مجلة الرسالة/العدد 305/أعلام الأدب

مجلة الرسالة/العدد 305/أعلام الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 05 - 1939



نساء يوريبيدز

للأستاذ دريني خشبة

أكثر أبطال يوريبيدز وأقواهم وأزخرهم بالحياة الصاخبة والعواطف المضرمة المتضاربة هم من النساء. . . لقد كان ينظر إلى المرأة كما كان إبسن الأسكندنافي ينظر إليها. . . كان يرى أنها محور الحياة وقطب دائرتها؛ وكان يرى إلى الرجل بجانبها كأنه لعبة، فهي لا تفتأ تلهو به وتتخذ منه ميداناً لنشاطها وفريسة لأهوائها، فإذا أرضاها فهو هالك، وإذا أسخطها فهو هالك، وهو هالك إذا لم يرضها أو لم يسخطها، لأنها تقف منه دائماً موقف السبع الجائع الذي لا يعرف إلا السطو والنهش وإهراق الدماء لا حباً في هذا كله، ولكن لأن هذا كله مركب في طبيعته وجزء من جبلته ولعل السبب في هذا ما لقي يوريبيدز من التعاسة في حياته الزوجية، فلقد كان الشك يمزق قلبه من ناحية زوجته الأولى التي اتهمها التاريخ بأنها خانت زوجها، كما يتهم زوجته الثانية بأنها لم تكن أخلص له ولا أوفى من سابقتها. . . والمؤرخون المحققون على أن التهمتين باطلتان، ولو أن فيهما ظلاً من الحق لما أهمله أرستوفان عدو يوريبيدز اللدود ومعاصره ومتسقط أنبائه ومحصي عثراته. . . إلا أن قسوة يوريبيدز على المرأة ونظرته الصارمة إليها وما دأب على تحليل أخلاقها به في أكثر دراماته، كل ذلك دليل على ما كان يتردد في أعماقه من أصداء حياته الزوجية، تلك الأصداء التي كانت تتجاوب في شدة وفي صرامة وعنف في ثنايا دراماته. . . ولعل أقوى هذه الأصداء جلبة وأشدها ضوضاء ما صور به بطلته البربرية ميديا التي شغفها جاسون حبا فلم تبال أن تخون أباها وتذبح أخاها في سبيل الفرار معه؛ ثم لم تبال بعد ذلك أن تذبح ابنيها لكي تشب سعيراً من الألم في نفس حبيبها الذي هو أبوهما لأنه أبغضها لكثرة ما رأى فيها من الميل إلى الأذى والتوسل إلى مآربها بسفك الدماء خصوصاُ بعد إغرائها بنات بلياس بقتل أبيهن. . . وكان عزائها عن كل ما جنت يداها أن تقف على جاسون وهو يسفك روحه دموعاً بل دماً على ولديه فتشفي حَردَ نفسها ودَخل قلبها لأنه لن يبتسم للحياة بعد، ولن ينعم بلذائذها بعد أن تركته وحيداً فريداً لا أنيس له ولا مواسي فيواسيه لقد كان يوريبيدز جباراً في ميديا سنة 431 بقدر ما كان جباراً حتى في أرق دراماته وأروع مآسيه (هيبوّليتيس) التي غزا بها ميدان الحب الباكي الحزين، والتي نال بها أولى جوائزه الرسمية سنة 428 أي بعد ميديا بثلاث سنوات. ومأساة هيبوليت هذه هي تلك المأساة الغرامية الأولى التي خلصت كلها للحب بعد إذ كان المسرح اليوناني لا يعرف هذا اللون من ألوان الدرام. . . فكانت مفاجأةً مربكةً من يوريبيدز وثورة، ولكن من النوع اللذيذ المحبب، على تقاليد البيئة الجافية التي عرفت المسز جراندي قبل أن يعرفها العصر الفكتوري بثلاثة وعشرين قرناً. . . فيدرا زوجة ثيذيوس الملك، تحب ابنه هيبوليت الشاب الجميل اليافع، لأنها هي أيضاً شابة جميلة يافعة، ولأن زوجها رجل شيخ وإن كان بطل أبطال اليونان! هذه هي المأساة!! فكيف يجرؤ يوريبيدز على تناول هذا الموضوع الغرامي الشائك في درامة تعرض على الجمهور الأثيني الذي كانت تسيطر عليه المسز جراندي الرجعية المحافظة الشديدة الحفاظ على آداب السلف الصالح؟ وكيف يكون أجرأ من سقراط الذي كان لا يرى أن تشارك المرأة في الحياة العامة، بل أن تظل نسياً منسياً. بل كيف يكون مقاحماً أكثر من بركليس ممثل العصر، وصاحب نهضته الفكرية، ورمز مدينته؛ وبالرغم من هذا كان يوصي أن تظل الفتاة قابعة في عقر دارها، متجملة بسنن السلف وتقاليده. . . لكن يوريبيدز كان سوُفسطائياً قبل كل شيء، والسوفسطائيون كانوا (صناع الحكمة) كما تدل عليه كلمة التي تعني الحكمة أو أي الفضيلة، والتي اشتق منها اسمهم أي الناس الذين يتناولون البحث في الحكمة. وليس صحيحاً أنهم كانوا ثرثارين كما اتهموا بذلك ظلماً، ولكن الصحيح أنه كان منهم العظماء وغير العظماء، وكان منهم الكبار، وكان منهم الأحداث، وكان منهم الأغنياء وغير الأغنياء، وكان منهم كل صنف من صنوف الشعب؛ لكنهم كانوا جميعاً ينشدون الحق، ويهذبون الناس، وينشرون النور، ولا يبالون في سبيل ذلك مصادرة ولا نفياً ولا تقتيلاً. ويقولون إن يوريبيدز كان يتأثر بسقراط ولو لم يختلط به، وكان تأثره بالفيلسوف العظيم ينعكس في دراماته. كما قيل من أن شاكسبير كان يتأثر ببيكون، وإن يكن ما يقال عن هذين يعدو حدود التأثير إلى حدود النّحل. فالمبالغون من مؤرخي الأدب الإنجليزي يدّعون أن أكثر درامات شاكسبير هي من تأليف بيكون، وإنما نحلها شاكسبير نفسه. . . ونحن ننفي أن يكون يوريبيدز قد تأثر بسقراط في كثير أو قليل من أدبه. بل نرى أن عكس ذلك هو الذي وقع. فقد ذكرنا أن سقراط كان لا يذهب إلى المسرح إلا ليشاهد درامات يوريبيدز، وأنه لم تكن تفوته إحداها قط ولو كلفه ذلك ما ليس يحتمله إلا الأشداء من جهد ومشقة. ثم أين نظرة يوريبيدز إلى المرأة وما كان يجنح إليه في تحليل أخلاقها من عنف وصرامة، من نظر سقراط إليها؟

