مجلة الرسالة/العدد 500/الحضارات القديمة في القرآن الكريم

مجلة الرسالة/العدد 500/الحضارات القديمة في القرآن الكريم

مجلة الرسالة - العدد 500
الحضارات القديمة في القرآن الكريم
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 02 - 1943



للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 3 -

الحضارة الكلدانية

الكلدان من الشعوب السامية القديمة، وقد قامت لهم دول بالعراق، وكان لهم فيه حضارة تضارع الحضارة المصرية في القدم. ولكنها سارت في طريق معوج أضعف من شأنها، وجعلها أقل نتاجاً من غيرها من الحضارات القديمة؛ وقد نشأ هذا من أنهم كانوا يتجهون بعقولهم نحو الكواكب والنجوم، فاتخذوها آلهة يعبدونها، ويهتمون بمعرفة ما يتصل بها، حتى جرهم هذا إلى الاشتغال بعلم الفلك، وإلى أن يجعلوا جل اهتمامهم في حضاراتهم بهذا العلم، وبكل ما يتصل بها، حتى جرهم هذا إلى الاشتغال بعلم الفلك، وإلى أن يجعلوا جل اهتمامهم في حضاراتهم بهذا العلم، وبكل ما يتصل به من العلوم كالسحر والتنجيم، ولاشك أن مثل هذه العلوم لا تصلح أساساً لحضارة تنفع الناس في دنياه، وتهيئ لهم فيها أسباب الهناءة والسعادة، فلم يُعْنَ الكلدان بالعلوم التي تنظر إلى الأرض كما عنُوا بالعلوم التي تنظر إلى السماء، ولم يهتموا بالزراعة والصناعة والتجارة كما اهتم بها إخوانهم الفينيقيون في الشام، مع أن هذه الأمور هي الأسس التي يقوم عليها بنيان الحضارة، وترفل بها الشعوب في حلل الرفاهية، ولهذا ذهبت الحضارة الكلدانية ولم تترك وراءها إلا شهرة بابل عاصمتها بالسحر، وهي شهرة لا ترفع من شأنها، ولا تجعل لها منزلة عالية بين الحضارات القديمة

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك الاعوجاج في الحضارة الكلدانية في الآية (102) من سورة البقرة: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) فالقرآن الكريم يشير بهذا إلى أن السحر كان قد انتشر في تلك المدينة حتى عم ضرره كل الناس، وتفاهم خطبه بينهم، وصار أربابه هم الآمرين الناهين فيهم، لأنهم أوهموهم أن لهم قوة غيبية وراء الأسباب التي ربط الله بها المسببات في هذه الدنيا، فهم يفعلون ما يوهمون الناس أنه فوق استعداد البشر، وفوق ما منحوا من القوى والقدر، وأنهم يستعينون عليه بالشياطين وأرواح الكواكب، إلى غير ذلك من ضلالالتهم وكفرياتهم، فأرسل الله هاروت وماروت يعلمانهم حقيقة السحر، ويبينان لهم أن السحر بشر مثلهم لا قدرة لهم على النفع والضر، وأن السحر إما حيلة وشعوذة لا أصل لها، وإما صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس، وبهذا يكون علماً يؤخذ بالتعليم ويتكرر بالعمل، وفي استطاعة كثير من الناس أن يتعلمه ويفعل ما يفعله أربابه، ولا يرجع كما يزعمون إلى قوة غيبية فيهم، ولا أثر فيه لتأثير الشياطين وأرواح الكواكب، وهو مع هذا ليس من العلوم التي يليق بذوي الأخلاق الكريمة الاشتغال بها، لأنه من العلوم التي تضر ولا تنفع، ولا يشتغل به إلا كل دجال أو مشعوذ.

الحضارة الحميرية

وينسب الحميريون إلى حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، وكان لهم ملك عريق باليمن، وحضارة يشهد بفضلها ما بقي من آثارها. ومن أشهر دولهم فيه دولة سبأ، وكانت دولة تجارية خلفت دولة مَعين في نقل التجارة بين الهند والحبشة والعراق والشام ومصر، وقد زهت حضارة اليمنيين في عهد هذه الدولة، وعظم غناؤها وثراؤها، لأنها كانت تعني بشق الأنهار وبناء السدود التي تحفظ المياه بين الجبال، لتصرفها على الأرض بقدر، ولا تذهب سدى في الفلوات والبحار، فعمرت بذلك بلاد اليمن أعظم عمارة، وامتلأت نواحيها بالزروع والحدائق وناطحت قصورها وحصونها السحب

وقد نوه القرآن الكريم بحضارة سبأ أعظم تنويه، وجعلها لعظمها وفخامتها آية من آيات الله، فقال تعالى في الآيات: - 15، 16، 17، 18، 19 - من سورة سبأ (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. ذلك جزيناهم بما كفروا؛ وهل نجازي إلا الكفور. وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق؛ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)

وقد ذكر المفسرون من عظمة تلك الجنات أن المرأة كانت تحمل مكتلها على رأسها وتمر بها، فيمتلئ المكتل من أنواع الفواكه من غير أن تمس بيدها شيئاً. وذكروا من طيب تلك البلدة أنه لم يكن يرى فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا حية ولا عقرب، وأن الرجل كان يمر بها وفي ثيابه القمل فيموت من طيب الهواء. وذكروا أن تلك القرى الظاهرة كانت تتواصل من اليمن إلى الشام، فإذا سافروا فيها لمتاجرهم يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى، وكلما وصلوا إلى قرية وجدوا فيها المياه والزروع والأشجار، فلا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام. والقرآن الكريم يشير بهذا إلى أن عظمة هذه الدولة كانت قائمة على أساس التجارة ونقلها بين تلك البلاد، كما يشير بقوله: (باعد بين أسفارنا) إلى أن زوال عظمتها كان بسبب انتقال زمام هذه التجارة من أيدي أبنائها، وكل هذا يتفق مع ما وصل إليه علماء التاريخ في عصرنا، وهم لم يصلوا إليه إلا بعد الكد والتعب في كشف ما تركته هذه الدولة من آثار، وفي محاولة قراءة ما دون فيها من حوادث وأخبار، وكم للقرآن من أمثال هذه المعجزات العليمة!

وكان سبب انتقال التجارة من أيدي أبناء هذه الدولة تحول طريقها من البر إلى البحر، فأحدث ذلك أثراً كبيراً فيها، وجعلها تعجز عن حفظ تلك السدود وتهمل شأنها، وكانت خاتمتها بانهيار ذلك السد العظيم، سد مأرب الذي أشار إليه القرآن الكريم.

(يتبع)

عبد المتعال الصعيدي