مجلة الرسالة/العدد 688/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 688/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1946



إلى علماء العربية وأعلامها:

كنت أحقق منذ عهد بعيد شعر أبى نؤاس، وأبحث عنه في مضانه المخطوطة والمطبوعة، فدفعني ذلك إلى دراسة الأديرة والحانات وما يدور فيها، وأماكن اللهو والتنزه، ومواضع القصف والنزف وما يتعلق بذلك ودراسة الشعراء المجان وتاريخ الخمرة في الأدب العربي، وحياة الجواري والقيان وأثرهن، إلى غير ذلك مما يتصل بموضعي. . فعثرت على شاعر ماجن خليع داعر اسماه أصحاب التصانيف والتآليف (أبا شاس)، ووصفوه بأنه صاحب دعابة ومجون، وفسق وتهتك، وتطرح بالحانات، وملازمة للديارات.

ذكر هذا الشاعر ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) عند الكلام على دير يونس في موضعين، وذكر له شعرا في صفة هذا الدير، وشعرا في صفة الخمرة، ولم يعلق العلامة احمد زكي باشا على ذلك بشيء، بينما علق على ابسط الأمور، وشرح مختلف الألفاظ.

ثم رأيت الأستاذ حبيب زيات يذكره في كتابه الموسوم (بالديارات النصرانية في الإسلام) ويضع له اسما في فهرس الشعراء الذين استشهد بشعرهم في كتابه ويسميه (أبو شاس منير)

ولما كان جميع من كتب في الديارات والحانات والأعمار وما شابه ذلك اعتمد على كتاب (الديارات) لآبي الحسن على بن محمد الشابشتي رأيت أن أرجع أليه في تحقيق اسم هذا الشاعر ونسبه وحياته.

ولكن الشابشتي لم يذكر عن هذا الشاعر ما يبل الغلة ويفي بالحاجة، بينما ترجم كل شاعر له علاقة بموضوعه ترجمة وافية مهما كان ذلك الشاعر مغمورا.

قال الشابشتي في الكلام على دير يونس بن متي بعد ما ذكره وعرف به: (ولأبى شاس فيه:

يا دير يونس جادت صوبك الديم ... حتى ترى ناظرا بالنور تبتسم

لم يشف من ناجر حر على ظمأ ... كما شفى حر قلبي ماؤك الشبم

ولم يحلك محزون به سقم ... ألا تحلل عنه ذلك السقم

أستغفر الله من فتك بذي غنج ... جرى عليّ به في ربعك القلم ثم يقول بعد هذا: (وكان أبو شاس هذا من اطبع الناس، مليح الشعر، كثير الوصف للخمر، ملازما للديارات، متطرحا بها، مفتونا برهبانها ومن فيها.) ثم يقول ومن مليح شعره:

لا تعدلن عن إبنة الكرم ... بابي ففيها صحة الجسم

وأعلم بأنك أن لهجت بغيرها ... هطلت عليك سحائب الهم

وإذا شربت فكن مستيقظاً ... حتى يتبين طيبة الطعم

لو لم يكن في شربها راحة ... إلا التخلص من يد الهم

وهذه القصيدة موجودة في شعر أبي نؤاس وهي في ثمانية أبيات، ورأيت العمري في مسالكه ينسبها لأبى شاس ويذكر الأول منها والرابع فقط.

ويستمر الشابشتي في ذكر شعر أبى شاس هذا ويذكر له قصيدة مطلعها:

أعاذل ما على مثلي سبيل ... عذلك في المدامة مستحيل

وبعد هذا البيت ثمانية أبيات، وهي موجودة أيضا في شعر آبي نؤاس بنصها وبعدد أبياتها، وينقلها العمري في المسالك ويذكر منها أربعة ابيات، وينسبها لآبي شاس:

هذا هو أبو شاس الشاعر الظريف الماجن الذي مر ذكره في هذه المصادر الثلاثة ولم اعثر على ذكر في أي مصدر أخر.

أقول أن أبا شاس هذا هو أبو نؤاس نفسه إذ أن العمري وحبيب الزيات نقلا عن الشابشتي وان الناسخ له صحف هذا الاسم 0أبا نؤاس) فصيره أبا شاس، وجاء العمري ونقل عنه، وأغفله العلامة احمد زكي باشا فلم يصحح هذا التصحيف، ثم جاء حبيب زيات ونقل عن العمري أو عن الشابشتي ووضع له اسما هو (منير).

أضع هذا الرأي بين أيدي علماء العربية وأعلامها لعل لهم فيه رأيا.

