مجلة الرسالة/العدد 373/الإصلاح. . .!

مجلة الرسالة/العدد 373/الإصلاح. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 08 - 1940


للأستاذ عباس محمود العقاد

كثر في هذه الأيام حديث الريف وإصلاح الريف لكثرة الرائفين من الحضريين الذين رهبوا الغارات في المدن فالتمسوا الأمان في القرى، ثم هربوا من أمان القرية إلى مخاوف المدينة، وهم الرابحون!

ومنذ عام أو قرابة عام سمعنا من يسأل: (أليس الأجدى على الفلاح أن تطعمه وترفه عنه بهذه الأموال التي تنفقها على تعليمه إلزاماً وهو مفتقر إلى الطعام النافع والماء النظيف)؟

وقال لي زميل في مجلس النواب ممن يملكون عشرات الألوف من الأفدنة وقد رأى اهتمام فريق من النواب بنشر التعليم: (ما هذا التعليم الإلزامي الذي تحسبونه خيرا وبركة على الفلاحين؟ إن هؤلاء الفتيان الذين ينتشرون في القرى لتعليم أبنائها لا يعلمونهم إلا الحذلقة وفتنة البطالة. . . وأقسم ما عرفت أنا أن للجورب حمالة إلا من هؤلاء الفارغين المتبطلين الذين يقضون الساعات في التصدي للغاديات الرائحات. . . ثم تنظر إلى أبن الفلاح فلا تراه قد أفاد منهم إلا الشوق إلى اليوم الذي يغدو فيه مثلهم لابس رباط في الرقبة وحمالة في الساق)!

قال لي الفلاح الكبير ذلك وهو يرى أن حمالة الجورب هي رمز الفساد الذي ينقله (هؤلاء الأولاد إلى أهل البلاد)

وأنا لا أقول إن التعليم الإلزامي هو التعليم المنشود للفلاح، ولا أقول إنه هو التعليم الذي يفسده ويشغله من المصالح والصالحات، ولكني أقول إن الإصلاح كله عبث ما لم يبدأ بإصلاح العقول والأذواق، وإن إرادة المصلح وحدها لن تحقق له ما يريده من الخير ما لم تقترن بإرادة المحتاجين إلى الإصلاح

عرض لي ما دعاني إلى البحث الطويل من ماء الشرب في الريف: كم من المساقي المرشحة أقامتها الحكومات المتعاقبة هناك؟ وكم منها أفاد وماذا أفاد؟ وكم من الفلاحين تعود النظافة في العيش بما تعوده من شرب الماء النظيف والاستحمام بالماء النظيف؟

فعلمت المضحكات المبكيات

كان المظنون أن المسقى المرشح لا يقام في القرية حتى يتهافت عليه أهلها وتتسابق القرى من أهل الجيرة القريبة إلى المطالبة بمثله فينتشر في أنحاء القرى قاطبة خلال أشهر معدودات، أو خلال سنوات على الأكثر إذا لم يسعف الماء

كان هذا هو المظنون وكان عجيباً ألا يكون

إلا أن العجيب هو الذي حدث ولم يعجب له أحد، وغير العجيب هو الذي دق عن الأفهام

شاع بين جمهرة من أهل الريف أن الماء النظيف ماء لا خير فيه ولا دسم فيه فهو مضعف للرجال. . .!

أما الماء الذي فيه الخير والدسم فهو الماء العكر الذي يجلب البركة إلى الأرض فتنبت ويجلب البركة إلى أصلاب الرجال فينبتون

وسألت غير واحد من الثقاة فأكدوا لي ما سمعت، وقال لي أحدهم إنه وقف بنفسه على طريق الماء المرشح فرأى الفتيات يتخطينه إلى مساقي الماء العكر وهي بعيدة من دورهن، وسألهن ما عيب هذا الماء النظيف؟ أليس أصلح للشرب وأسوغ في المذاق؟

قال: فتضاحكن وملن بعيونهن وهن يقلن: ولكنه رديء!

قال فسألتهن: وما رداءته؟

فلم يزدن على أن قالت إحداهن: أنا عارفة؟ كلهم يقولون إنه رديء وإنه يهد الحيل

ثم علم بعد الاستيضاح ما هذه الرداءة وما هذا الحيل الذي يهده ذلك الماء المسكين!

أيها المصلح الغيور دونك فأصلح!

ولكن قل لنا بحقك ماذا أنت مصلح في الريف: مضخات الماء أو تلك العقول في رؤوس الرجال والنساء؟!

وأرى أن سوء الفهم آفة يبتلى الفلاح من قبلها بأعظم البلاء، ولكنها دون الآفة الكبرى في الضرر والإيذاء، وهي فيما نعتقد سوء الظن والمبادرة إلى تصديق قالة السوء

يستقرئك الفلاح رسالة فتقرأها له بغير جزاء، ولا يخطر ببالك أن في الأمر ما يدعو إلى إساءة ظن أو تشكك في صواب القراءة

ثم ترقبه فتراه قد حمل الرسالة إلى ثان وثالث يستعيد قراءتها ليوقن أنك لم تخدعه ولم تهزأ به، وأن القراء جميعاً مخلصون لأنهم متفقون

ويسألك الطريق فتهديه، ثم يمضي خطوات فإذا هو قد أستوقف غيرك ليعيد عليه السؤال وهكذا في كل ما يسمع من النصائح ويتلقى من الإرشاد ولو لم يكن ثمة قط سبب للريبة والتردد في التصديق

