مجلة الرسالة/العدد 559/فلسطين. . .!

مجلة الرسالة/العدد 559/فلسطين. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 03 - 1944



للأستاذ عمر الدسوقي

جهاد مجيد

لبيك يا فلسطين لبيك!

إن ما سطرته في سفر الجهاد والبطولة، وما ضربته من المثل الرائعة الجليلة، منذ حلت بك المحنة، ووفد عليك البلاء كان شآبيب الرحمة والغفران على أجداث آبائك الصيد الذين شادوا الدولة العربية قديماً؛ وسيظل رمزاً نبيلاً لأبناء العروبة يثير حميتهم إذا ونت، وبشحذ عزائمهم إذا فترت. فقد أبيت الضيم في شمم وكبرياء، ونهضت تذودين عن الحق المهضوم بقلب باسل ذمر يعاف الجنف والاستخذاء، وكلما ظن الدخيل أنها جذوة نار عما قريب تخمد زادتها حرارة إيمانك ضراماً فبذلت النفوس بذل السماح، فمن مات كان للوطن ضحية وقرباناً، ومن عاش كان للشرف نموذجاً وعنواناً. لقد هزم صبرك المال وسطوته، وقهر إيمانك الجيش وعدته. وقفت وحدك ردحاً من الزمن تذودين عن الحمى، وتصونين العربية، حتى عرف أبناء التاميز صدق جهادك وفقهوا كنه قضيتك، فأصدروا كتابهم الأبيض، وبه إقرار لبعض حقك على أن يكون لبنيك الغلبة في ديارهم، حكومة وعدداً، وأن تقف الهجرة الصهيونية في عامنا هذا

ثم انفجر مسعر الحرب ولف أوارها العالم في ريظته، وأبينا إلا أن نقف مع خصومنا بالأمس موقفاً يمثل نفسيتنا العربية الكريمة فبسطنا لهم أكف الصداقة في إخلاص لا تشوبه مداجاة أو رياء؛ لعلمنا أنهم يدافعون عن الحريات المسلوبة، ويقفون في وجه الجبروت والبغي، وعنجهية العنصر، والسيطرة الفردية؛ بل وبذلنا في سبيل نصرتهم كل ما قدرنا عليه، لم ندخر وسعاً، ونأل جهداً، ولم نكن يوماً على ذلك بآسفين.

دعوى اليهود

وإن تعجب فعجب لقوم يريدون أن يغتصبوا دياراً يعمرها أهلها منذ أربعة عشر قرناً بدعوى أنهم كانوا يقيمون بها قبل أن نضرب عليهم الذلة والمسكنة ويشردوا في الآفاق؛ مع أن دولتهم بها لم تزد عن قر وما ذنب العرب في أن اليهود لا يجدون لهم وطناً يأوون إليه؟ ولماذا تحل قضيتهم على حساب العرب وهم آمنون وادعون في ديارهم التي نزحوا إليها في الجاهلية، وفتحها أسلافهم بحد السيف وطردوا منها الرومان في الإسلام؟

إن الذنب في الواقع ذنب اليهود فهم لم يندمجوا يوماً ما في الشعوب التي نزحوا إلى ديارها، ولم يشاركوهم في السراء والضراء، بل ظلوا بمنأى عن ميادين الجهاد والتضحية، وجل همهم ادخار الثروات والنفوذ؛ وهذا ما بغضهم إلى كثير من الأمم فاضطهدوا في حقب التاريخ المتتابعة. ولو أخلصوا لأوطانهم التي أقاموا بها واتخذوا اليهودية شعاراً دينياً فحسب ما أساء إليهم أحد

سألت كثيراً من اليهود بإنجلترا: هل يفضلون الهجرة لفلسطين على أن يسلبوا الجنسية الإنجليزية أو يؤثرون حالتهم الراهنة؟ فكان جوابهم جميعاً: إنهم لا يرضون بغير إنجلترا بديلاً. فإذا سألتهم: لماذا إذا تعاضدون فكرة الوطن القومي؟ أجابوا: (حتى إذا أسئ لنا هنا وجدنا بلداً نأوي إليه)، فإذا جادلتهم: إما أن تكونوا إنجليز وإما أن تكونوا يهوداً؛ لأن الإنجليزي إذا أسئ إليه في بلده لا يتنصل من جنسيته ولا يرحل عنها، أرتج عليهم ولم يجدوا جواباً

