مجلة الرسالة/العدد 700/من يد ذات سوار إلى يد ذات سوار. . .

مجلة الرسالة/العدد 700/من يد ذات سوار إلى يد ذات سوار. . .

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 12 - 1946



لي - يا سيدتي - يدٌ ذات سوار كيدك، وأناملُ ناعمة نعومةَ أناملك،

ونفسٌ مرهَفٌ حِسُّها إرهاف حسك. فأما يدي فأصدقُ سعيها أن تصول

في عالم الكتابة وتجول؛ وأما أناملي فأحبُّ ملمسها أوتارُ قيثارة خالدة

توقع عليها ألحان البيان الرفيع؛ وأما نفسي فغاية مُتمناها أن تصور ما

يجيش في أحنائها تصويراً واضح الفكرة قوي الحبكة رائع الأسلوب،

يبوّئها في ميدان الأدب مكاناً عليّاً ترنو إليه الأبصار فتهوى إليه

القلوب. .

وأني - بلا ريب - لم أبعث إلى (الرسالة الغراء) بمقالي هذا لأفتح لكِ نفسي فتفتحي لي نفسك، فإن لنا في أرجاء المجتمع الوسيع لغَناءً عن التعارف على صفحات مجلة حملت

- وما انفكت تحمل - مشعل الأدب العربي الصميم، وسمحت وما برحت تسمح للأقلام الرقيقة الأنيقة، أقلامنا معشر ذوات الأساور، أن تقوى وتشتد لنكتب في بعض أبوابها فصولاً من معتصرات أدمغتنا، بها ندافع عن كرامتنا إن خدشت، وعن شعورنا إن جرح، وبها نقيم دعائم نهضتنا حين تنقض فرقاً من صواعق الرجعيين الجامدين، أو هَلعاً من زلازل المجدّدين المتطرفين!.

جميلٌ منك - يا سيدتي - أن تثيرك مقالات الأستاذ (الطنطاوي) الأخيرة فتبعثك على الطمع في المثول بين يديه مثول التلميذ بين يدي معلمه. وجميل من (الرسالة) أن ترضي ما صبت إليه نفسك، فتنشر ما جادت به براعتك، ليشهد فيه (صاحب المناظرة الهادئة) صورة صادقة التعبير عن الأدب النسائي المتزن بفكره الثاقب ونظره البعيد.

وإنه لجميل جداً من الأستاذ (الزيات) صاحب هذه المجلة الغراء أن ينقع غلتي فينشر كلمتي، ويسمح لي بإيضاح فكرتي، على عجز قلمي وضعف مُنتي. . .

غير أني لا أطمع - يا سيدتي - في شرف طمعت فيه: فَلأَنْ أبقى طيلة حياتي في صومعة النسيان أكتب لنفسي فلا يحس بي قريب أو بعيد - أحبُّ إليَّ من أن تكون لي (دالة خفيفة) أو ثقيلة، (مشفوعة بالأدب والطواعية) أو غير مشفوعة، على عَلم من أعلام الأدب العرب لا أستبعد أن يرى بعينيه النقادتين الحادتين من الضعف فيما أكتب إليه خاصة ما لا يراه فيما أكتب إلى الآخرين، فيحاسبني في حاضره حساباً عسيراً على مستقبلي: وإذا نفخة واحدة من نفخات قلمه العاصف - وهو يهتز تأثراً - تذهب بجميع ما يستوقده أدبي الناشئ من نار، وما يحاول أن يرمي به من شرر، فلا ألقى بعد إلا يأساً في قرارة النفس عميقاً، وزهادة بين الضلوع موغلة، وأستوحش شيئاً فشيئاً من الأدب والأدباء، ومن الكتابة والكاتبين.

لا. لست متشائمة يا صديقتي. . . ولا والله ما أحب أن تتشاءمي من حديثي هذا إليك؛ فإني لأعلم أنك - بعد أن تقدمت إلى الأستاذ الطنطاوي بمقالك الجريء الذي أحسنت سبكه وأحكمتِ ربطَه، وعرفتِ بأي لطف وظرف وكياسة تَعرضينه - لن تراعي إذا ما جلجلت مقالات الأستاذ من جديد، فإنها إذا خَطفتْ ببرقها بَصَرَكِ، أو أصمّت برعدها سمعك، لن تزيد في زلزالها عما تعودت من قوتها وتهدارها، ولن يهولَكِ فيها إذاً آتيها بعد الذي مضى، ولا مُقبلها بعد الذي خَلا. . .

ولكن. . .

إن يكن في وسع سيدتي أن تصبر على حملات (الطنطاوي) بعد أن تثيره، فليس في وسعي ولا أحب أن يكون في وسعي أن أصبر على حملة من حملاته من غير أن تخضلَّ عيناي بدموع من الإخلاص سواكب، لأني آمنت بأنه لا يحمل إلا إذا كان على حق، وأيقنت بأن الحدة لا تخرج دفاقة من بين ثنايا مقالاته إلا إذا آلمه الشيء النكر؛ وأنَّى لمثلي - وهي التي يوشك أن يجرفها التيار كما جرف الكثيرات من قبل - أن تصبر على جراح قلم سِلْم للحق، حرب على النكر؛ يجاهد في سبيل الله ولا يخاف لومة لائم!.