هذا الظن السيئ حائل دون الثقة بالمصلحين وحائل دون النجاح في الإصلاح. فليس من اليسير أن تدخل في روع فلاح جاهل أن إنساناً من الناس يعّني نفسه ويطيل همه بإسداء الخير إلى إنسان آخر، ولكنه يسير كل اليسر أن تقنعه بنية السوء واتهام المقاصد والسهر على الكيد والخديعة

فإذا قيل مثلاً إن الماء النظيف يضعف الرجال، وقيل بعد ذلك إن إضعاف الرجال مقصود في سياسة من السياسات الخفية التي يدبرها بعض الأجانب، فقد ضمنت للإشاعة سرعة السريان وسرعة الإصغاء والقبول. وإذا حاولت بعد ذلك أن تنفي هذا الهراء فها هنا الصعوبة جد الصعوبة في استرعاء الآذان والأذهان، مع الكائدين بأجر معلوم. . . وإلا فما يفيدك؟ وماذا يعود عليك؟ ولماذا تشغل بالك بتبرئة أولئك الكائدين الذين لا شك في أنهم كائدون؟ أليس للناس عقول؟ أليس التواطؤ بادياً لكل ذي عينين؟. . . بلى. . وما من حاجة بعد هذا الوضوح إلى دليل! ومن النقائض الظاهرة أن هذا الفلاح الذي يستريب هذا الريب بالمصلحين يقع فريسة هينة سهلة المقاد لكل دجال أو مشعوذ يدعي له من الدعاوى ما يوجب الاتهام ويثير الشكوك

لماذا؟

أفي الأمر تناقض بين ذلك الحذر وهذا الاستسلام؟

كلا. . . لا تناقض إلا في الظاهر دون الحقيقة، لأن الحرص هو العلة الغالبة في كلتا الحالتين

فالحرص الذي يشكك الفلاح الجاهل في المصلحين هو الحرص الذي يخيل إليه أن الدجال قادر على تعويذه وتعويذ أبنائه وماشيته وغلاته بالرقى والعزائم والطلاسم والدعوات

والحرص الذي يوحي إليه أن أحداً من الناس لا يعّني نفسه ولا يطيل همه من أجل أحد آخر لا قرابة بينهما ولا مودة، هو هو الحرص الذي يوحي إليه أن الدراويش ومصطنعي التقوى يفعلون الخير لأنهم باعوا الدنيا واشتروا الآخرة، وهي تجارة غير خاسرة ولا بائرة، وكثيرا ما يتفق أن (المتدروش) من هؤلاء يظهر له الزهد في ماله وما عسى أن يكافئه به من زاد أو مؤنةً، ثم يتسلل إلى جيبه أو خزانته من سراديب الغش والملق والمراوغة بعد الظفر بطمأنينته والنفاذ إلى مكامن سره ومواطن ضعفه وجشعه

فالآفتان الكبريان الرابضتان في طريق الإصلاح هما سوء الظن وسوء الفهم، وكلاهما حجاب حائل بين الناصحين والمنصوحين

وليس العائق كله من جانب القادرين على النفع فإن العاجزين عن الانتفاع يقيمون في وجه الإصلاح عائقا لا يجدي فيه الإقناع ولا الإرغام؛ وماذا يصنع القادرون على النفع بمن لا يريدون نفعاً أو بمن يريدونه ولكنهم يخطئون السبيل إليه، ويصرون على الخطأ ولا يستمعون إلى من يعالج هذا الإصرار بالبيان والبرهان، بل يسرعون إلى اتهامه هو في أكثر الأحيان؟

وما نبغي بهذا أن نيأس أو أن ننفض الأيدي من هذا الواجب الذي لا يعفينا منه عذر ولا تعلة. فالإصلاح فرض لا يرفعه عن الكواهل أنه عسير، بل لعل هذا العسر مما يوجبه ويستحث العزائم على النهوض بتكاليفه وأوقاره

ولكننا نبغي الدلالة إلى مواضع الصعوبة ومواضع التقصير، ونعتقد أن المزيد من التفاهم والتقريب بين الحضريين والريفيين، والمزيد من المثابرة عل إزجاء الأمثلة المحسوسة والبينات المقنعة، والمزيد من الدقة في اختيار الوعاظ والمرشدين، والمزيد من التعليم والتهذيب - خليق كله أن يروض ما جمع ويذلل ما استعصى من العيوب والآفات، ويغرينا بالرجاء أننا صنعنا شيئا بما بذلنا من الجهود ولم نضيعها كلها سدى كما يلوح لبعض المتشائمين

وأصاب صديقنا الأستاذ صاحب الرسالة حين قال: (إن هذا الفلاح لا يصلحه تنظيم قريته ولا تجميل داره. إنما يصلحه تربية ذوقه وإرهاف حسه)

نعم، فأنت إذا أنشأت فلاحاً سليم الذوق مرهف الحس مفتوح العقل مستجيب السليقة، فسيجري ورائك لتعطيه الماء النظيف والغذاء الجيد والأدوية النافعة والنصائح القويمة، ولا يجشمك كما يجشمك اليوم أن تعدو وراءه لتقصيه عن موارد الماء العكر (بدسمه وخيره) وتدنيه من مساقي الماء المرشح وموائد الغذاء المفيد

عباس محمود العقاد