مجلة الرسالة/العدد 299/بين مصر ولبنان

مجلة الرسالة/العدد 299/بين مصر ولبنان

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1939



إلى الدكتور زكي مبارك

للأستاذ محمد رشدي الخياط

سيدي الدكتور

تستطيع الأمم أن تحتجز كل شئ دون الخروج من أراضيها إلا الثقافة فلا تستطيع قصرها عليها دون غيرها، فهي قسم مشترك بين العالم يدلف إليها كل فرد وتطلع عليها كل أمة، وتؤثر في كل من يصل إليها كما أنها تتأثر بما يصلها، وذلك أمر بَدَهي لا مندوحة لنا من الإقرار به. وثقافة الأمم منها ما تشارك فيه دون أن تكسوه لوناً خاصاً وهو ما يكون علماً خالصاً، ومنها ما تلبسه ثوباً إقليمياً حسب المؤثرات الخاصة التي توجد لديها ويبقى بعد ذلك عالياً في نزعته وأثره. هذا إلى أن ثقافة الأمم لم تكن في يوم من الأيام أثراً خاصاً من آثار أمة دون أخرى، فهي مزاج من ثقافات العالم القديم والحديث ترتكز كل أمة في ثقافتها عليه فلا يحق لنا إذا ما ذكرنا الثقافة اللاتينية مثلاً أن نقصرها على نتاج عقليات هذه الأمم بل يجب أن نقر أثر الأمم الإغريقية والعربية ونتيجة الثقافات الفرعونية والهندية وسائر الأمم القديمة التي حملت الثقافة الأولى في العالم، ونستطيع بعد ذلك أن نزيد عليها أثر الأمم الحاضرة في تغذية هذه الثقافات وتقدمها. والأمة العربية ليست بدعاً من هذه الأمم، فهي إنما تخضع لقوانين العالم، فالثقافة المصرية لم تكن في يوم من الأيام مقصورة في نهضتها على العقول المصرية كما أنها لا يمكن أن تبقى محصورة في دائرتها الخاصة، بل من الواجب الحتم أن تتعداها إلى غيرها من البلدان كي يظهر أثرها في التأثير في العالم، وقيمتها في المساعدة على تقدم الثقافة العربية. ومصر بما لها من الموقع الجغرافي، والبسطة في المال، والكثرة في السكان، تستطيع أن تباهي شقيقاتها الدول العربية في قطعها دونها شوطاً بعيداً في بناء النهضة الأدبية الحديثة؛ ويجب في الوقت نفسه ألا ننكر جهود سائر البلدان العربية على اختلاف هذه الجهود في القوة والضعف، إذ قام كل بلد بما يستطيعه من المشاركة في هذا الأمر. ولا يعزب عن بالنا أثر لبنان خاصة والبلاد السورية عامة في هذه المشاركة الفعالة؛ فنحن نعلم أن طلائع النهضة بدت في سوريا مسايرة لطلائعها في مصر أو متقدمة عليها بعض التقدم. ولئن استطاعت مصر أن تتقدم شقيقاته في هذا المضمار فإن مرجع ذلك إلى أمور لا تتعلق بخصب العقلية المصرية، وضعف غيرها كما يفهم من كلمة الدكتور زكي مبارك في (العدد: 295) من الرسالة. إذ يقول: (ولكني أتحداكم أن تثبتوا أن لبنان نبغ فيه أديب واحد، ولم يكن مصدر نبوغه الاتصال بالثقافة المصرية). ثم يقول في موضع آخر: (إن الأدباء السوريين لم يذوقوا طعم المجد الأدبي إلا بعد أن شربوا من ماء النيل). وإنما يعود ذلك إلى مؤثرات خاصة نستطيع أن نجملها في أربع نقط.

