرمت به مرة أخرى فلم تر بدا من أن توقظه، وتبوح له بالسر الهائل. . . وهنا يستيقظ القصر كله، ويكون دانوس مرتقبا الإشارة التي اتفق مع بناته عليها ليعلم أنهن قد قمن بواجبهن وأنفذن ميثاقهن، لكنه لا يرى العلامة تنبثق بالضوء من شباك هيير مسترا فيرتجف، ويسمع إلى الضجة فيحاول الهرب، ولكن ابن أخيه، وزوج ابنته الذي لم يقتل، يفاجئه ثم يعالجه بضربة تقضي عليه فيثأر لاخوته وتنفذ على يديه النبوءة.

ثم تبدأ الحلقة الثالثة التي سماها إسخيلوس الـ (دانايدز أي بنات دانوس اللائى يلقين جزاءهن في هيدز ويكلفن بملء وعاء كبير مثقوب من ماء نهر بعيد الغور وعر المنحدر فكلما جئن بجرارهن وصببنها فيه ذهب الماء ولم يبق منه شيء، فإذا جلسن يستجممن صُب عليهن وابل بارد فيهرعن إلى عملهن وهن ناصبات لاغبات. أما هيير مسترا فتقدم للمحاكمة بتهمتين، أما الأولى فعصيانها أباها فيما أعطته عليه مواثقها، وأما الثانية، فزواجها من ابن عمها وهو زنا في نظر الشريعة المعمول بها حينذاك.

كيف حلّ أسخيلوس هذه العقدة؟ وفي أي الجانبين يقف؟ في جانب القاتلات، أم في جانب الزوجة الوفية التي استنكرت القتل؟ يبدو لنا أنه آثر أن يقف إلى جانب هيير مسترا، لأنه أتى لها بربة الحب فينوس (أفروديت) فشفعت له وبرأت ساحتها. ولا ندري هل عادت إلى زوجها أم حيل بينهما. . . لم يذكر لنا التاريخ شيئاً من ذلك!

وتمتاز هذه الدرامة بالإ كبار من شأن الديمقراطية التي أبداها الملك بلاسجوس عندما جمع كل المسئولين من رعاياه ليشاورهم فيما طلب قائد أبناء إيجبتوس، كما تمتاز بهذه السخرية اللاذعة من تلك الشريعة الفاسدة التي كانت تحرم زواج البنت من ابن عمها وتعتبره زنا إذا تم.

2 - الفرس

ودرامة الفرس هي الحلقة الثانية من ثلاثية ما تزال أولاها وثالثتها مفقودتين. . . والأولى عن البطل فنيوس كاهن أسطول الأرجنوت الأعمى وباسمهُ تدعى. والحلقة الثالثة تدعى جلوكوز وهو الصياد الذي تحول إلى إله من آلهة البحار وأغرم بالهولة سكيلا.

وقد جعل إسخيلوس مسرح هذه الدرامة في سوسا وجعل جميع أبطالها من الفرس، وفيها تبدو أتوسه أم أجزرسيس وزوجة دارا، وهي تقص رؤيا مزعجة على بطانة من حاشيتها، فما يكادون يطمئنونها حتى يدخل رسول فيقص نبأ الهزيمة المنكرة التي منى بها أجزرسيس وأجناده في سلاميس، وبذا تتحق رؤيا أتوسه، وتأمر حاشيتها بتقديم القرابين لاستحضار روح دارا. . . وتبدو روح الإمبراطور الراحل فتأخذ في سب إجزرسيس، وتنعى عليه طيشه وقلة بصره بمزالق السياسة، وإقدامه على محاربة اليونان دون رجوع إلى أهل الرأي. ثم يدخل أجزرسيس فيأخذ هو الآخر في حزن طويل يشاطره إياه وزراؤه ومشيرو السوء الذين لم ينصحوا له بما كان يحول بينه وبين تلك الكارثة

والدرامة قطعة فنية رائعة، وقد خدمت التاريخ ووصفت سلاميس وصفاً عجز عن الإتيان بمثله أبو التاريخ هيرودوتس. ولا غرو، فقد حضر أسخيلوس سلاميس وجاهد فيها جهاد الأبطال. . . غير أن قيمة الدرامة في ناحيتها الدستورية التي نعى فيها أسخيلوس على الاستبداد والمستبدين بقدر ما أكبر من شأن الحرية والشورى. . . ومع أن الشاعر يرفع في درامته هذه من شأن أثينا فإنه لم يقلل من قدر المنهزمين. بل هو قد أضفى على الفرس وقار العدو العظيم فلم ينتقص من شأنهم ولم يقدح فيهم، وبذا كان درامياً عادلاً

