مجلة الرسالة/العدد 307/لقاح العقول أو لقاح الأنساب

مجلة الرسالة/العدد 307/لقاح العقول أو لقاح الأنساب

مجلة الرسالة - العدد 307 المؤلف عباس العقاد
لقاح العقول أو لقاح الأنساب
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 05 - 1939


للأستاذ عباس محمود العقاد

أسرته الأصيلة من الفلمنك

وانتقل جد من جدوده إلى النمسا فأقام في الأقاليم البوهيمية واتصل هو وأبناؤه من بعده بخدمة آل هابسبرج

وبنى جده لأبيه بيونانية من جزيرة أقريطش، وبنى أبوه بيابانية من أذكى نساء اليابان

ذلك هو مؤلف الكتاب الذي نحن بصدده، واسمه الكونت (ريتشارد كودينهوف كاليرجي)

أما اسم الكتاب فهو (حكومة الاستبداد حيال الإنسان)

قرأت هذا الكتاب فقرأت عجباً من تآلف الأفكار الغربية، وتقارب الأقطار البعيدة، واختلاط الأساليب التي انغزلت مع الماضي مئات القرون.

هنا شيء من اليابان لا شك فيه، وشيء من اليونان لا شك فيه، وشيء من تعبد الفلمنكيين، وشيء من جماح البوهيميين، وشيء من أدب البلاط، وشيء من مساواة الحرية، ولكنك لا تستطيع أن تفرزها ولا أن تستخرج كل خليط من خيوطها مستقلاً عن سائر شباكها.

وكل ما تستطيعه انك تحس لكل جنس من هذه الأجناس أثراً في مزج الأفكار وصياغة الألفاظ وتنسيق الحلية الكتابية. وقد تجزم الجزم الأكيد أن الياباني وحده لن يصنف الكتاب على هذا الأسلوب، وكذلك اليوناني والبوهيمي والفلمنكي ورجل البلاط وجوَّاب الآفاق، ولكنهم إذا اتصلوا بالأنساب والثقافات كما اتصلوا في ذهن هذا المصنف نتج من تلاقح أذهانهم وثقافتهم مثل هذا الكتاب.

خذ مثلاً هذه الكلمات:

(الإنسان من صنع الله،

والحكومة من صنع الإنسان.

الإنسان غاية وليس بوسيلة،

والحكومة وسيلة وليست بغاية.

قيمة الحكومة هي قيمة ما تؤديه من الخدمة لمن فيها من الخلائق الإنسانية. فكلما خدمت الإنسان وعاونته على التمام والكمال فهي حسنة، وحيثما بدر منها التعطيل لتمامه وكماله فهنالك الشر والسوء

الحكومة ليست شيئاً حياً ولا جسداً حياً ولا عضواً حياً؛ ولكنها آلة أو أداة مجعولة لخدمة الإنسان في صراعه للفوضى والاختلال

الإنسان مخلوق حي، والحكومة أداته للخير أو للشر، وللنفع أو للإضرار إذ ليست الحكومة كائناً إنسانياً ولكنها مع هذا تريد أن تكون أكثر من إنسان

ليست هي إلهاً فهي إذن تصبح صنماً

يصنعها الإنسان وتطلب منه العبادة

وهذه المصنوعة الإنسانية تعدو طورها فتتخذ لنفسها مكان الوساطة بين الله والإنسان!

هذه الآلة المصطنعة تحسب نفسها مخلوقة عضوية حية. . . وهذه الخادمة التابعة تتخايل أمام بني الإنسان في زهو السيادة!

إننا لنعيش اليوم في أخطر عصور الانقلاب التي مرت بها الدنيا؛ لأنه عصر انقلاب الحكومة على نوع بني الإنسان!

إننا لنعيش في أسوأ ما عهدنا من عصور عبادة الأصنام؛ لأنه عصر تأليه الحكومات)

ومثل آخر من خواطر هذا الكتاب النفيس ما جاء منه في مستهل الكلام على الديمقراطية والنظم النيابية حيث يقول:

(الحرية مثل أعلى وغاية منشودة

الديمقراطية مبدأ وقاعدة

النظام البرلماني هو وسيلة أو طريق

والخلط بين هذه المعاني يؤدي إلى تشويش مريج

فإنجلترا حرة ولها نظام برلماني؛ ولكن دستورها يعتمد على الديمقراطية بعض الاعتماد؛ لأن المجلس الأعلى والتقاليد الوراثية ليست من الديمقراطية بلا خلاف

وروسيا وألمانيا وإيطاليا ليست بحرة وإن كان لكل منها دستور قائم على سيادة الأمة وعلى مبدأ الكثرة في ولاية الحكومة كما تقضي أصول الديمقراطية

