مجلة الرسالة/العدد 57/إبراهيم بك مرزوق ومحمد سعيد بك

مجلة الرسالة/العدد 57/إبراهيم بك مرزوق ومحمد سعيد بك

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 08 - 1934



بقلم الأستاذ محمود خيرت

نقلت الرسالة في عددها الرابع والخمسين ما دونه المغفور له تيمور باشا من حياة المرحوم إبراهيم بك مرزوق وانه كان شاعرا مجيدا نظم كثيرا من المقطوعات والقصائد. ولكنه مع توسع في ذكر مولده ونشأته وأدوار تقلبه في مناصب الحكومة أوجز كثيرا في حياته الأدبية مقتصرا على ان المرحوم محمد بك سعيد هو الذي جمع ديوانه ونشره في سنة 1387هـ، فلم يتعرض إلى شيء من شعره ليعيطنا صورة ريانة من تلك الحياة.

وقد كنت أود لو أن بين يدي ديوان هذا الشاعر الذي لم اهتد إليه في المكاتب، فاسد هذا الفراغ، ومع ذلك فانه لا يزال عالقا في ذهني منه هذان البيتان:

لم يُرضِني الهجرُ حتى ... عُمر الحبيب تقضى

والأرض ضمَّتهُ قبْلي ... يا ليتني كنت أرضا (أرضى)

وقد لا يكون هذا القدر القليل كافيا للحكم على هذا الشاعر من حيث ميوله المختلفة في مجموعها وعلاقتها بالبيئة التي عاش فيها، ولكنه على كل حال شاهد صدق على ما كانت عليه نفسه من الرقة وكان عليه أسلوبه من الفخامة والحلاوة والسهولة، فهذان البيتان مع انهما من المجزوء تضمنا قصة بحالها يجول فيها الحب وجناته والهجر وأناته، والموت وأظفاره، والدمع وانهاره، وهو بين الحبيب الذاهب، واليأس الغالب، يعود باللائمة على نفسه التي لم تقنع بالهجر وتجد لذاتها فيه، حتى ضمته الأرض قبل أن تضمنه حنيا قلبه الشجي المحترق، وهو مع كل هذا لا يفوته الحكم الصناعة فيخرج لنا جناسا لا نحس عنده جهدا ولا تكلفاً ولا مللاً، يجمع بين الندم على عدم الرضى، والحسرة على فوز الأرض بالحبيب من دونه.

على أن الذي هداني إلى هذا الديوان وأنا فتى هو نفس المرحوم محمد سعيد بك الذي عنى بجمعه ونشره، فقد كان كثيرا التردد على المرحوم جدي، (وكان صديق أبيه)، وكان من تردده علينا أن حبب إلى نفسي قرض الشعر في ذلك العهد.

ولقد كان محمد سعيد بك واسع الاطلاع غزير المادة فياضا مجيدا. اذكر انه زارنا مرة فوجد معي قريبا جميل الطلعة، فمال علي هامساً في إذن ي ما اسمه؟ قلت مصطفى، وعن ذلك انفرد بنفسه في ركن من الغرفة، حتى إذا مضت أربع دقائق اقبل علي يقول بصوت خافت: اسمع، ثم أنشدني هذا البيت:

وأعطشني وجدي إلى رشف ريقه ... لفرط صبابتي فمذ قال مُصْ طَفَى

ومن شعره رحمه الله في سيدة رثاها:

أيها المغرور بالدنيا اعتبر ... فبوعظ كم ينادى الزمن

بينما الإنسان في الدنيا إذا ... قائلٌ هذا فلان يدفن

ها هنا درة خدر فارقت ... قصرها الزاهي وهذا المسكن

أنشد الرضوان في تاريخها ... رحمة الله عليها جلشنُ

وجمل عجز البيت الأخير يعطيك تاريخ السنة التي توفيت فيها تلك السيدة، وإذا علما ان محاولة الحصول على التاريخ عند قرض الشعر من الأمور المعقدة التي لا يمكن فيها الجمع بين التاريخ وحلاوة الشعر أدركنا من هذا الشعر مقدرة هذا الشاعر الكبرى في تذليل هذه الصعوبة، فان إرسال الرحمة في هذه الصيغة التي ألفها الناس وذكر اسم المرثية والحصول مع ذلك على التاريخ المطلوب في شعر من بحر الرمل حلو الألفاظ والمعنى كاف للتدلي على مكانته. ولق بل من مقدرة محمد بك سعيد انه نظم مرة قصيدة من عشرين بيتا كان كل صدر وكل عجز منها تاريخاً، وقد سمعت ذلك من جدي رحمه الله، وكان وقتئذ وكيلا للمطبعة الأميرية، ولعل هذه القصيدة منشورة بالوقائع الرسمية التي كانت تنشر وقتئذ له وللمرحوم الليثي وغيرهما من الشعراء.

وقد روى لي محمد سعيد بك رحمه الله انه هو الذي وضع القطعة الغنائية المشهورة التي مطلعها:

بستان جمالك من حسنه ... أبهى وأجمل م البستان

على خلاف ما شاع بعد وفاته من أنها للمرحوم إسماعيل باشا صبري هؤلاء الناس الموفقون في الأدب والشعر قد لا يعلم الناس عن كثير منهم شيئاً، وهكذا يذهبون وتذهب معهم آثارهم. روي لي المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي ان كتبة محكمة الإسكندرية الشرعية كان رئيسهم (الباشكاتب) في وقت ما رجلا نسيت اسمه خفيف الروح جيد الشعر، ولكنه كان مولعا بالشراب. وقد صادفه مرة أحد أصدقائه وهو يحتسي في حانوت خمار فطلب إليه أن يسايره حيث هو ذاهب (وكان لا يزال في القنينة نحو ثلثها) فأبى قائلاً وبلسانه التواء من اثر السكر.

مضى بها ما مضى من عَقل شاربها ... وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي

ولا أدري إذا كان هذا البيت من مقولة أو قديم، ولكنه على كل حال دليل على سرعة ارتجاله أو سرعة خاطره.

ومما يدل على ظرف هذا الرجل أن حضرة القاضي رئيس المحكمة كان معتاداً أن يقبل الموظفون (وهو معهم) يده عند كل صباح. ولكنه بلغه مرة انه مدمن على الخمر، وانه يعترض في الطرقات الفتيات المتجرات بالهوى، فغضب عليه وأسرف في تعنيفه حتى إذا ضاقت نفسه خرج من صمته صائحا ليكن ما بلغ فضيلتك عن صحيحا فمالك وسلوكي في غير أوقات عملي. وعند ذلك جن جنون الشيخ وصرخ فيه ان اخرج من هنا. أنت طالق. أنت طالق. أنت طالق. . .!

وفي صباح اليوم التالي لم يره الشيخ مع باقي الكتبة فتذكر ما كان من أمره معه بالأمس، وأرسل في طلبه، ولكنه أبى أن يحضر فذهب إليه بنفسه، وعند ذلك أسرع صاحبنا فغطى وجهه بطرف ثوبه. . . وفي هذه الحركة من حسن الإشارة ما فيها بعد صدور ذلك اليمين. . .

رحمهم الله جميعاً

محمود خيرت

بقلم قضايا وزارة المالية