(بغداد)

شكري محمود احمد

بين المحمدية والموسوية:

من الشرعية الموسوية التي نسخها الشرع الإسلامي، ولكن القوم بها عاملون: قول موسى عليه السلام: (كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم من البرية ولبنان من نهر الفرات إلى البحر الغربي يكون تخمكم)

وفي الشرع الإسلامي أن الأرض لأهلها، يفرض فاتحوها عليها خراجا، وجزية على السكان لتمويل المحاربين في الجيش لقاء إقرار الأمن وإقامة العدل وحماية البلاد.

وفي الشريعة الموسوية: (حين تقرب من مدينة لتحاربها استدعها إلى الصلح فان أجابتك وفتحت لك أبوابها فكل الشعب المولود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب ألهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فهو غنيمتك تغتنمها لنفسك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة عنك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب ألهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريما) ومعنى التحريم هنا القتل العام. وفيها أيضا: (تمحو اسمهم من تحت السماء لا يقف إنسان في وجهك حتى تفنيهم تدريجيا لئلا تكثر عليك وحوش البرية).

وفي الشرع الإسلامي إذا حاصر المسلمون مدينة أو حضنا دعوا أهلها إلى الإسلام فان أجابوا كفوا عن قتالهم، وان امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية فان بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فان أبوا لجأ المسلمون إلى القتال، على أن لا يخونوا ولا يغلوا ولا يغدروا ولا يمثلوا ولا يقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا يقطعوا شجرة ولا يذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكله ولا يعرضوا للمبتعد في صومعته و. . .

وفي شريعة سيدنا موسى أن حفظ العهود ووجوب العمل بها محصور بما عقد منها بين بني إسرائيل فقط، ولا يجب على الإسرائيلي أن يحتفظ بعهده مع العدو المحارب أو غيره.

وفي الشرع الإسلامي يجب الوفاء بالعقود عامة لقوله تعالى (وأوفوا بالعقود).

وفي الشريعة الموسوية: (لا تقرض أخاك الإسرائيلي بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا).

وكذلك سائر القواعد الاجتماعية في المعاملات والعقوبات، فالحكم في الشريعة الموسوية يختلف باختلاف الأشخاص، والعقوبة تخف على اليهودي وتشتد على الأجنبي مع وحدة الجرم ويسقط عندهم الدين بمرور الزمن بعد سبع سنين عن العبراني وأما عن الأجنبي فلا يسقط أبدا ولا يمر عليه الزمان.

وفي الشرع الإسلامي أن لأهل الذمة ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وفي الحديث النبوي المحمدي (من آذى ذمياً كنت خصمه يوم القيامة). إلى غير هذا مما هو مبسوط في مظانه ومصادره.

فوزي محمد طراد

أثر العرب في الحضارة الأوربية:

هذا عنوان الكتاب الأخير الذي أصدره في هذا الصيف الأستاذ الكبير العقاد، ومن حسن حظ العرب والأدب أن هذا الكتاب جاء في وقته. ووقته الذي أعنيه هو هذه المعركة الحاسمة في نضال عنيف بين العرب وأوربا استمر منذ أحرق طارق سفنه في الشاطئ الغربي من المضيق إلى اليوم. وكان هذا النضال الطويل افظع صدام شهده التاريخ بين الحق والباطل والعلم والجهل والمدنية والبربرية، تسلح فيها سماسرة الدين وعلوج الملك بالضغينة والإفك والتمويه والتشويه، فوقفوا بالعصبية أمام العرب في الاندلس، وبالصليبية أمام الإسلام في فلسطين، وبالآرية أمام السامية في عهد هتلر، ثم بالغرب كله أمام الشرق كله في عصر تشرشل. ولقد ظل النصر لنا حليفا في مراحل هذا الصدام، حتى انطمست في نفوسنا معاني الآلام والعروبة، ففقدنا كل سلاح غير سلاح الحق. والحق وا أسفاه أعزل، فلا بد له من سيف كسيف خالد، وابكم فلا بد له من قلم كقلم العقاد. فالكتاب الذي يقراه الناس لكاتب العبقريات اليوم، إنما هو صولة من صولات الحق تفيد مصر وفلسطين وسائر بلاد الجامعة العربية في تعليم من يجهل وإقناع من ينكر أن العرب الذين مدنوا الشرق وهدوه، وعلموا الغرب وأمدوه، لا يزالون بفضل عقيدتهم وعقليتهم وجنسيتهم مشعلا من مشاعل الحضارة، وركنا من أركان السلام، وانهم أعطوا العلم اكثر مما اخذوا منه، واثروا بالغرب اكثر مما تأثروا به، وان من الكرامة الإنسانية أن لا يعاملوا بالقهر، وألا يؤاخذوا بالاستبداد، وألا يبنى الاتفاق معهم على الكره.

