مجلة الرسالة/العدد 53/بين أسلوبين
مجلة الرسالة/العدد 53/بين أسلوبين
بين الإطناب الذي لم تؤثره (الوادي)، وبين الإيجاز الذي تحبه (الرسالة)، كادت تضيع صداقة رسخت قواعدها على الإكبار والحب، وتأكدت أسبابها على الخفض والشدة، وتمكنت الفتها على ربع قرن من الزمان المضطرب تغيرت فيه مودّات الأخوة، وتنكرت قلوب الجماعات، وتحللت روابط الأمم.
وجملة الأمر أن صديقي طه قد بنى قصة من الأدب الجميل على رسالتين خاصتين أرسلهما إليه الأستاذ توفيق الحكيم، ثم نشرها ونشرهما في الوادي؛ فلما أصبح كل ذلك للجمهور والتاريخ جاءت الرسالة فنشرته، لأنها كما قلت في العدد الماضي كانت مسرحاً لهذه الرواية، فمن حق قرائها أن يشهدوا فصلها الأخير، ولأنها سجلٌّ لألوان الأدب الحديث، فمن حق الأدب أن نسجل في تاريخه ما يقع بين رجاله من الخلاف الجدي فيه كاملاً غير منقوص. وإن بقي لأصحاب الظنون والفروض سبب ثالث فلن يكون غير تعصب الصديق للصديق. وكان الأستاذ توفيق الحكيم فيما بين ذلك قد نشر بيانه الذي نقلناه في الأسبوع الماضي عن الوادي بعنوان (خصومة)، فلم يُتَح لي الاطلاع عليه لحالة خاصة صرفتني عن قراءة الصحف ذلك اليوم. ولو كنت قرأته وقرأت بجانبه تعريض الدكتور بالأستاذ في مقاله (أخلاق الأدباء) لشق على فهمي أن يستنتج من المقالين عودة الصفاء وزوال الجفوة.
تصافى الصديقان إذن على غير علم من الوادي ولا من الرسالة، فلما رأى الأستاذ الحكيم عودة المقالة في الرسالة خالجته في الصفاء ريبة، وأراد صديقي الدكتور أن يجلو شبهة الأمر، ويخرج من تبعة النشر، ويترضى الغاضب المرتاب، فأرسل إلى كلمته العاتبة تتنمَّر على صفحة الوادي.
كان المألوف في مثل هذه الحال أن يقف العتاب عند الترضي والتنصل، ولكن الأسلوب المطنب الذي يؤثره صديقي من خصائصه التدفق، والتدفق لا يخلو من كدورة، فأخذ يولد من العتاب ويفرع فيه، حتى خرج به إلى التلويح والتجريح والاستعداء، لأنني نشرت ما نشرت بغير إذنه. علقت على هذا (العتاب) الموجع بأن صديقي طه استغل حيائي منه ووفائي له في إرضاء الحكيم وإنصاف الوادي، لأنه يعتقد إني إذا عاتب واشتد لا أجيب، وإذا أجبت لا أعيب؛ ولكن الأسلوب الموجز الذي اصطنعته كان على ما يظهر أقرب إلى الإخلال والغموض، لأن صديقي لم يفهم (الاستغلال) على الصورة التي اقتضاها المقام وبالمعنى الذي قصدته، وإنما فهمه بمعناه الشنيع الذي لا يكون بين أخوين، ثم رتب على هذا الفهم في رده على تعليقي ما رتب مما لا أعده موجهاً إلى ما دام قائماً على هذا الأساس!
فأنت ترى أن أكثر ما حدث إنما نشأ من أسلوبين استعمل كل منهما في غير موضعه، وان الأمر كله ما كان ليقع لولا حرفة الصحافة التي تغري بالنشر كما يغرى على القتل حمل المسدس. فان أكثر من هذا يقع كل يوم بين الأصدقاء والاخوة فتزيله كلمة في التليفون أو تحية عند اللقاء.
قال الذين وقفوا على ملابسات هذا الأمر إني إذا كنت أخطأت في نشر المقالة وهي عامة، فان صديقي أخطأ في نشر الرسائل وهي خاصة، وما يُسَوِّغ موقفه من الحكيم يسوغ موقفي منه. ولكني لا أقول هذا القول ولا أستعين به، فإن الواقع أن ما صرفني عن الاستئذان في النشر إنما هو اعتقادي بارتفاع الكلفة بين طه والزيات، وبين الوادي والرسالة.
أما بعد، فإذا جاز لهبَّة الريح أن تزعزع الجبل، أو لحبة الرمل أن تكدر البحر، جاز لنشر مقال أدبي من غير إذن أن ينال من صداقة رفيقي الصبي وخديني الشباب، فينتزع المحبة من خلال النفس، ويقتلع العلاقة من صميم القلب، ويقتطع الماضي من حساب الزمن، بالسهولة التي تنشر بها كلمة في صحيفة!
وما كان ليقع في الوهم أن قلبين ألفت بينهما براءة النشأة، وطول الصحبة، ووحدة الهوى، وطبيعة الثقافة، يجرى بينهما من سوء التفاهم ما يجري بين القلوب المتناكرة والصلات الحديثة! كذلك ما كان ليسبق إلى الظن أن صديقي الذي لم تكشف الحوادث والأيام منه إلا شعوراً سليماً وخلقاً كريماً وذكاءً متقداً وضميراً يقظاً ونفساً طيبة، يخضع لأثر الحر وثقل العمل وعنت الظروف، فيقول في صديقه ما لا يحب، ويرميه بما لا يعتقد!
أخي طه!
إن بيني وبينك ماضياً جليلاً لا تمحوه طوارئ الحاضر الحقير، وصداقة خالصة لا تكدرها شوائب الظن السوء، وذمة وثيقة لا تخفرها بوادر الكلام السريع، وأخوَةً كراماً جزعوا لهذا الخلاف ويسرهم أن ينقضي.
وإذا أمكنك أن تجد في ذاكرتك القوية المعجزة غميزة في خلق أخيك على طول عهدك به، كنت خليقاً أن تطيع فيه نوازي الغضب، وتقبل عليه شواهد الظن، وتسلكه في ذوى الخلق المعوج والطبع اللئيم!
أما إذا كان من طبيعة الصحافة أن تعبث بكل ما بقي بيننا وهو الود، وتعتدي على كل ما بقي لنا وهو الخلق، وتمتد إلى رأس مالنا الوحيد وهو الشرف، فادع الله لي ولك أن يخرجنا منها، ويغنينا عنها، ويحفظ البقية من عمرنا الكادح في كنف رعايته وفضله.
احمد حسن الزيات