لقد ألف يويبيدز أكثر من تسعين درامة كانت البطولة في أكثرها للمرأة. وقد ضاع من هذه الدرامات التسعين أكثرها بحيث لم يصلنا إلا تسع عشرة، ومع ذاك فللمرأة البطولة الأولى في معظم هذه الدرامات الباقية. . . ويأتي الرجل في المرتبة الثانية دائما ألاً في عدد قليل منها. . .

لقد كان يوريبيدز يقسو على المرأة في غير هوادة كما قسا عليها في ميديا وكما قسا على فيدرا كما سنرى فيما بعد، فإذا لم يقس عليها عرض لنواحي ضعفها الذي تسميه الأخلاق وفاءً أو حناناً أو حفاظاً وتسمية السيكلوجية ضعفاً أو تلبية لنداء الطبيعة إذا كان هذا الضعف زناً أو مروقاً من ربقة الزوجية.

1 - ففي ميديا تذبح المرأة أخاها وتنثر أشلاءه من أجل لذتها، ثم تغري بنات بلياس بقتل أبيهن من أجل الملك الضائع من زوجها، ثم تذبح ابنيها اشتفاءً - أو تشفياً - من هذا الزوج بعد أن تقتل زوجته الجديدة بالسم حتى تضع حداً لسعادته بعدها.

2 - وفي هيبوليت تعشق الزوجة ابن زوجها، فإذا أبي واستعصم ضاقت بها الأرض وذهبت لتنتحر، ولكنها تخشى أن يدافع عن نفسه عند أبيه فيفضحها فتزور خطاباً تتهم فيه هيبوليت بأنه راودها بل هم بها بالفعل، ثم تشنق نفسها بعد ذاك.