إن دعوى اليهود في فلسطين لا يبررها التاريخ، ولا يؤيدها الواقع ولا يناصرها العدل؛ وأولى لهم - إذا كانوا حقاً ينفرون من الاضطهاد أن يكونوا مواطنين أوفياء للشعوب التي آثروا الإقامة بينها، يبذلون من أموالهم وأنفسهم وذكائهم وتجاربهم في سبيل رفاهيتها وسعادتها، ولا يبتغون من وراء ذلك مادة أو جاها شأن الوطنيين المضحين المخلصين، وحينذاك لا يجدون من يجرؤ على قذفهم بالخيانة والجشع، أو من يحاول التحريض عليهم وإرهابهم

وإن لم يكن في قدرتهم التغلب على طبيعتهم التي زادتها القرون تمكناً والضرب في الآفاق إرهافاً، فالأجدر بهم أن يبحثوا عن بقعة أخرى من الأرض تضم شتاتهم، وهم نيف وستة عشر مليوناً في أرجاء المعمورة المتباينة. ولعل هؤلاء الذين يعطفون عليهم ويؤيدون طلبتهم في إنشاء وطن قومي، وفي طليعتهم (المرشال سمطس)، وبعض شيوخ الولايات المتحدة يكونون صادقين في حدبهم عليهم ورفقهم بهم فيقطعونهم منفسحاً من الأرض في الدنيا الجديدة أو جنوب أفريقيا، ويتركون فلسطين الصغيرة الوادعة الغاصة بأهلها الذين لا يريدون التخلي عنها أو يفنوا عن آخرهم

على أن فلسطين لن تحل المشكلة اليهودية فهي أضيق من أن تتسع لهم جميعاً مهما بالغوا في مقدرة المدن الصناعية على استيعاب السكان. وأين يذهب العرب؟ ولم يتركون أوطانهم وبيوتهم لغيرهم؟ ولم يصيرون أقلية مستضعفة في ظل دولة يهودية غريبة معتدية لها الأكثرية والحكم بعد أن كانوا هم أهل البلاد وأصحاب ثروتها منذ الفتح الإسلامي؟

ثم إن هذه الدولة الصناعية ليست خطراً على فلسطين فحسب ولكنها ستكون نكبة على الشرق العربي كله؛ لما لليهود في العالم من رءوس أموال ضخمة وخبرة فنية وصناعية واسعة ستجعل من الشرق العربي سوقاً لسلعهم، وتميت فيه الصناعات الناشئة، ولن يكون أهله إلا أجراء أو مستهلكين، والثمرة والمال لليهود المستغلين

ومن حجج اليهود الواهية المتداعية التي يخدعون بها بعض الساسة في أوربا ادعاؤهم إنعاش فلسطين اقتصادياً منذ ابتدءوا ينزحون إليها، وأن أجور العمال من العرب قد ارتفعت، ومستوى الحياة قد ارتقى، وكثيراً من الأرض اليباب القحلة قد أصلح، وكانت فلسطين قبلهم معدمة تغص بالمستنقعات ويعاني أهلها الجهل والفقر والغبن

على أن هذه الحجة غير صحيحة؛ فلم يفد العرب شيئاً من أموال اليهود ونشاطهم وهم دوماً يؤثرون العمال من بني جنسهم ويجعلون مدنهم ومستعمراتهم، ولا يتبادلون السلع مع العرب بل لا يشترون شيئاً منهم، واستولوا على كثير من الوديان الخصبة المزروعة، ولو كان ادعاؤهم هذا صحيحاً فالعرب يرفضون مدنيتهم ورفاهيتهم وأموالهم وصناعاتهم على أن تبقى لهم حريتهم الغالبة، ورحم الله عنترة حين قال:

لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أكرم منزل

إن صلة اليهود بفلسطين صلة دينية فقط، وأما طمعهم في جعلها وطناً قومياً يضم دولة يهودية فيجب ألا يفكروا فيها، لأن فلسطين جزء من الوطن العربي الكبير، ووجود دولة غربية بجنسها ودينها ومشخصات قوميتها وسط هذا الوطن خطر كبير عليه، ومدعاة للشغب والاضطراب والفتن الدائمة؛ ولن يرضى العرب بذلك أبداً.

