مجلة الرسالة/العدد 503/القوة الفردية هي أساس القوة الاجتماعية
مجلة الرسالة/العدد 503/القوة الفردية هي أساس القوة الاجتماعية
(رسالة مهداة إلى معالي الأستاذ عبد الحميد عبد الحق وزير
الشؤون الاجتماعية)
للدكتور زكي مبارك
في العام الأسبق نشرتُ مقالات عن الفقراء والأغنياء تقوم على أساس القول بأن الفقر مرض ولكل مرض أسباب، وأن الغنى عافية ولكل عافية أسباب
وقد قوبلت تلك المقالات بالاستنكار من كل جانب، وعدّها الناس تحاملا على الفقراء، وتلطفاً مع الأغنياء، مع أني كتبتها لوجه الله والحق، ولم يكن هناك باعث غير الرغبة الصحيحة في عرض أراء قد اقتنعت بصحتها كل الاقتناع
ثم مرت شهور طوال وأنا أفكر في أسباب غضب الجمهور على تلك المقالات، فلم أجدها ترجع إلا لسبب واحد: هو مجاراة النزعة الموروثة في الترفق بالفقراء، والغض من أقدار الأغنياء، فقد مرّت أزمان والناس لا يقرأون غير كلمات معسولة في الدعوة الى الرأفة والرحمة والبر والحنان فيما يتصل بمعاملة الفقراء، وكلمات مسمومة في إنذار الأغنياء بعواقب الحرص على كنز الأموال
وأقول أن هذه الألوان الكلامية كانت تليق بزمان غير هذا الزمان، يوم كانت الكلمة اللطيفة تنفع الفقير بعض النفع لما فيها من المواساة، ويوم كانت الكلمة القاسية تصدُّ الغنيّ عن المبالغة في طلب الجاه والمال
أما اليوم فقد تغيرت مذاهب الحياة أشد التغير، ولم يبق للكلام المعسول أي قيمة في مواساة الفقراء، ولم يعد للكلام المسموم وزن في تقويم الأغنياء
نحن في زمن الحقائق، وليس للكاتب المرائي في هذا الزمن مكان.
نحن في زمن الحقائق، والحقائق تنطق بأن الفقر مرض، وأن الغنى عافية. والمريض الذي لا يبحث عن أسباب مرضه ليتجنبها هو مريض في طريق الموت
يجب أن نقنع كل فرد بأن الغنى طوع يديه إن أراد
يجب أن نقنع كل فرد بأن الوصول إلى الرزق ليس من المشكلات، فجهاد ساعتين اثنتين من كل يوم يكفي للظفر بالزاد الذي يغني عن سؤال الناس
وميادين الحياة في كل أرض تتسع للعيش، العيش الذي يطلب بالعمل لا بالسؤال
إن الفقر هو انعدام الرزق، والغنى هو وجود الرزق
أقول هذا لأدفع وهما من أسخف الأوهام، وهو الوهم الذي يقول كاذباً بأن الأغنياء هم الذين يملكون القصور والبساتين، وأن الفقراء هم الذين لا يملكون قصوراً ولا بساتين
العامل الذي يكسب خمسة قروش في اليوم ليدخل على أهله في المساء ومعه القوت الحلال من الخبز والبصل والفول هو من كبار الأغنياء
والخادم الذي يصدُق في بيت مخدومه ويقدّم لأهله في كل شهر عشرات القروش هو من كبار الأغنياء
الغني الحق هو انعدام الاحتياج الى الصدقات، فما تجوز الصدقة إلى على من يحرم القدرة على الكسب الشريف
ومن قال غير هذا القول فهو كاتب يتملق المجتمع ويطمع في شهرة محرّمة، والشهرة كالرزق فيها حرام وحلال
إن التباكي أو البكاء لن ينفع الفقراء بشي، ولو جمعت دموع الباكين من الكتاب والشعراء والخطباء لكانت أقل من أن تملأ كوباً ينفع غلة فقير ظمآن
أدباؤنا لن يؤدوا رسالتهم الأجتماعية إلا يوم يستطيعون إقناع الكنّاس بأنه يؤدي مهمة وطنية
لو كان في مصر أدبٌ اجتماعيٌّ صادق لكان من ثماره أن يتغنى الكنّاس بفضل مكنسته وهي من أظهر شواهد المدنية
ولكن الكناس يجد من أدباء مصر من يبكي على مصيره بكاء التماسيح
الغبار يؤذي الرئتين فيورث السل
كذلك قال الأطباء
فهل سمعتم أن كناساً مات بالسل؟
إن الله يحمي الكناسين، لأنهم يؤدون خدمة عمومية، ولم يبقى إلا أن يفهم الكناسون هذا المعنى، ليدركوا أنهم جنود جندهم الوطن لخدمة الإنسانية وقد طال تباكي الأدباء على الفلاحين، فهل في أدبائنا من يفهم أن الفلاحين في غنى عن تباكيهم المصطنع؟
قالوا أن الفلاح يبيت مع الجاموسة في حظيرة واحدة، وفاتهم أن المبيت مع الجاموس أطهر وأشرف من المبيت في غرفه مفروشة بأحد المنازل التي يعرفها المتأنقون من أدباء هذا الجيل الظريف!!