ترجع أولى هذه النقاط إلى ما وهبته مصر من خصب في التربة درّ عليها إخلاف الرزق في سهلها المخضوضر المعشب فتهيأ لها بذلك الأساس الذي تقوم عليه النهضات، وهو المادة التي استطاعت بها أن تبث البعوث في مختلف أشتات أوربا لتعود إليها بالغذاء العقلي؛ والبلاد السورية خاصة والعربية عامة صفر من المادة، فهي في لبنان جبل أجرد ضيق أكثر بقاعه لا يمكن سكانه من استغلاله إلا في أشهر معدودات من الصيف، ثم ينقلب بعد ذلك غطاء أبيض ناصعاً من الثلج يحول دون زرعه أو الاتكال عليه في كفايته حاجات السكان. هذا إلى أن المدن المنتشرة في منبطحة ليس لها من الموارد ما يهيأ لها أسباب الراحة وبلهنية العيش كما هيأتها طبيعة مصر لمصر. وسائر البلاد العربية يتكون أكثرها من صحارى محيطة بأطرافها وسهول ضيقة الأركان تنبت خلالها. كان من أثر هذه البيئة أن ضاق النبوغ العربي ذرعاً بهذه الحياة فكبت في مهده، ولم تتجمع له المادة التي تمكنه من استغلال هذا النبوغ فوجد في بقاع الأرض متسعاً لإظهاره، فاحتمل نفسه إلى مصر وما وراء البحار حيث استطاع أن يثبت هذا النبوغ ويؤكده، فكان أثره في مصر بارزاً في نهضتها وفي غيرها من بلدان العالم وبخاصة في أمريكا مركزاً كل التركيز. ولا يفهم من هذا أن مصر أو غيرها من البلدان هي التي أوجدت هذا النبوغ وإنما يعود ذلك إلى البيئة الأصلية ولم يكن من أثر البيئات الجديدة ألا أن ساعدت البيئة الأصلية على استغلال هذه الثروات العقلية الكامنة في زوايا الفقر والفاقة. ومن هنا لا نستطيع أن نوافق الدكتور فيما ذهب إليه من حملة كنا نرجو ألا تثور به حتى يقعد على مثل الألفاظ التي استقر عليها. ومع ذلك فإن الشعب العربي مع فقره وشدة حاجته إلى المادة استطاع أن يشارك في النهضة العربية بقدر ليس بالقليل، وبخاصة لبنان حيث الثقافة العامة في الشعب أكثر منها في مصر حتى الآن، وكل ما في الأمر أن مصر أنجبت طبقة من المثقفين عالية لا تستطيع أن تجاري الشعب في تفكيره، إذ أن التوازن مفقود بين هذه الطبقة العالية في ثقافتها وبين الشعب الذي لا يزال أكثره أمياً أو ضئيل التعلم. وعكس ذلك لبنان وسائر البلاد العربية، إذ نجد الطبقة المثقفة هناك لم توجد بينها وبين الطبقة العامة مثل الهُوى التي توجد في مصر. هذا السبب المادي الذي آل إلى تخلف بعض البلدان العربية عن مسايرة مصر يتبعه سبب آخر هو قلة السكان في أي قطر من الأقطار بالنسبة لمصر، فأكبر بلد عربي لا يتجاوز سكانه خمسة ملايين، بينا مصر تعد بفضل الله ستة عشر مليوناً أو تزيد، وهذا له أثره في قيمة انتشار الثقافة العامة، إذ لا تستطيع الطبقة المثقفة أن تسير في واجبها بوساطة التأليف ونشر المجلات العلمية والأدبية لقلة عدد المستهلكين حيث لا يجد القائمون عليها وسيلة من وسائل الاستغلال والإفادة، بينا مصر تساعدها كثرة سكانها على نشر مختلف المجلات وطبع متباين المؤلفات، ومع ذلك نستطيع أن نسأل الدكتور نفسه عن عدد الكتب التي طبعها وعدد نسخها وما هي الكمية من هذه الكتب التي استطاعت مصر أن تهضمها بالنسبة إلى الكمية التي أقبلت عليها البلاد العربية؟ أكبر الضن أنا سنرى البون شاسعاً بين ما تناولته مصر من مؤلفات الدكتور وبين ما التهمته العقول العربية ولنا في شهادة أستاذنا الزيات أكبر دليل، فالرسالة أثيرة لدى الشعب العربي حبيبة إليه يقبل لذلك عليها أكثر من إقبال إخواننا المصريين. أليس فهذا دليل على رقي الشعب وكثرة المفكرين فيه؟ ولكن ما الحيلة في أن الله قد ابتلانا بضعف المادة وقلة السكان مع ما سيأتي من الأسباب فحرمنا ذلك من كثير من وسائل الإعلان والدعاية؟