3 - وفي ألستيس (438ق. م) يصور لنا أدميتوس الملك الأناني الذي يعشق الحياة، حتى إذا كان لابد له من الموت تقدمت زوجته لتفديه فيقبل الفداء، وبذا تموت هي عوضاً عنه ويمضي البطل هرقل بعد ذلك ليعود بالزوجة من الدار الآخرة هيدز. فليس وفاؤها هذا وفاء إنما هو ضعف سيكلوجي لأنه حصل من أجل رجل دنئ أثر أناني

4 - وفي هكيوبا (424ق. م) يعرض لك هذه المرأة العظيمة النبيلة زوجة بريام ملك طروادة بعد إذ حل بها ما حل من هوان وأسر ثم سبي، وكيف تلقي كل ذلك بأجمل الصبر حتى إذا اشتد بها الضيق وذهبت لتعرض شكواها على أجاممنون عظيم الإغريق الذي آثر نفسه بابنتها كاسندرا، تلك الفتاة النقية التقية التي احتفظت بعذريتها وتسامت بإنسانيتها حتى غدت نبية الطراوديين فيأتي الملك أجاممنون فيؤثر بها نفسه ويرغمها على أن تكون (حظيته!) إشباعاً لشهواته الوضيعة. . . ومع كل ذاك فإن الأم هكيوبا تصبر لهذه المحن، وتتذرع بكل ما في طوقها من تجلد حتى إذا فاضت الكأس وسيقت ابنتها الشجاعة الصابرة بولكسينا إلى حيث يضحي بها فوق قبر أخيل كما طلب رعاع الجيش ثار ثائر هكيوبا ومسختها الآلام فصيرتها كلبةً من وحوش جهنم الخرافية تتضور وتلهث، فهي تسمل عيني بوليسومور وتذبح ابنيه لتثأر لآلامها.

5 - وفي يون (420ق. م) يعرض لك يوريبيدز مشكلة غرام وزنا بين كريزا بطلة الدرامة وأبوللو إله الشمس والموسيقي فقد أحبها الإله وفسق بها قبل أن تخطب على زوجها إجزوتوس فلما أجاءها المخاض خافت الفضيحة فطمأنها الإله الفاسق وأخذ طفلها يون إلى دلفي حيث خبأته وراء ستائر المذبح في سفط به. شالها وبضعة أشياء أخرى. . . وبعد سبع عشرة سنة عاشها إجزوتوس وكريزا من غير ما ولد تمنى الرجل على أبوللو - في دلفى - أن يرزقه وليا يرثه، فقال له: إن أول من تلقاه حينما تخرج من هنا هو ولدك. . . فلما لقي الرجل الشاب يون احتضنه وفرح به، وعجب الشاب لهذا الرجل الذي يناديه كأنه ابنه؛ ثم تلقاه أمه كريزا فيكون بينهما من التشابه والحنان ما يحير الفتى؛ ثم ترى كريزا السفط فتعرفه وتذكر للفتى أنه سفطها وأنها هي التي أحضرته فيه إلى المعبد فيمتحنها الفتى بسؤالها عن محتويات السفط فتذكرها له جميعاً فيعانقها على أنها أمه، فإذا سألها عن أبيه ألهمها أبوللو الجواب الكاذب فتقول إنها كانت قد اتصلت بأجزوتوس في أحد أعياد دلفي فحملت به. . . وإذ هي تقول ذلك إذا بكاهنة المعبد تبرز فجأة وتقول الحق الصراح عن نشأة الغلام وأنه ابن زنا من أبوللو. . . فتضيق الدنيا بالزوجة وتذهب لتنتحر لولا أن يلقاها أحد العبيد فيشير عليها بأن تقتل الغلام فترضى. . . أما يون فإنه يثور ويجدف تجديفاً مضحكاً ضد أبوللو. . وتنتهي الدرامة بأن تتدخل مينرفا في الأمر فتصلح بين الجميع وتهدأ العاصفة ويرضي الكل بالأمر الواقع!