ثم إن فلسطين عزيزة على العرب من مسلمين ومسيحيين، ولهم فيها ذكريات غاليات، وحرمات مقدسة، بل إن المسلمين جميعاً في كل صقع الأرض يقدسونها ويعظمونها، ولن تطيب لهم نفس أو يهدأ لهم بال إن غلب عليها اليهود

الوعي العربي

نحمدك اللهم على أن أفقنا أخيراً من سباتنا العميق، وأخذنا نتآلف ونتآزر، ونتشارك في السراء والضراء بعد أن فرقتنا أيدي المطامع بدداً، وبعد أن بحت أصوات المخلصين للوحدة العربية.

إننا نيف وخمسون مليوناً من الأنفس في بقاع متصلة من خير الأرض وأمرعها وأغناها وأحسنها موقعاً، تربطنا أواصر محكمة من اللغة والتاريخ والعادات والدم والدين والآمال والآلام؛ وإذا لم تكن هذه الأواصر كفيلة بتكوين أمة متحدة متماسكة اقتصادياً وعلمياً وحربياً وسياسياً، فلست أدري أي شئ يكوّن هذه الأمة!!

كانت قضية لبنان اختباراً لمبلغ الوعي القومي عند الشعوب العربية، والخروج من ميدان الكلام والإعداد إلى ميدان العمل والجهاد، بيد أن قضية لبنان لم تكن من التعقيد مثل قضية فلسطين. وهنا سيتجلى إخلاصنا للقضية العربية، ومبلغ صدقنا في الجهاد وثباتنا أمام الصعاب، وقدرتنا على تذليلها وتعبيدها. فإن وقفنا أمة واحدة تنطق بلسان واحد وكلمة واحدة لا تتغير، ولا تفتر لنا عزيمة، أو تلين لنا قناة فسننتصر ونخرج ظافرين من الاختبار بحول الله. وهي خطوة لها ما بعدها، إن نجحت كانت حجر الزاوية في بناء الصرح العربي المرموق

ولا يسعنا إلا أن يسجل بالحمد والشكر والفخر والتأييد موقف الحكومات العربية، وفي طليعتها الحكومة المصرية على احتجاجها الصارخ على معاضدة بعض الشيوخ الأمريكيين لقضية اليهود في فلسطين. ويقيننا أنهم أيقاظ للأحداث الدولية المنتظرة، وأنهم سيجعلون نصب أعينهم، وضمن برامجهم السياسية إنقاذ فلسطين من اليهود واستخلاصها للعرب، واستنجاز إنجلترا ما وعدت به في الكتاب الأبيض، وأنهم لن يلينوا أمان الضغط والدعاية اليهودية، وأنهم والحمد لله عامرة قلوبهم بالإيمان والإخلاص والوطنية

إن في هذه الحرب عظات ودروساً يجب أن نتلقفها ونفيد منها، فأقوى الأمم وأمنعها حوزة وأغناها مالاً وأكثرها رجالاً، وأبرعها سياسة لم تخض غمار هذه الحرب بل اتخذت لها درءاً ونصيراً من الأمم التي تتفق معها في المشرب والمبدأ والأطماع وإن أمماً صغيرة كثيرة قد ابتلعت وتقوضت عروشها. وإن كل الأمم ينشد الحليف والمؤازر في هذه الحرب القاسية؛ ونحن كما ذكرنا أمة واحدة فرقتها سياسة العصور المظلمة، والأطماع الغاشمة؛ أفلا يجدر بنا أن نتعظ ونعتبر ونسير بخطى حثيثة نحو الوحدة أو الاتحاد رائدنا الإخلاص لأنفسنا ولأولادنا

هذا أمل نرجو ألا تعصف به زعازع السياسة، وأن يبقى عليه كبار الساسة، أو يتعهدوه بالري والنماء حتى يؤتى ثمرة حلواً جنياً. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وهو ولي التوفيق.

عمر الدسوقي