وبعد ذلك يا سيدي يحضرنا السبب الثالث الذي يقوم على السببين الأولين - ضعف المادة وقلة السكان - وهو انعدام وسائل النشر والدعاية أو ضعفها، إذ أن المادة التي يقوم عليها البشر لا تواتي المؤلفين والناشرين على الإكثار منهما لقلة ما بأيديهم منها؛ هذا إلى أن ضآلة الاستهلاك من هذه المطبوعات والمنشورات لقلة عدد السكان قعد بالبلاد عن الإعلان والدعاية اللذين اتخذتهما مصر سبباً من أسباب نهضتها بصحفها ومجلاتها وكثرة مطبوعاتها لاعتمادها على ما لديها من المادة وكثرة الاستهلاك المحلى. فالصحف المصرية مثلاً تستطيع أن تنفق عن سعة لأنها ترتقب انتشارً سريعاً بين السكان وقل مثل ذلك في المجلات. من هنا نرى أصحاب الصحف في مصر قد أثروا من عملهم هذا، وكان في ذلك دعاية أي دعاية لمصر في البلدان العربية، ويتبع ذلك المجلات. وهنا نستطيع أن نميز فيما بينها، فهناك المجلات الأدبية والعلمية وهذه يستهلك منها في خارج مصر أكثر مما يستهلك في مصر، أما المجلات الإخبارية أو الروائية أو المصورة فلها عناية خاصة لدى إخواننا المصريين. ولا أبالغ إذا قلت أن أثر بعض المجلات في الدعاية لمصر كان معكوساً، وبخاصة ونحن في بلد لا يزال يحرص على كثير من تقاليده، فهو لا يقبل أن يرى المرأة كاشفة عن ساقيها معلنة عن نهديها ملوحة بذراعها العاريتين أو نصف العاريتين، هذا إلى ما تحويه بعض هذه المجلات من أخبار نسائية ومشاكل اجتماعية ليس من الخير أن تنشر بمثل هذه الإبانة لما توقره في نفوس بعض القراء من آثار سيئة، وبخاصة أولئكم الشبان الذين لم يتجاوزوا طور المراهقة إذ يقبلون عليها بلهفة وشوق ينتهيان إلى انحراف في الأخلاق أو ميل إلى التهتك دون أن يعرفوا الأثر السيئ الذي سيعود عليهم. ما كنت لأرغب في أن أعرض لهذا الآن ولكن المناسبة قادتني إليه.

من هنا يا سيدي الدكتور نستطيع أن نلم ببعض الأسباب التي دفعت مصر إلى أن تخطو خطوات واسعة في طريق النهضة العربية دون أن تستطيع الوقوف على ما يجري لدى شقيقاتها من هذه النهضة. وأنت أدرى يا سيدي بما تلقاه المؤلفات والنشرات التي تصدر في البلدان العربية من إقبال لدى إخواننا المصريين! لو ذهبت تعدد قراء البلاد العربية للمنشورات المصرية لألفيتهم عدداً جماً، ولكنك هل تستطيع أن تدلني على أناس لا يتجاوزون عدد الأصابع قرءوا أو اقتنوا كتاباً واحداً ألفه أديب غير مصري

