مجلة الرسالة/العدد 413/الطابور الخامس الألماني

مجلة الرسالة/العدد 413/الطابور الخامس الألماني

مجلة الرسالة - العدد 413
الطابور الخامس الألماني
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 06 - 1941



الطابور الخامس! لفظتان تنطويان على كل معاني الإرهاب والقسوة والفظاظة والغدر والخيانة، وتعيد إلى الأذهان تلك المآسي التي كان يمثلها ديوان التفتيش في القرون المتوسطة.

الطابور الخامس هو الخطر العصري الذي يهدد المدنية الحاضرة والأمم الديمقراطية والشرائع الحرة التي كتبت بدماء الألوف من أحرار البشر، بل هي عصابة هائلة تبثها الحكومة النازية في كل أنحاء العالم لتلقي الفساد وتذرع الفتن، وتنخر كيان الأمم بأساليب شريرة لم يعهدها العالم المتمدن؛ فالنازية والطابور الخامس اسمان مترادفان لمسمى واحد.

كان هدف هتلر في أول أمره أن يستولي على الحكم في ألمانيا ويعدم كل الأحزاب السياسية الألمانية (وكان عددها يومئذ 36 حزباً) التي لا تعتنق المبادئ النازية. وكانت النازية قبل أن يسيطر هتلر على ألمانيا حزباً سياسياً عادياً اعتمدت لبلوغ مأربها خطتين: القوة والدعاية، فطفقت تنفيذاً للخطة الأولى تتسلح سراً وتعدُّ عُدتها لليوم المنتظر، وأنشأت تنفيذاً للخطة الأولى (معهداً) كبيراً للدعاية والتمويه والتضليل، ثم لتخريج طلاب الغدر والخيانة والفتك، وهم المعروفون اليوم بأعضاء الطابور الخامس.

قسم هتلر بعد ما استتب له الأمر أنصاره ورجال حزيه إلى فئات ثلاث: الأولى مؤلفة من أنصاره وأصدقائه الخلص الذين يعرفون أفكاره وغاياته الخفية، وهم: هيس، جورينج، جوبلز، هملر، ستريشر، بُهل، فون ريبنتروب، داره، روزنبرج. والثانية مؤلفة من أشخاص لا يعرفون إلا شيئاً من أفكاره وخططه، ولكنهم مرشحون للانضمام إلى الفئة الأولى. والثالثة مؤلفة من رجال مصلحة التقصي الألمانية، ومن عصابة (الجستابو) التي يديرها (هملر). وليس في الفئات الثلاث إلا عدد ضئيل من ذوي المراتب العالية في الجيش.

ولكل من هذه الفئات مهمة خاصة؛ فمهمة الفئة الأولى إنشاء مذهب جنسي أساسه تفوق الجنس الجرماني الآري على سائر الأجناس البشرية لنبل أصله وشرف محتده، وتأليف ألمانيا الكبيرة التي يجب أن تسود العالم. ومهمة الفئة الثانية تنفيذ خطط الأولى في ألمانيا وخارجها بالدعاية والجاسوسية وغيرهما من الأساليب التي يكل عنها الوصف، كأن توهم أحياناً أنها ناقمة على النازية لكي تقف على الرأي العام فيها وتعرف البيئات الت تناهضها. ومهمة الفئة الثالثة الاستكشاف وتمهيد السبيل للفئة الثانية، فهي أشبه شيء بفرق الكشافة في الجيش

أما الجستابو فهي العصابة السرية الهائلة التي يديرها (انريك هملر) وتضم ستين ألف رجل وعشرة آلاف امرأة في ألمانيا، وخمسة آلاف رجل وأربعة آلاف امرأة في البلدان الأجنبية. وفي الجستابو دائرة خاصة مهمتها تزوير الوثائق والجوازات والمراسلات الدولية والأوراق المالية الأجنبية وغيرها. ومن الوثائق المزورة تلك التي أعلنها فون ريبنتروب واتخذها حجة لكي يبرئ اجتياح دولته للبلدان الصغيرة، وما هي في الحقيقة إلا وثائق مزورة مصنوعة في تلك الدائرة.

مكتب ريبنتروب

هو دائرة مستقلة تعمل تحت إشراف فون ريبنتروب أولاً وهتلر ثانياً. تجمع كل المعلومات غير الحربية عن البلدان الأجنبية ورؤسائها وساستها وأصحاب النفوذ فيها، وتُعنى بمعتقدات تلك البلدان الدينية وأحزابها وطرق معيشتها حتى بمسائلها العائلية. ومن هذه المعلومات تستقى مصلحة التقصي الألمانية وتستهدى بها. وعمال مكتب ريبنتروب هم في معظمهم من الأشخاص الذين تقلبوا في المناصب العالية وشغلوا مراكز سياسية هامة في السفارات ونحوها، وبينهم عدد من النساء اللواتي يعملن أيضاً في دائرة الجستابو.

وزارة الدعاية

يرأس هذه الوزارة الدكتور (جوزف جوبلز) ومن مهامها التسلط على الرأي العام الألماني، وحمل الدول على اقتباس المبادئ النازية وإخضاعها لنفوذ ألمانيا الاقتصادي. وفي هذه الوزارة الدوائر الآتية: الدعاية الداخلية، الدعاية الخارجية، الراديو، الصحافة، السينما، المسرح، الآداب والفنون. وفيها قوائم بأسماء كل المؤسسات في العالم، وقد قسمت إلى مراتب وعرفت بالأوصاف الآتية: (حلفاء)، (ميالون)، (قابلون للاستمالة)، (أعداء). وقائمة الأعداء ترسل رأساً إلى دائرة الجستابو.