إن حياة الفلاح في صحبة مواشيه حياة تفيض بالروح والوجدان، فهو ينظر الى مواشيه برفق يعادل نظره إلى أبنائه الأعزاء، وهو يسهر حول حظيرة ثوره حين يمرض، كما يسهر حول فراش أبنه حين يمرض، وهو لا يسمح بذبح ماشية مريضة إلا طاعة لعقيدة توحي إليه أن من الإساءة للحيوان الأليف أن يموت موت (الفطيس) وكذلك تكون المسارعة الى ذبح الحيوان المريض باباً من التكريم، لا ضرباً من الاستغلال
على هذا النحو من الفهم كانت الحياة في الريف، فقد رأيت ناساً يسهرون ومعهم مصباح حول ثور مريض، كأنهم يتوهمون أن المصباح يؤنسه بعض الإيناس. وتلك صورة تشهد بصدق الفطرة المصرية في إدراك منافع الطير والحيوان
والذي يفهم الريف حق الفهم يدرك السبب في عبادة المصريين القدماء للأنعام، وهذه العبادة فهمت على غير وجهها الصحيح. فما كان الغرض أن يكون البقر آلهة يعبدون من دون الله؛ وأنما كان الغرض أن يكون تقديس البقر نوعاً من صيانة النعمة الربانية، على نحو ما يصنع الفلاح المسلم حين يترك فتات الخبز في الطريق، لأنه يرى من كفر النعمة أن تداس بقايا الخبز بالأقدام
إن البقرة والثور من العناصر الأصلية في الثروة المصرية، ومن أجل هذا المعنى كانت هاتور وكان أبيس من المعبودات في زمن الفراعين. وعن مصر أخذت عبادة البقر في الأقطار الهندية، وتلك وثنية تستحق العطف، إذا فكرنا في سببها الصحيح
وقد حدثني سعادة الأستاذ طه الراوي أن الحجاج كان يحرِّم ذبح البقر، وأنشد أبياتاً قالها العراقيون في السخرية من هذا التحريم، فعمن أخذ الحجاج ذلك البدع الظريف؟
هل أخذه عن مصر؟ هل أخذه عن الهند؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما أستوحي المنافع الحقيقية للبقر في بناء العمران ونحن في هذا العهد نسرف في أكل اللحوم إسرافاً يحمل الحكومة على تقييد بيع اللحوم، وإن تمادينا على هذا الحال فستزول المعاني الشعرية التي يحسها الفلاح في رعاية مواشيه، وسيمسي الفلاح وهو آلة في أيدي الجزارين!
فهل يجوز بعد هذا الكلام أن يتمادى الكتاب المتحذلقون في تعبير الفلاح بأنه ينام في حظائر الأبقار والجواميس؟
إن لله حكمة في أن يجعل لنا أصدقاء نافعين من الطير والحيوان، أصدقاء لا يطالبون بشي، ولا يثورون على الحرمان!
كان أحد ملوك فرنسا يقول إن الذي يهمني أن يعم الرخاء بحيث يجد كل فرنسي دجاجة لمائدة يوم الأحد. . . والرخاء عندي أن يكون في دار كل فلاح بقرة أو جاموسة، فمتى نذيع هذا المعنى بأقلامنا؟ ومتى نترك تعييره بمصاحبة المواشي؟
كانت بيوت المياسير من أهل القاهرة تشتمل على حظيرة للأنعام، وكان هذا يلاحظ في تخطيط البيوت، فهل ترجع هذه النزعة السليمة، ولو في البيوت التي تقام في الضواحي؟
وكان الفرن ملحوظاً في كل بيت، ثم تمدَّنا فكانت العاقبة أن ذمم الخبازين!