ولكن ما العمل وإخواننا المصريون قد تضخم لديهم حب الذات حتى غدوا لا يبصرون في هذا العالم أحداً غيرهم ولا يقبلون في الثقافة العربية على غير مؤلفيهم - مع قلة هذا الإقبال - وأنت تقر معي يا سيدي الدكتور أن هذه ناحية من نواحي الضعف في جمهور القراء من المصريين. وأنتم في مصر مع ذلك تشكون قلة القراء على ما لديكم من كثرة السكان وتوفر المادة فكيف بنا نحن العرب الفقراء في كلتا الناحيتين؟

ونستطيع أخيراً أن نبرز الناحية الرابعة التي دفعت بالبلدان العربية إلى عدم استطاعتها المضي مع مصر في طريق النهضة، وهي ناحية سياسية خاصة تختلف كل الاختلاف عن الناحية السياسية في مصر. وذلك أن مصر قد كفل لها استقلالها بشئونها الداخلية منذ أيام محمد علي باشا حيث تمكن من بعث البعوث والنهوض بمصر في مضمار الثقافة، ثم مضت البلاد في ذلك فيظل خلفائه إلى أن أظلها القرن العشرون فأتت النهضة أكلها. أما البلاد العربية فكانت تحت الحكم التركي المباشر حيث كانت الأمية ضاربة إطنابها في مختلف البلاد، وحيث كنت تبحث عن المثقف بمصباح ديوجين، ومع ذلك كان لبنان في مقدمة العاملين في سبيل النهضة الحديثة تحت لواء آل البستاني وآل اليازحي وآل المعلوف وغيرهم، هذا إلى ما قامت به الإرساليات الأجنبية من جهود لا تنكر، ثم تقلبت الظروف وإذا بنا في معركة حامية الوطيس بين الحلفاء وتركيا، تبع ذلك تمزيق أوصالنا إلى دويلات تحت دول متباينة في ثقافاتها. وكان من أثر هذا الصراع أن اتجهنا في حياتنا وفي تفكيرنا إلى حفظ كياننا السياسي - وهو أمر طبعي - قبل التوغل في العمل في الحقل الثقافي. ورغم هذه الظروف استطعنا أن نقطع في طور الثقافة شوطاً غير قليل

قد يقول قائل إن ما لقيته مصر لا يقل عما لقيته شقيقاتها، وفي هذا ما فيه من المغالاة إذ أننا إذا استثنينا الثورة العرابية والثورة المصرية الأخيرة لا نجد صراعاً مسلحاً أخذ بمجمع القلوب المصرية وشغلها عن كل ما عدا ذلك من شئون الثقافة هذه يا سيدي الدكتور الأسباب التي دعت مصر إلى أن تتقدمنا في طريق النهضة الحديثة، وهو في الوقت نفسه لا يدل على ضعف في عقليتنا أو خصب في غيرها، وإنما يعود إلى عوامل لا بد من مراعاتها قبل الحكم في هذه القضية. أما الإبقاء على تراث الجدود والمحافظة عليه فما من أحد ينكر على مصر قيامها به بل نرى من الواجب العض عليه بالنواجذ

وأخيراً يا سيدي الدكتور أستطيع أن أختم كلمتي حول هذا الموضوع بعتب إخوانك وقرائك عليك لحملتك التي خرجت في بعض مواطنها عن حد الاعتدال. وليتك وقفت من مثل هذه الدعوة التي وصلت إليك موقف الأستاذ (ابن عبد الملك) في تهجينها دون تجريح، وفي إنكارها دون جنف أو ميل لك أو عليك، فتكون بذلك قد تجنبت بعض الآثار التي ليس من الخير إثارتها الآن وأنت تعلم أننا أتوق إلى مطالعة آرائك ومنتوجاتك الأدبية من توقنا إلى مثل هذه المنازعات

(فلسطين) محمد رشدي الخياط