مجلة الرسالة/العدد 466/الدكتور طه حسين يتحدث عن:

مجلة الرسالة/العدد 466/الدكتور طه حسين يتحدث عن:

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 06 - 1942


الحب الضَائع

للدكتور زكي مبارك

حين تلطّف صاحب العزة الدكتور طه بك حسين فأهدى إليّ نسخة من (دعاة الكروان) لم يفته أن يقول إنه سيعدي إليّ بعد أسابيع نسخة من (الحب الضائع)

وقد التفت ذهني إلى مدلول هذا القول، فمن عادة الدكتور طه أن يتظاهر بالتواضع، وأن يعلن أنه لا يعني ما يقول، وأن الناس لا يقبلون على مؤلفاته إلا متفضلين، فكيف حرص هذه المرة على التبشير بكتابه الجديد؟

وزرته بعد ذلك في مكتبة بوزارة المعارف لشأن من الشؤون التعليمية فأدركت من سياق كلامه أنه سيرسل إليّ كتابه الجديد يوم الخميس، فما هذا الكتاب الذي يحدثني عنه الدكتور طه مرتين قبل أن يظهر في أسواق الورّاقين؟

ثم جدّت شواغل صرفته وصرفتني عن التلافي نحو أسبوعين، فلم يُهد إليّ كتاب (الحب الضائع) إلا يوم أهديت إليه كتاب (ملامح المجتمع العراقي)، والجروحُ قِصاص!

كان من همي أن أعرف ماهيّة الكتاب الذي بشرني به الدكتور طه مرتين قبل أن يظهر في الأسواق، فكانت النتيجة أن أقرأ منه خمسين صفحة في الطريق، وأن أستأنف قراءته في العصرية لأفرغ منه قبل أن ينتصف الليل

فما جزاء المؤلف الذي يفرض علينا أن نقرأ نحو 224 صفحة في يوم واحد؟

جزاؤه أن نسوق له الحمد والثناء بغير حساب، فما تسمح الظروف بأن نجد في كل يوم كتاباً يجذبنا إليه بهذا السحر الغريب.

وما (الحب الضائع)؟

هو كتابٌ يصوّر العواطف الطبيعية في الريف الفرنسي لعهد الحرب الماضية. والكتاب ليس بجديد، لا في الروح ولا في الأسلوب، فله أمثال تعدّ بالعشرات أو بالمئات، ومع هذا فلن يقول الفرنسيون حين يُترجَم إلى لغتهم (هذه بضاعتنا رُدّت إلينا) لأن طه حسين حين يقتبس لا يفوته أن يضفي ثوب الابتكار على الاقتباس.

والمهمّ هو تنبيه القراء إلى قيمة هذا الكتاب، فمن المؤكد أن فيهم من تغيب عنه مرام على وجهها الصحيح، وقد يكون فيهم من يتصور أنه كتابٌ في الحب، والحبُّ عند الغافلين عبثُ ومزاح!

هو كتابٌ في الحب، على نحو ما يتصور أديبنا العظيم طه حسين، والحبُّ عند من يكون في مثل حالته العقلية آصرةٌ معقّدة إلى أبعد الحدود، فهي تمسّ الآباء والأمهات قبل أن تمسّ البنين والبنات، وهي تقلقل المجتمع قلقة لا يعرف مداها غير المشغوفين بدراية أهواء العقول وأحلام القلوب

والمؤلف يُجري الحديث على لسان فتاة تؤرّخ حياتها من مساء إلى مساء، بعبارات فطرية قليلة التنميق والتهويل، وهو في أثناء ذلك يُنطق الفتاة بأقوال تفصّل من العُقد النفسية أشياء وأشياء

والمتأمل يرى في الكتاب دقائق يمسها المؤلف برفق، لأنه لا يريد أن يجعل فتاته كثيرة الأستقصاء، وإن زعمت لنفسها نية الاستقصاء، وهذه إحدى النواحي الطريفة في هذا الكتاب الطريف.

فالآنسة مادلين لم تلتفت إلى دفتر اليوميات إلا بعد عصرية قضتها مع صواحب ألِفن كتابة اليوميات، ومن هذا نعرف أن المؤلف يريد النص على أن النساء ينقلن عن النساء أكثر مما ينقلن عن الرجال

ثم نمضي مع صاحبة اليوميات فنعرف أنها تعيش بين أهل جعلت فواجعُ الحرب أيامهم بؤساً في بؤس، ومع هذا يحتال المؤلف فينطق الفتاة بكلمات نعرف منها أن للشباب أحلاماً تُنسي أصحابها فواجع الحرب، فقد رأينا مادلين تداعب خيال العيش المقبل من وقت إلى وقت، برغم ما يعاني أهِلها من متاعب وكروب

وكلام المؤلف في تصوير عواطف الأبوّة والأمومة عند الفرنسيين غاية في الصدق، وهو يسوق كلامه على قلم الفتاة بأسلوب حزين، يلائم الحياة في ذلك البيت الحزين.

