مجلة الرسالة/العدد 52/بردى. . .

مجلة الرسالة/العدد 52/بردى. . .

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 07 - 1934



والتاريخ العربي

للأستاذ علي الطنطاوي

(بردى) سطر من الحكمة الإلهية، خطته يد الله علىفحة هذا الكون، ليقرأ فيه الناس ببصائرهم لا بأبصارهم فلسفة الحياة والموت، وروعة الماضي والمستقبل - وخصَّته للأمة العربية، فجمعت فيه تاريخها الجليل ببلاغة علوية معجزة.

والقرآن الذي جعل الآية المعجزة في القرآن - هو الله الذي جعلها في الأكوان.

والله الذي أعجز ملوك القول، وأمراء البلاغة، بسور من آيات وكلمات وحروف، هو الله الذي أعجز قادة العقل، وأئمة الفلسفة. بسور من بحار وإنهار وكهوف.

وما (بردى) إلا سورة من قرآن الكون المعجز البليغ - وليس إعجازه في أنه يجري؛ ولكن إعجازه في أنه ينطق. وبأن في كل شبر منه تاريخ حقبة من العصور. وتحت كل شبر أنقاض أمة من الأمم: أمة ولدت في حجره، ورضعت من لبانه، وحبت بين يديه، ثم قويت واشتدت، وبنت فأعلت، وفتحت فأوغلت، ثم داخلها الغرور، وحسبت إنها شاركت الله في ملكه، فظلمت وعتت واستكبرت، فبعث الله عليها نسمة واحدة من وادي العدم، فإذا هذه العظمة وهذا الجبروت ذكرى ضئيلة في نفس بردى، وأنقاض هينة في أعماقه، وصفحة أوفحتان في كتاب التاريخ. وإذا بأمة أخرى تخلفها في أرضها، وترثها مالها، ثم يكون سبيلُها سبيلَها: فقام الفينيقيون على أنقاض الحيثيين، والكنعانيوتنن بعد الفينيقيين، والفرس بعد الكنعانيين، واليونان بعد الفارسيين، والروم بعد اليونانيين، والغساسنة بعد الرومانيين، والمسلمون بعد الغسانيين - ثم قام العباسيون بعد الأمويين، ثم قاملاح الدين، ثم جاء الترك بعد السلجوقيين - ثم جاء فيصل بن الحسين، ثم جاءت جيوش الفرنسيين.

هكذا يدور الفلك في السماء، ويدور السلطان في الأرض، فتنشأ من القبر الحياة، ويغطى على الحياة قبر، والسلسلة لا تنتهي، والناس لا يعتبرون. . . و (بردى) يبتسم ساخراً من غرور الإنسان، ضاحكاً من جهالته. يحسب نفسه شيئاً، فيضارع الكون، ويتطاول بعقله إلى الله؛ وما هو من الكون إلا ذرة من الرمل ضائعة في الصحراء، وما عمره إلا ثانية واحدة من عمر (برد ى) (بردى) وهو يجرى على الأرض، رمز لتاريخ الأمة العربية وهو يجري في الزمان. ففي كل قسم من بردى، فصل من التاريخ:

يخرج (بردى) من بقعة في (الزبداني) منعزلةعبة، لا يبلغها إلا من كان من أبنائها عارفا بمداخلها ومخارجها - كما خرج العرب من هذه (الجزيرة) الصعبة المنعزلة، التي لم تلن إلا لأبنائها، والتي ردت عنها الفاتحين كافة، وجعلت رمالها قبرا لكل من يجرؤ منهم على وطئها، على أنه لم يتجرأ عليها إلا كسرى، فبلغ جيشه (ذي قار)، ولكن الجزيرة قد ابتلعت هذا الجيش وهي تهتف لمحمد، ثم لم يقنعها هذا الثأر، فابتلعت دولته كلها في (القادسية) تحت راية محمد،. . وقالت لعالم: هذا جزاء من يطأ الجزيرة!

ويسير (بردى) في غور عميق لا يخرج الى هذه الجنان الجميلة الفتانة التي قامت على مقربة منه، يسلك قراره الوادي، تلتطم أمواهه وتصطدم: كما كان العرب في جاهليتهم يصطدمون ويقتتلون ويشتغلون بأنفسهم عن العالم، فلم يخرجوا إلى الدنيا، ولم تخضع لجزيرتهم جنات أالشام، ولا سهول مصر، ولا سواد العراق.

ثم يبلغ (بردى) (الفيجة) وهناك تصب فيه أمواهها العذبة الصافية الزاخرة، فلا تخالطه ولا يخالطها، ويسير النهر خمسين متراً، ومن إحدى جهتيه (بردى) القليل العكر، ومن الأخرى (الفيجة) الكثيرة العذبة، ثم يختلطان، فتضيع قلته وكدورته، في كثرتها وصفائها، ويعدو (بردى) قوياً عذباً زاخراً، نحو أرض الورود والثمار.

كمابت على الديانة الجاهلية، مبادئ الإسلام السامية، فتجافى العرب عنها، وأبوا أن يتبعوها، وكادوا لأصحابها، حتى غدت الجزيرة كبردى، فيها المسلمون الموحدون المتحدون، والجاهلون المشركون المختلفون، ثم مكَّن الله لمحمد، فخضعت له الجزيرة لم تخضع قبله لمخلوق، واجتمعت كلها تحت رايته، ولم تجتمع قبل تحت راية واحدة، فقادها إلى الشام والعراق، إلى أرض النخيل والأعناب.