فانظر كيف سخر يوريبيدز من المرأة وكيف استهزأ بالآلهة وفضح أبوللو ومعشوقته ثم أركس مينرفا رمز الحكمة في بؤرة ذاك الضلال! 6 - وفي النساء الطرواديات (415ق. م) لم ينشئ مؤامرة ما ولم يحبك عقدة درامية ولكنه صور ضعف الأمهات الطرواديات إذ يذهبن إلى المعسكر الإغريقي يسألن القادة الظافرين أن يأمروا لهن بجثث أبنائهن ليدفنها بدل أن تترك بالعراء تنوشها الذئاب وجوارح الطير ومن غير أن تؤدي لها الفرائض الجنازية. وتنتهي الدرامة بأن يتدخل بعض القادة ممن تأثر بدموع الأمهات فيأمر بالأجساد فتحرق ويعطي التراب المتخلف عنها للأمهات. . . درامة ضعيفة إلا أن يوريبيدز قصد فيها إلى شيئين. . . تصوير ضعف أولئك الأمهات وجبروت الظافرين من جهة، ثم ذم الحرب والدعوة إلى السلام من جهة أخرى، لأنه كان أول مبشر بالسلام عرفه التاريخ إذا استثنينا إخناتون المصري وسنعرض لذلك في الفصول التالية إن شاء الله

7 - أما في إلكترا (413ق. م) فيتناول يوريبيدز المأساة المشهورة التي رأينا إسخيلوس يتناولها فيفسر الحوادث، ورأينا سوفوكليس يتناولها فيصور كيف كان ينبغي أن تكون الخاتمة لا كما تم من أمرها. . . لكن يوريبيدز يتناولها على طريقته الخاصة. . . إنه يقصد الناحية السيكلوجية، ولذا فهو لا يبالغ فيصيب أورست بالجنون بعد قتل أمه كما فعل إسخيلوس ولا يبالغ في تحميل العاطفة الإنسانية وإرهاقها بما لا تستطيع من ابتهاج بالقتل وفرح به وحض عليه كما فعل سوفوكليس. . . لا. . . إن يوريبيدز صنع ما صنعه بعده دستوئفسكي الروسي في قصته الجريمة والعقاب باثنين وعشرين قرناً من الزمان. . . إنه جعل أورست يقتل أمه ويده ترتجف بحركة آليه لا إرادة فيها كما قتل روسكلنيكوف اليهودية المرابية العجوز. . . حتى إذا تمت الجريمة عادت إلى نفس الفتى والفتاة مرارة عميقة لا هي من الندم ولا هي مما يشبهه، لكنها مرارة التحسر لكل ما حدث. . . ومرارة التحسر مما اضطرهما إليه سياق الحوادث وتسلسلها

8 - وفي هيلينا (412ق. م) يبني يوريبيدز درامته على أساس فكرة المؤرخ ستاسيخورس الذي يزعم أن هيلين التي تسببت في حرب طروادة لم تذهب قط مع باريس إلى هذه المدينة بل ظلت طوال سني الحرب في مصر تعبث بملكها وتلهو به حينما حاول أن يتزوجها رغماً عنها ويقتل جميع الإغريق الذين ينزلون في أرضه. . . وتنتهي حروب طروادة وتضل سفينة منالوس زوج هيلينا طريقها في البحر حيث ترسو على الشاطئ المصري ويلتقي الزوجان فيعرف أحدهما الآخر ويفران بمساعدة أخت الملك إلى اليونان. ويعيب المؤرخون هذه الدرامة بخروجها مما عودنا يوريبيدز من أدب الواقع إلى أدب الخيال؛ بيد أن في الدرامة من تحليل أخلاق هيلينا، تلك المخلوقة الخلاسية (لأنها ابنة إله وامرأة) اللعوب التي لا تعرف من مبادئ الأخلاق أو الفضيلة عشر معشار ما تؤثر من الحب ومغامرات الهوى؛ في الدرامة من هذا ومن تحليل أخلاق ألكتر ما يغطي ذلك النقص الذي عابه المؤرخون وكم كان ظريفاً من هيلينا أن تعير ألكترا حينما عيرتها هذه بالعهر والالتواء الأخلاقي بأنها غير جميلة، ولو كانت كذلك وواتتها الفرص لما أمتنعت من إتيان أضعاف ما أتته هيلينا؟!