والواقع أن (عاطفة السَّكن) قوية عند الدكتور طه إلى أبعد الحدود. والسكن هو الكلمة العربية التي تماثل الـ في اللغة الفرنسية، فهو حين يدور حول هذا المعنى يفصِّله أجمل تفصيل، وبلا تكلف ولا افتعال

ولم يكن يدٌّ من الحديث عن الوطنية الفرنسية لعهد الحرب الماضية، فهل ينشئ المؤلف خطبة على لسان تلك الفتاة؟

يكفي أن يشير إلى أن تلك الأسرة ظهرت فيها ظاهرة من جنون، وهي تطوُّع الأخ الأصغر للخدمة العسكرية قبل أن يبلغ سن الحرب، فقد كان يقول:

(صُرع أحد أخويَّ وجُرِح الآخر، وما ينبغي أن تخلو ميادين الحرب من أحدنا). وهي عبارة في غاية من القوة، وقد ساقها المؤلف في بساطة توهم أنه لا يعني ما تنطوي عليه من مقاصد وأغراض.

وهنالك نظرية أخلاقية تعرض لها المؤلف في عدة مواقف، وهي النظرية الخاصة بمواجهة الحياة، ومن رأى المؤلف أنه لابدَّ للأحياء من أن يعيشوا، وأن اجترار الأحزان مرض يجب دفعه بلا إمهال

ولا يفوت المؤلف أن ينص على ما يقع من المضارّة بين الأخ والأخت، ولا يفوته أن يجسِّم النفاق الذي يقع في البيوت عند تبادل الاستغفال بين الجيل القديم والجيل الجديد

وأقول مرة ثانية إني أريد تنبيه القراء إلى قيمة هذا الكتاب لأنه كُتِب بطريقة يغلب عليها الرمز والإيماء، وإن كان غاية في الصراحة والوضوح، عند من يساير المؤلف في أشواطه الطوال

وهل فيمن قرءوا هذا الكتاب من تنبَّه إلى نظرية دقيقة ساقها المؤلف في أسطر معدودات بالصفحة الثامنة والستين؟

في تلك الأسطر يشير المؤلف إلى أن الحيوان المتوحش يحتلّ صدر الإنسان المتحضر، ولم يفته إلا النص على أن الحضارة سلاح جديد يزيد التوحش ضراوة إلى ضراوة واستذآباً إلى استذآب

وهنالك صفحة عجيبة غريبة تذكِّر بأدب أبي حيّان التوحيدي في تشريح العواطف، وهي الصفحة الخاصة بالشوائب التي تفسد الوداد، ومن تلك الصفحة تعرف كيف جاز أن يتعرض الدكتور طه لتقلبات في المودَّات والصداقات يستفظعها منْ لا يعرف ما فُطِر عليه من توهج الإحساس

تلك الصفحة تفسر ما يقع فيه الدكتور طه من وقت إلى وقت، فهو يقطع ما بينه وبين أصدقاء لا يجود بأمثالهم الزمان، وهو قد يصل أقواماً لا يمتُّون إلى روحه بسبب قريب أو بعيد، ولعله أكثر الناس ابتلاءً بالمخادعين والمرائين، لأنهم أحرص على مراعاة الظواهر من المصافين والموافين، والكاذب يسبق الصادق إلى امتلاك القلوب الخواضع لخوادع الوداد

وتلك الصفحة غاية في القوة من الوجهة الأخلاقية، فالجهل يصدنا عن مراعاة الواجب في معاملة الأصدقاء، فتنوهمهم يقبلون منا كل شيء، ويغفرون لنا جميع الذنوب، ولو عقلنا لأدركنا أن الصديق ينتظر أن يسمع منا ما يحب في كل وقت، ويرجو أن نرى سيئاته أشرف من الحسنات، وأن نعدَّه أعظم مخلوق جادت به على الأرض السماء

ومن يُسمع الصديق كلمة اللطف إذا بخلنا بها عليه؟

وما حاجة الصديق إلينا إذا صارحناه بعيوبه كما نصارح الأعداء؟

آفة الصداقة أن نعاملها كما نعامل العداوة، باسم الحرص على الشجاعة الأدبية، مع أن للصداقة حقوقاً أيسرها التغاضي عن هفوات الصديق

ونحن في الغالب نلاطف الأعداء ليصيروا أصدقاء، ونتناسى حقوق الأصدقاء، لأن ودهم مضمون، ثم تكون النتيجة أن يعدّنا الأعداء من أهل الرياء، وأن يعدنا الأصدقاء من أهل العقوق