ويبلغ (بردى) (بسيمة) ويبلغ (الجديدة) فيسير بين بسيمة والجديدة، في أجمل البقاع على وجه الأرض، ويسقي هذه الخمائل فيكون شكرها إياه، أفنان الورود، وأغصان الأشجار التي تتدلى فوقه، وتلمس خده لمساً رقيقاً، وتقبل جبينه قبلة طاهرة، وهو يلين تارة فترى حصباءه منفائه، ويشتد أخرى فيرغي ويزبد، ويكون له منظر مرعب ولكنه جميل! مرهوب ولكنه محبوب!

كما كانت الأمة العربية بعد أن بسطت سلطإنها على العالم القديم كله محبوبة مرهوبة في آن، يفزع أعداؤها من هيبتها، ولكنهم يحبون عدلها، وينتفعون بحضارتها. أغاثت بالعدل بقاع الأرض فكان شكرإنها إياها، هذه الأموال التي فاضت بها خزائنها، وهذا النعيم الذي تفيأ ظلاله أبناؤها، وكانت تستقيم لها الأمور فتلين وتدع هذه الرقعة البسيطة من الأرض جنة يسعد بها أهلها، ويسعد بأهلها أهل الأرض جميعاً، وكانت تستغضب، فإذا غضبت غضب لها الدهر، وإذا سارت إلى عدوها سار في ركابها الموت والدمار أنى سارت: كانت نحمل في يمينها السلام والسعادة، وفي يسراها الموت والشقاء، كما يحمل بردى بين (بسيمة والجديدة) الغيث والثمرات، والطوفان والغرق.

ويبلغ بردى (الربوة) ويمشي حيال اليزبين، ذلك المعنى الذي بني من الشعر، وولد فيه الشعر، استحال إلى مقاه من عيدان تقوم على الخمر والقمر والعهر. . . وينقسم بردى إلى أقسام سبعة انتثرت نثراً بين عدوتي الوادي: يزيد، وتورا، وبردى، وبايناس، وقنوات، والديراني، وعقربا - منها القوى الممتلئ، ومنها الضعيف القليل - كما انقسمت الأمة العربية إلى طوائف وحكومات، منها القوي المتين، كحكومةلاح الدين التي ردت - علىغرها - أوربة كلها يسوقها الجهل والتعصب، وانتزعت في (حطين) الفريسة من (قلب الأسد)، وحكومة سيف الله التي هدت في (الحدث) حكومة الرومان هداً، ومنها الضعيف المستكين وقد ازدهرت الحضارة في هذا العهد وأثمرت، كما ازدهرت الأشجار في (الربوة) وأثمرت.

ثم يدخل بردى (دمشق)، فلا يصفق بالرحيق السلسل، ولا يتمايل على الورود والرياحين، بل يصفق بالأوحال والحشائش، ويميل على الأقذار والأوساخ، ويشح ماؤه وينضب ثم يضيع ويضمحل، كما ضاعت عزة العرب واضمحلت. . .

ثم يخرج إلى (الغوطة) فإذا نشق نسيمها عاودته الحياة، ونشأت في مجراه الجاف الصلب، عيون وينابيع، فإذا بلغ (جسر الغيضة) عاد قوياً زاخراً عذباً - كما عادت الأمة العربية اليوم إلى الحياة، ورفعت في الشام ومصر والعراقروحاً جديدة، لن تلبث إلا قليلاً حتى تكون خالصه لأصحابها، من دون الناس أجمعين! وبعد، فهل أحزنك يا بردى أنك اليوم ضائع في اهلك، لا ترى حولك عزة العروبة ولا جلال الإسلام؟ كلا، لا تحزن يا بردى فما أنت وحدك المضاع، إن هناك أمة بقضها وقضيضها، هي مثلك مضاعة، وهي مثلك بنت المجد والشؤدد.

لا تحزن يا بردى! بل اصبر حتى إذا أعجزك الصبر فثر بأمواهك، وليضطرم موجك حتى تغسل عن قومك عار الذلة والخنوع، أنه لا يغسله إلا ثورتك، هذه سنة الحياة يا بردى: لا بالحق ولكن بالقوة.

وإذا غرهم منك لينك، فأرهم شدتك، إن الماء لينه يجرف جبلاً على جبروته وكبريائه، ولقد ثرت مرة، فبلغ رشاشك بواتيه من هنا، وحيدر آباد من هناك! فهل استنفدت تلك المرة قوتك كلها؟ أما فيك بقية من الشباب؟ تعبت إذ تجري هذه الملايين من السنين؟ إنها فترةغيرة من عمرك، فعلام الونى؟ انك لا تزال شاباً، ولم تنس بعد جيش خالد ولا موكب الوليد، لقد كان ذلك أمس، وسيكون مثله في غدٍ.

فاصبر ولنصبر يا بردى! إن الصبر مفتاح الفرج يا بردى. . .

دمشقعلي الطنطاوي

آراء حرة