3 - سبعة ضد طيبة هذه الدرامة هي الحلقة الثالثة من ثلاثية ما تزال حلقتاها لأولى (لايوس) والثانية (أودبيوس) مفقودتين. وتتلخص لايوس وأوديبوس في هذه الأحداث المؤلمة التي حاقت ببيت لايوس ملك طيبة وزوجته جوكاستا. فقد رُويت لهما نبوءة تقول أنه سيولد لهما طفل يقتل أباه ويتزوج أمه ويقضي بالشقاء على ذريتهما. فلما ولد لهما طفلهما الوحيد بعثا به إلى الجبل ليقتله أحد رعاياهما، لكن الرجل أشفق على الطفل فتركه ثمة وعاد بدم كذب على قميصه وادعى أنة قتله. وعثر أحد القضاة على الطفل ملقى في شجرة وقد ورمت قدماه؛ فأخذه وسماه أودبيوس: (أي ذا القدمين المتورمتين). وشب أوديب وتعلم الفروسية في بلاط ملك كورنثه. ثم حدث أن هجر البلاط لخلاف بينه وبين أحد الأمراء الذي غمزه في نسبه وهاجر إلى دلفي يستوحي الكهنة فيما غمزه به هذا الأمير. وقيل له إنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، ويجر الشقاء على أبنائه. . . فانطلق والهم والحيرة يمزقان قلبه. . . فبينما هو في طريقه إذا قائد عظيم يأمره أن يتنحى عن الطريق حتى يمر مولاه أولاً. فلم يمتثل أوديب وانقض على القائد فقتله. ثم جاءت عربة فنزل منها الحرس فنازلهم وقتلهم. ثم نزل منها وجل عجوز شيخ فنازله وقتله، ولم يكن هذا الرجل سوى لايوس الملك والد أوديب الذي كان ذاهباً إلى دلفي يستوحي كهنتّها في أمر مما نزل بطيبة، ويمم أوديب شطر طيبة فوحد الناس في فزع من أمر تنين (سفنكس) يقف عند باب المدينة من جهة البحر بالمرصاد لكل داخل أو خارج: يقول التنين (ما حيوان تكون له أرجل أربع في الصبح، واثنتان في الظهر وثلاث في المساء؟) فإذا لم يجب الشخص افترسه التنين في الحال. . وقد حار الناس في تأويل هذه الأحجيّة، ونذروا لمن يخلصهم من التنين أن يتزوج ملكتهم الأرمل زوجة لايوس وأن يتربع على عرش مملكتهم. . . سمع أوديب أهل طيبة يهمسون بذلك، وكان قد برم بحياته فاعتزم أن يلقى التنين فإما أن يقتله وينقذ طيبة من شره وإما أن يريحه التنين من الحياة. . . وأول أوديب الأحجية بأن الحيوان المقصود هو الإنسان بعينه، فهو يحبو صغيراً على أربع، ويدب شاباً على رجلين، ويتوكأ على عصا إذا بلغ به الكبر عتياً. . ثم انقض على التنين فقتله، وبذا تربع على عرش طيبة وتزوج الملكة التي هي أمه وهو لا يدري. . .

بذلك تحقق شطر النبوءة الأول ثم شطرها الثاني. . . ثم يجتاح طيبة طاعون هائل ويذهب الناس إلى دلفي يستوحون كهنّتها فيقال لهم إنه لا بد من القصاص من قاتل الملك لايوس ليرتفع أذى الطاعون عن طيبة. . . وهنا ينتشر الجواسيس والرقباء في كل فج يجمعون الأخبار ويتجسسون أنباء القاتل فيتبين أنه أوديبوس الجالس على العرش طيبة وأنه هو نفسه ابن لايوس وابن الملكة جوكاستا. . . ويعترف الخادم الذي عهد إليه بقتل الطفل بأنه لم ينفذ ما أمر به، فيذهل أوديب وينطلق إلى الغابة فيسمل عينيه ويهيم على وجهه حتى يموت

ثم تبدأ حوادث الدرامة الثالثة (سبعة ضد طيبة). . . فقد ترك أوديب ولديه إتيوكليز وبولينيسيز يتنازعان العرش كما ترك ابنتين أخريين نظمت فيهم جميعاً درامات كثيرة. . . ويتفق الشقيقان على أن يتبادلا الحكم عاماً لكل منهما، ولما ينتهي عام أتيوكليز ويقدم أخوه ليتسلم مقاليد الحكم يرفض شقيقه أن يسلمه إياه فيلجأ الآخر إلى أدراستوس ملك آرجوس يستنصره ويعرض أن يتزوج من ابنته، فيقبل الملك ويرسل مع صهره سبعة من قادته يقودون سبعة جيوش إلى طيبة. . . ويستمر الحصار سبعة أعوام طوال دون أن ينالوا من طيبة قليلاً أو كثيراً وإن يكن الحصار قد أجهدها فيعرض القادة أن يطلب بولينيسيز مبارزة أخيه على أن يكون الفائز صاحب الحق في العرش، ويجيز إتيوكليز هذا الحل فيمضي إليه بقلب ثابت وجنان رابط وهو يعرف النتيجة، لكنه يذهب في غير خوف لكي يريح طيبة من ويلات القتال. . . ويلتقي الشقيقان، ويستمر النزال ساعة ثم يضرب كل منهما أخاه فيسقطان معاً ويضرجان الأرض بدمائهما. . . وبذلك تتخلص طيبة من كليهما كما تتخلص من نسل لايوس وتتحقق النبوءة كلها.

(للمقالة بقية)

(دريني خشبة)