والدكتور طه لا يلتفت إلى ما يفسد الصداقة عن عمد وإصرار، لأنه أوضح من أن يحتاج إلى التفات، وإنما يلتفت إلى الشوائب التي تصدر عن نبرات الصوت، وحركات الجسم، ولحظات الطرف، وهي (أشياء يسيرة تحسُّ وتُلحظ، ولكنها لا تكاد تثبُت للتصوير والتعبير. هي أيسر من ذلك وأدق. هي تنفذ من أعماق النفوس إلى أعماق النفوس، لا تكاد تمر على الألسنة، ولا تكاد تستقر في العقول، ولا في مظاهر الحس والشعور، وهي من أجل ذلك مؤذية مهلكة شديدة الخطر على الحب والود، وعلى ما بين الناس من صلات، هي أشبه بهذه الجراثيم التي كانت تفتك بحياة الناس وتذيع فيهم ألوان الوباء والموت دون أن يحس لها الناس وجوداً، أو يستطيعوا منها احتياطاً. ولكن العلم قد كشف هذه الجراثيم، وأخذ يعلّم الناس كيف يعرفونها وكيف يدرسونها وكيف يتقونها. . . فمتى يستكشف العلم هذه الجراثيم المعنوية التي تفسد الود وتفتك بالحب وتقطع أمتن ما يكون بين الناس من صلات؟) وهذا كلامٌ نفيس جداًّ، وهو غرة هذا الكتاب النفيس

ثم تكون المشكلة الأساسية، وهي زعزعة الحب في قلوب الأزواج، وفي هذه المشكلة يتحدث الدكتور على لسان مادلين حديث الخبير بدقائق هذه الشئون، فيرينا أن عاطفة الحب تحتاج إلى رعاية موصولة، وأن المرأة قد تفقد قلب زوجها حين تُشغل عنه بشاغل شريف مثل تربيب الأبناء

وأقول: إن لهذه المشكلة جوانب مختلفة، فالذرية قد تقوّي الحب بين الزوجين، وربما جاز القول بأنها تخلِّد ذلك الحب، ولكن على شرط أن يَسلم الزوج من الفتن الخارجية، وهي فتن لم ينج منها زوج مادلين

والحق كل الحق أن المرأة لا تُشغل عن زوجها بشيء، وهي لا تحب أطفالها إلا لأنهم مظهر الصلة بالزوج، فإذا استطاعوا أن يصدوها عنه بسببٍ قريب أو بعيد، فهم لها أعداء

أما بعد، فلقصة (الحب الضائع) ذيول يضيق عنها هذا الحديث، وسيلّم بها القارئ في أناة وهدوء، فيدرك مقاصدها الصحاح، ومن المؤكد أنه سيعترف بقيمة هذه القصة من الناحية الأساسية، وهي تجسيم العُقد النفسية، وقد تكون هذه القصة فاتحة لفن جديد في أدب الدكتور طه حسين

فإن لم يكن بدٌّ من توجيه بعض المؤاخذات إلى المؤلف، فأنا أوجه إليه مؤاخذتين اثنتين: الأولى لفظية والثانية معنوية:

أما المؤاخذة الأولى، فأمرها هيّن، وهي الخطأ في بعض الأفعال، والتكلف في بعض التعابير؛ فهو قد استعمل الفعل (آويت إلى. . .) مرات كثيرة بهذه الصورة، وذلك يشهد بأنه ليس غلطة مطبعية، وإنما هو خطأ وقع فيه المؤلف؛ والصواب (أويت)، لأنه مجرد لا مزيد. . . وهو قد أكثر من عبارة (هاأنا هذه)، وهي عبارة ثقيلة لا تستحق غير الموت

أما المؤاخذة الثانية، فهي خطيرة، ولكن كيف؟

قصة (الحب الضائع) تسير في الطريق الذي يسميه الفرنسيون فهي قصة تشرح نظرية أو نظريات، والمؤلف نفسه حدثنا أن راوية الحديث ديكارتية العقل، فهل كان الأمر كذلك؟

الدكتور طه هو المنشئ الأول، فهو المسئول عن خطأ مادلين في التشريح والتعليل، ومادلين تنظر إلى المشكلات من جانب واحد، مع أن لكل مشكلة جوانب قد يجيب بأنه يسوق الحديث على لسان امرأة، والمرأة ترتكز عواطفها في ناحية واحدة، فلا ترى ما عداها من النواحي، ولو بلغت الغاية في التدقيق والاستقصاء

إن أجاب بهذا فسنقول: إنه أضاع فرصة النص على أن مادلين ضلّت سواء السبيل وهي تشرح ما تعرّضت له القصة من علل وأسباب، وكان هذا النص سهلاً على المؤلف لو التفت إليه، فهل يلتفت حين ينشئ قصة ثانية على هذا النحو من الإنشاء؟

بقيت ملاحظة أخيرة، وهي ملاحظة أراها على جانب من الأهمية، وإن تمثلت في صورة جنسية، ولا حياء في الأدب ولا في الدين:

في (دعاء الكروان) جرى الحديث على لسان امرأة، وفي (الحب الضائع) جرى الحديث على لسان امرأة، فما هذا البِدع في حياة رجل من أكابر الرجال؟

وهل يمضي الدكتور طه في إيثار هذا الوضع المقلوب؟

الرأي عندي أن يسير على السُّنة الطبيعية، فيشرح في أقاصيصه أهواء الرجال، ومتاعب الرجال، وأن يترك أهواء النساء ومتاعب النساء لإحدى بنات حواء

ثم أما بعد، فقد شغلت نفسي بالدكتور طه وكتابه سهرتين كاملتين، فمن حقي عليه أن يراعى ما نبهته إليه، وله مني خالص التحية وصادق الثناء

زكي مبارك