والولايات المتحدة وسويسرا حرتان وديمقراطيتان ولكنهما على غير الوضع النيابي مذ كانت الحكومة فيهما لا تسقط إلا بانتزاع الثقة البرلمانية منها واليابان لها نظام برلماني ولكنها ليست بالديمقراطية، لأن دستورها لم يؤسس على سلطان الأمة بل على سلطان الإمبراطور. وهو - أي الإمبراطور - يقبل باختياره أن يشرك معه الحكومة البرلمانية

ومن المحتمل جداً أن تتصور حكومة حرة تحترم حقوق الأفراد على أيدي قلة متسامحة، كما تتصور حكومة متعسفة تقيد الحريات جميعاً على أيدي كثرة تدين بعقائد الاستبداد

فالروح الموحية أهم وأقوم من نصوص الدساتير. وحيثما بطل اليقين بالإنسان والاعتداد بحقوق الأفراد لم يكن عجيباً أن يفضي بنا الانتخاب العام إلى الاستبداد؛ لأن المستبد والمشعوذ السياسي ليسا بالنقيضين، ولكنهما قرينان متماثلان)

وكل فصل من فصول الكتاب حافل بهذه الدقائق وهذه القضايا وهذه التعريفات

هنا ولا شك أناقة الياباني في التنسيق وخفة الياباني في الحركة

وهنا ولا شك نفاذ اليوناني إلى بواطن المعاني الفلسفية والحدود المنطقية

وهنا ولا شك جنوح الفلمنكي إلى صبغ الحقائق بصبغة العبادة والأسرار

وهنا ولا شك طلاقة البوهيمي، وكياسة الرجل البلاطي، وثقافة الإنسان الحديث

انك لا تشك في خصلة من هذه الخصال كما لا تشك في اختلاف المنهج والأداء لو كان الكاتب يابانياً أو يونانياً أو فلمنكياً أو بوهيمياً غير مختلط بما عدا سلالته وثقافته من السلالات والثقافات

ولكن أين هذا وأين ذاك؟

أين يبتدئ هذا التفكير وأين ينتهي ذلك التفكير؟

وما وسيلتك إلى منع عنصر من تلك العناصر أن يظهر في منهج الكتاب وأدائه أن كانت بك حاجة إلى إمتاعه؟

وما وسيلتك إلى زيادة عنصر من تلك العناصر أن كانت بك حاجة إلى ازدياده؟

لقد شغلني التوجه إلى هذا المعنى أثناء القراءة حتى خيل إليَّ أنني في معمل من معامل الطبيعة أرقب فيه براعتها في الخلط والمزج والجمع والتفريق

أو خيل إلي أنني أمام مسرح التاريخ الكبير يتناول اللاعب القدير على خشباته نسيج الأحقاب والأعقاب منذ ألوف السنين فيداخل بينها ويواشج بين خيوطها على نمط من السرعة لا تضبطه بعينك في مكان واحد، ولكنك تضبطه كله حين ينتهي إلى النتيجة فإذا هو هناك حيث لا تدري من أين اتصاله ومن أين انفصاله في مجمل النسيج

ورب كلمة من كلمات الكتاب لها اتصال بجزائر اليابان، وكلمة أخرى لها اتصال بشعاب البوهيميين، وكلمة مجاورة لها قد جاءت من أقصى المغرب أو من أقصى الشمال

ان النظر إلى هذا لأمتع من النظر في حقائق الكتاب، وإن كانت حقائقه من المتعة بمكان

ثم يجول في الذهن خاطر آخر هو فضل هذا اللقاح العجيب في تحسين العقول أو في تحسين الطباع.

هل تستفيد (الإنسانية) بامتزاج كهذا الامتزاج يعم جميع الأجناس في المشرق والمغرب، ويعم جميع الثقافات وجميع المذاهب والآراء؟

أو هل هي قيمة واحدة من القيم الكثيرة نحتفظ بها ونحتفظ معها بصفاء الأصول وافتراق السلالات، وما في كل سلالة من مزية ورثتها واستقلت بها بعد تحضير طويل في معمل التاريخ؟

يحضرني في هذا الصدد ما يصنعه مولدو الأزهار من مختلف الأحجام والألوان والأصول

يروقهم أن ينبتوا الوردة السوداء فيستفيد عالم النبات فائدة لا شك فيها إذا أضيف ذلك اللون إلى ألوان الورود

ولكنه يجني على الورد وعلى عالم النبات لا مراء إذا تمادى في تجاريبه حتى يزول الورد الأحمر والورد الأبيض والورد الذي يولد على ألوان مختلفات بغير تخليط وتهجين.

وخير لبني الإنسان أن يتعلموا التآلف وهم مختلفو العناصر متعددو المزايا جامعون بين فضائل العنصر القح والعنصر الهجين من أن يتآلفوا وهم لون واحد فقير المزايا قليل الاختلاف.

على أنني أحمد هذا اللقاح وأتمنى لو يظفر الفكر الإنساني بأنماط شتى من غير هذا القبيل كما ظفرنا بذلك النمط من ذلك القبيل.

عباس محمود العقاد