(موضوع هذا الكتاب الوجيز ينقسم إلى قسمين: أولهما اثر العرب في الحضارة الأوربية من اقدم أزمانها؛ والثاني اثر أوربا الحديثة في النهضة العربية العصرية) فعالج الأستاذ المؤلف اثر العرب في الأوربيين من جهة العقائد السماوية، وآداب الحياة والسلوك، والتدوين، وصناعات السلم والحرب، والطب والعلوم والجغرافيا والفلك والرياضة والأدب والفن والفلسفة والدين، وأحوال الحضارة والدولة والنظام؛ ثم أجمل أثر أوربا الحديثة في النهضة العربية، فأشار إلى ذلك في الاجتماع والسياسة، والحكومة البرلمانية، والوطنية، والحركات الدينية، والأخلاق والعادات، والأدب والفن، والصحافة، وكل هذه المسائل معروضة بالعرض الذي يعرفه الناس للعقاد من قوة المنطق وصفاء الأسلوب وسعة الاطلاع. وهو بعد ذلك مطبوع في دار المعارف طبعا أنيقا على ورق صقيل في غلاف جميل.

فن إنشاد الشعر العربي:

كتاب يقع في 78 صفحة من القطع المتوسط مطبوع في مطبعة الآباء الفرنسيسيين في القدس، وضعه الأب أغسطس فيكي الفرنسيسي، ونقله إلى العربية الأب اسطفان سالم، والدكتور إسحاق موسى الحسيني، وقد صدر الكتاب بمقدمة نفيسة، في الشعر، والإنشاد، وفي أسباب ضعف الشعر في عصرنا الحاضر وقد نبه المترجمان الفاضلان على أن الأب أغسطس فيكي لم يكن هو أول من راد مفارزة هذا البحث، وان العالم استانسلاس جوبار قد سبق المؤلف إلى البحث في فن الإنشاد الشعري. كما أن المستشرق المشهور تشارلس كيل، كان قد سبق المؤلف إلى تبيان مواطن الضغط الصوتي في كتابه (الشعر العربي القديم)

والكتاب على ما فيه من نظريات لم يألفها أدباء العربية الناشئون، لا بد أن يكون له شأن في المستقبل، ونحن واثقون بأن أعراض أبنائنا عن الشعر العربي خاصة والأدب العربي عامة مرده إلى أننا لم نعلمهم إياه على الوجه المرغب، المشوق المطرب. وإلا لكان أساتذة الأدب العربي لا يعانون الأمرين وهم يبتكرون الأساليب، لإقناع طلابهم بضرورة الإقبال على أدب لغتهم القديم منظومة ومنثورة.

نحن لا ننكر أن الكتاب يصدم مطالعه العربي عند الوهلة الأولى لأنه يزيد رموزا جديدة، إلى زحافات وعلل الشعر العربي وهي رموز النطق، والانشاد، ومط الصوت، مما لا عهد لنا به ولكن كل ذلك يهون إذا علمنا أن كل فن لا بد له من ضوابط وقيود تعصمه من الفوضى.

قد يعترض البعض على هذا الكتاب بأنه يزيد في القواعد ونحن نحاول التخفيف منها وجوابنا على هذا الاعتراض أن الكمال يحتاج إلى المجهود.

وقد يرى البعض أن الكتاب غايته التنغيم، وليس هذا من طبيعة الاشياء، ولا هو من طبيعة الشعر العربي.

والواقع أن هذا الرأي في غير محله، لان التنغيم هو الأصل في الشعر العربي وهو الأمر الطبيعي فيه، لأن الشعر والغناء من اصل واحد عند الأمم كافة، وقد وضع الشعر العربي في أول أمره لينشد تكريما للإلهة. والملوك، فكان لابد من إظهار العاطفة فيه بالنغم، فاليونان، والرومان يقولون إلى ألان (غني شعرا) ولا يقولون نظم شعرا والذي نراه إن العرب لم يشذوا عن هذه القاعدة، لأنهم ليسوا بدعة من بدع الحياة والطبيعة. ونرى فوق ذلك فان العرب ينظموا الشعر من أجل تكريم آلهة العشق في أول أمرهم (العزى) بدليل أن كل قصيدة لا بد لهم من أن يبدأوها بالغزل. وكان شعراء العرب يغنون شعرهم كألاعشى قبل الإسلام والشاعر الذي لم يكن صوته جميلا رخيما كان يقتنى غلاما رخيم الصوت ينشد أشعاره ولو لم يكن الإنشاد أصلا في الشعر لما خص كل نوع من العواطف ببحر، فنرى أن البحر الطويل يوافق لنظم الشعر الحماسي والوافر للفخر، والرحل للحزن أو الفرح، والسريع لتمثيل العواطف.

إذا فالكتاب المبحوث عنه محاولة نفيسة لا يسعنا إلا إكبارها، وإكبار صاحبها ومترجميها. وسيكون مفتاحا من مفاتيح الموسيقى العربية الشديدة التفلت من القيود.

روكس العزيزي

معلم العربية وآدابها في كلية تراسانة بالقدس