مدرسة الطابور الخامس

في سنة 1908 أنشأت في ألمانيا مؤسسة غايتها بث الروح الألمانية في أبناء الألمان المولودين في البلدان الأجنبية لكي يحافظوا على جرمانيتهم. وفي سنة 1921 استعانت الحكومة الألمانية بهذه المؤسسة لكي تجدد عزيمة رعاياها، وقد وهنت بعد نكبة ألمانيا في الحرب الماضية، وتثير في الأحياء منهم خارج وطنهم العصبية الجرمانية، وتحول دون إدغامهم في البيئات الأجنبية. ولما قبض النازيون على زمام الحكم في ألمانيا وجدوا في سجل هذه المؤسسة أن , 803 , 000 ألماني يعيشون خارج الحدود الألمانية، منهم 75 في المائة تربطهم العاطفة العصبية ارتباطاً متيناً بأمهم ألمانيا، والفضل في ذلك عائد إلى مساعي المؤسسة المذكورة التي تعرف اليوم باسم الطابور الخامس الألماني.

وينتخب أعضاء الطابور الخامس من رجال ونساء ذوي جدارة وثقافة ودهاء وحيلة، وكثيرون منهم يحسنون كتابة وتكلماً عدة لغات أجنبية، ومنهم سياسيون ومهندسون وكيميائيون وعسكريون واختصاصيون بفروع العلم. وتختلف مهامهم وطرق أعمالهم باختلاف البلدان التي يوفدون إليها. أما الهدف فواحد، وهو خدمة المصلحة الألمانية بأي الوسائل، لأن الغاية في شريعتهم تبرر الواسطة. وكانت دعايتهم في البلدان الأجنبية قبل الحرب تضرب خاصة على وترين: خطر الشيوعية ومكافحتها، ومصادرة اليهود المرابين الدساسين؛ فاستهووا بالدعاية الأولى كل خصوم الشيوعية ومقبحي مبادئها، واستمالوا بالثانية كل العمال الذين يرون في اليهود صورة الرأسمالية عدوتهم الكبرى.

ونشط في هذه الحرب رجال الطابور الخامس المنبثون في كل العالم، وعلى الأخص في البلدان الديمقراطية، فقاموا بمهامهم الشاقة، غير عابئين بالأخطار التي تهددهم في كل لحظة، فكانوا من العوامل الأولية التي مكنت الألمان من اكتساح عدة بلدان بتلك السهول الغريبة؛ وقد تحقق العالم اليوم أن أولئك الألمان الذين (نفتهم) الحكومة النازية لنقمتهم على الوضع النازي، أو لكونهم يهوداً، أو لتزوجهم يهوديات، ما كانوا في الحقيقة إلا من أعضاء الطابور الخامس، وقد خرجوا من ألمانيا بجوازات مزورة مصنوعة في دائرة التزوير بالجستابو. وقد حصنتهم الدول الديمقراطية وعطفت عليهم حتى كشف لها الواقع أنها ما حصنت إلا ثعابين قتالة كانت تنفث السم في جسمها وهي غافلة عنها بعامل الشفقة والإحسان.

وكان أولئك (المضطهدون) يتسربون في كل مكان ومجتمع ويخالطون الجماعات الناقمة على النازية، لكي يطلعوا على أفكارها وحركاتها ونياتها، ويرسلون بها تقارير إلى الحكومة النازية (مضطهدتهم).

أما مهام الطابور الخامس العام فتنقسم إلى أربعة أهداف: الأول دعاية سياسية وثقافية. الثاني تمرين عسكري. الثالث تجسس اقتصادي. الرابع تجسس صناعي، كحمل العمال في البلدان الأجنبية على الإضراب أو تدمير المصانع. والدعاية الفكرية يقوم مبدأها على إظهار تفوق الجنس الآري، وهذا مثال منها نشر في الولايات المتحدة: (إن الولايات المتحدة ما بلغت درجتها الحاضرة من الثقافة والعمران لولا امتزاج العنصر الجرماني في مستوطنيها الأولين). فالطابور الخامس إن هو إلا شكل جديد للجاسوسية، ولكنها تفوق كل أنواع الجاسوسية المعروفة بجرائمها الهائلة وغدرها الشنيع وأساليبها الفظيعة.

إن أمضى سلاح استخدمته ألمانيا لاكتساح نروج هو الطابور الخامس، وقد ذكرت الكاتبة النروجية الشهيرة (سيجريداوندست) في ما روته عن مأساة وطنها ما يأتي:

(كان علينا ألا نتكل على حيادنا وأن نتسلح استعداداً للطوارئ. إننا قلما اكترثنا للطابور الخامس الألماني، فجر علينا إهمالنا محنتنا الحاضرة، إذ في ظلال السنوات الأخيرة كان كثيرون من شبان الألمان يأتوننا زائرين ويتوغلون في بلادنا دارسين طبيعة أرضنا، راسمين مواقعها الحربية وطرقها ومعابرها وكل ما يهمهم منها. وعلى الجملة كانوا يعرفون نروج أكثر من سكانها الأصليين).

وفي رأي النازيين أنهم ذوو حق شرعي في كل بلاد يقيمون فيها. يدل على ذلك ما وجد في ولايات البرازيل الجنوبية، وفي شمال الأرجنتين من الألواح التي تحمل الكلمات التالية: (هذه الأرض جزء من ألمانيا)

(العصبة)