وكانت أكثر البيوت في القاهرة تنتظر زادها (الصابح) من خيرات الريف يوم كان للقاهريين صلات بالريف، وقد انقطعت تلك الصلات بفضل التمدن الحديث
أما بعد فأين أنا مما أريد؟
أنا أدعو الى تقوية الذاتية في كل فرد، والى تمجيد كل مهنة، والى احترام كل جهاد في سبيل الرزق الحلال.
أنا أدعو العمال الذين ينقلون الأحجار إلى الفرح برؤية المباني الشواهق، لأن لهم يداً في رفع البناء.
وأدعو الكناسين إلى الفرح برؤية الأصحاء، لأن لهم يداً في دفع ما يحمل الغبار من أوباء. وأدعو عمال المطابع إلى الفرح بنهضة مصر العلمية، لأن لهم يداً في إبراز نفائس المؤلفات
الحياة الطيبة هي الحياة التي يسودها الرضا والابتهاج، وفي مقدور كل فرد أن يحيا هذه الحياة، لو سكت الكتّاب المتحذلقون فلم يبغّضوا الحياة إلى الأحياء هل تتوهمون أن السعادة لا تكون إلا من نصيب من يرتادون الملاهي أو يملكون البيوت والسيارات والفدادين؟
لو عرف الفلاح المجاهد في سبيل القوت أنه يغني أمته قبل أن يغتني لشعر بسعادة تفوق الوصف. ولو عرف الخادم أنه يساعد بأمانته على تجميل الحياة لأدرك أنه من السعداء
هل توجد في الدنيا مهنه حقيرة؟ لا، وأنما يجد في الدنيا حقراء، وهم الذين يريدون أكل الشي بلا جهاد.
ثم أما بعد فهذا درس في الأخلاق التي نرجو أن تسود في هذا الجيل وهو درس أوحته القصة الآتية:
كنت أسير في أحد البلاد ومعي رجلٌ متعلم له وظيفة ملحوظة في الريف، فرأينا جماعة من الفلاحين يجاهدون في نقل (عدّة وابور) مياه، فتنهد ذلك المعلم وقال: أنظر كيف يشقى الفلاحون!
ثم بالغ في التنهد إلى أن أخفت على عينيه من الدمع
عند ذلك قلت: ومن ينقل هذه (العدّة) إذا تخلى عنها هؤلاء الرجال الأشداء؟
فقال: هذه الحكومة تسمي نفسها حكومة الشعب، ومع ذلك لا تحمي هؤلاء المساكين من هذه الأثقال
فقلت: وهل ترى من واجب حكومة الشعب أن تحمي الشعب من الجهاد في سبيل الحياة؟
وطالت اللجاجة بيني وبين ذلك (المتعلم)، وانتهى الأمر بأن زاد اقتناعه بأني عدو الفلاحين
لو كان ذلك المتعلم من أرباب الأذواق لوجد في ذلك المنظر فرصة لنظم قصيدة يمجّد بها النشاط المصري، النشاط الموروث عن الآباء والأجداد، فالفلاحون المصريون هم أقوى الفلاحين في الدنيا بلا استثناء، ولو اشتركوا في مصارعة دولية لكانوا الفائزين.
ما العيب في أن يعاني الفلاحون عرق الجبين؟
وما العيب في أن لا يعرفوا غير الفؤوس والمحاريث؟
وما العيب في أن يكونوا شعثا لا زينة لهم غير كرم النفوس؟
هل تعرفون السعادة التي يشعر بها الفلاح وهو يوصي أهله بأن يوقظوه قبل الشروق ليدرك صلاة الصبح؟ هل تدركون فرح الفلاح بقدوم شهر الصيام؟
كان في مصر فِلاحه وكان فيها فلاحون، واليوم عرفت مصر أو عرف بعض كتابها أن حياة الفلاح بؤس في بؤس، وأن الواجب تنبيهه إلى ما خفي عليه من شقاء وعناء
أنا عدّو الفلاح، ولكن أي فلاح؟
أنا عدو الفلاح الذي يصدّق ما يسمع أو ما يقرأ في التهوين من شأن الريف
أنا عدو من يجهل نعمة الله عليه، والله قد أغدق نعمه على جميع الأحياء، فمتى نشكر الله على نعمه السوابغ؟ ومتى نعرف أننا لم نوفيه حقه من الثناء؟
زكي مبارك