9 - أما إفجينا في أوليس فهي درامة عجيبة لأنها من هذا النوع الشاكسبيري الجميل الذي تمتزج فيه المأساة بالملهاة؛ والدموع الحرار بالضحك الكثير. . ويقال إن يوريبيدز ليس مؤلفها بل تركها غير كاملة فأتمها شاعر آخر قد يكون ابنه الذي أشرنا إليه في كلمتنا الأولى. . . والحقيقة أن في هذه الدرامة من الفن الجديد ما لم يعرفه يوريبيدز وما لم يعرفه المسرح إلا في عصر شاكسبير. . . وإفجينا هي تلك الفتاة ابنة الملك أجاممنون قائد الحملة على طروادة والتي تنبأ الكاهن كالخاس بضرورة ذبحها قرباناً لآلهة الريح ليتحرك الأسطول. . . يزوّر أجاممنون رسالة إلى زوجته كليتمنسترا كي ترسل ابنتها للاحتفال بعقد قرانها على البطل أخيل فتذهب الأم مع ابنتها وتلقي أخيلاً بما يليق في مثل هذه الحال من الترحيب وتناديه بخطيب ابنتها فيدهش أخيل لأنه خالي الذهن من كل ما دبر، وينقلب الموقف إلى التضحيك على أخيل فيثور، ثم يعرف الحقيقة ويأتي عبد فيخبر الملكة أن ابنتها ستذبح قرباناً لآلهة الريح فتحزن الأم وتبكي الفتاة ويقسم أخيل أن يحميها من هذه الفعلة. . . ثم يعلم الجنود أن أخيلاً هو الذي يحول بين سفرهم وبين ذبح القربان فيثورون ويهجم رجال (الميرميدون) عليه يحصبونه حتى ليوشكوا أن يقتلوه. . . وهنا تتقدم الفتاة فتحميه وتهب نفسها ضحية كريمة من أجل أخيل الذي تفضل روحه أرواح عشرة آلاف فتاة مثل إفجنيا ولأنه خرج مغازياً في سبيل هيلاس. . . وتودع الفتاة أمها ثم تخرج بسامة راضية. . . وهنا يدخل رسول فجأة حاملاً بشرى طيبة. . . لقد أنقذت ديانا الفتاة إفجنيا وطارت بها إلى بلاد البربر. . .

10 - أما إفجنيا في توريس (413ق. م) فهي بقية قصة إفجينا؛ وفيها يعرض يوريبيدز لوناً صارماً من ألوان العراك الداخلي الذي يشب في نفس الفتاة بين السخط على قومها الذين أوشكوا يقتلونها لغير ذنب وبغير جريرة، وبين محبتها الطبيعية لوطنها هيلاس فخر الأوطان. لقد ذهبت بها ديانا (أرتميس) إلى ملك التوريين (غير الطورانيين) لتكون كاهنة لمعبدها هناك، وقد أكرم الملك مثواها، وعهد إليها بإعداد الغرباء لتحريقهم بالنار (لأن هذا كان دأب الملك، فكل غريب أو أجنبي يحل بأرضه وخصوصاً إذا كان إغريقياً) أحرقه بالنار. ثم يحدث أن يكون أول غريب يعهد إليها بأعداده للتحريق هو أخوها وشقيقها أورست الذي طارده قومه بعد قتله أمه. . . لقاء هائل بعد سبعة عشر عاماً. . . تتحرك العاطفة، وتترقرق الأحاسيس في الدماء. يعرف كل منهما الآخر فيبكي. . . يا للمشهد المؤثر الذي يرتفع فيه يوريبيدز إلى القمة!!

ثم تطمئن الفتاة أخاها وتدبر له طريق الهرب إلى شاطئ البحر حيث القارب المعد لفرارهما، وحيث البحارة الأمناء!

هذه طائفة من نساء يوريبيدز عرضها في دراماته عرضاً شاقاً يمتزج فيه الشعر بالأخلاق بالسيكلوجية، بطريقة أهاجت عليه البيئة الأثينية عامة، ونسائها خاصة، لأنها بيئة محافظة لم تتعود أن تُشرح أسرار نسائها على المسرح على هذا النحو الذي أنتحاه يوريبيدز فأخجلها وأغراها به.

وكم كان بودنا لو خلصنا لكل من هذه الدرامات بفصل خاص حتى نتفادى تشويهها بهذا العرض السريع لولا ما نتوخاه من عدم الإملال، وما نخشاه من فتور نشاط القراء.

دريني خشبة