إني - على إعجابي بما جاء في مقالك يا صديقتي - لمقتنعة بسداد الأستاذ في موضوعه (مناظرة هادئة) وما سبقه من الموضوعات في معناه: إذ مهما يكن الرجل قواماً على المرأة، ومهما يكن حاملاً من أوزارها، فلتقعنَّ على عاتقها تبعات كثيرة، ومسئوليات جسيمة، ولاسيما إذا كانت مثقفة، عالمة بأوضاع الحياة المختلفة. وإذاً لا غرابة إذا أرسل الأستاذ (الطنطاوي) شُواظاً من نار كلماته الغَضبى على سواد المتعلمات اللاتي أهملن رسالاتهن بعد عرفانها، ونقضن مواثيقهنَّ بعد توكيدها، فاستحققن من (الطنطاوي) وغيره أن يصفهن بالجمادات الخرساء ولو حملن أعلى الشهادات من بكالوريا ودبلوم وليسانس وماجستير.

لا غرابة في هذا كله.

ولا غرابة في أن يناظر الأستاذ أولئك المتعلمات مناظرة (هادئة) رفقاً منه بالقوارير، وحناناً من لدنه على لابسات الحرير. .

ولكن الغرابة حقاً في أن تثوري لنا من دوننا جميعاً معشر صاحبات (نون النسوة) فتدافعي عن عدد قليل من المتعلمات تصفينه بالجم الغفير، وتُبرزين من سداد رأيه واستقلال فكره وبعد نظره الشيء الكثير، حتى لكأني بك تحسبين أن الطنطاوي جاهل أو متجاهل ذلك العدد القليل الذي غاليت في تمداحه، أو أنه كتب مقالاته من قبل أن يدرس نفسيته وأطواره.

عفواً يا أختاه!.

لقد قلبت الآية فجعلت الكثير قليلاً، والقليل كثيراً.

ألا إن أكثر المتعلمات حظاً من الحيوية والنشاط واستقامة المبدأ لأقلهن عدداً. وإن أقل المتعلمات خلاقاً من الخير والفضيلة وحسن الاتجاه لأكثرهن سواداً.

ولئن عرفتِ جماً غفيراً من صديقاتك المتعلمات اللاتي يعجبن السامعين بحوارهن ونقاشهن فإن أخوف ما أخافه أن يكون حماسك لنا - نحن بنات جنسك - قد بعثك على المغالاة في نثر المديح، فأني عرفت مثلك جماً غفيراً من السيدات والفتيات المتعلمات، لكني أبيت أن أتخذهن صديقات إلا ما رحم بي، إذ ألفيتهن إلا قليلاً منهن - على كثرة ما في رؤوسهن من المعلومات - يرددن ما يحفظن ترديد الببغاء.

وما أحسبك تنكرين الصلة الوثيقة بين العلم والدين، وبين الثقافة والفضيلة، وأنك حين تشايعين الأستاذ على ما يقوله في فتاة العصر من ناحية الدين - والدين كما تعلمين ينبوع الفضائل - فقد شايعتِه على كل ما يلوم عليه أكثر فتيات هذا العصر، لأن علومهن وفنونهن وآدابهن لا تؤتي أكلها المطلوب، ولا ثمراتها المنشودة.

إن الأستاذ الطنطاوي لا يريد من وراء مقالاته أن يسيء إلى شعورنا معشر الجنس اللطيف، ولا أن يجرح كرامة المتعلمات وأنصاف المتعلمات بَلْهَ العاميات اللاتي لا يفقهن مما يقول حديثاً، ولكنه - كما فهمتُ من غضون كلماته - يقصد إلى تذكيرنا جميعاً بواجبات طال علينا الأمد في الغفلة عنها، فاختار لذلك أعمق الأساليب أثراً، ليكون في توالي صيحاته عبرة لمن يخشى.

ألست معي في أنَّ كثيراً منا بات لا يعتبر إلا بالكلام الجارح، والخطاب الصادع؟.

ألستِ معي في أن أنوثة الكثيرات من المتعلمات فينا قد فقدت غير قليل من جمالها حين استبدلت خشونة مشاركة الرجل في أعماله بنعومة تدبير المنزل وتربية الأطفال؟.

أولستِ معي أخيراً في أن ثقافة هؤلاء المتعلمات لم تحلْ دون تقليد الأجنبيات على عمى، وأن الرقة في خطابهن واللطف في مناقشتهن والهدوء في مناظرتهن لم تزدهن إلا عشقاً لكل جديد ولو كان فيه الموت، وهرباً من كل قديم ولو كان فيه الحياة؟

اغفري لي يا صديقتي إذا قلت: لا سبيل إلى إصلاحنا معشر النساء إلا صرخات مدوية، وغارات متوالية، تهيب بنا أن نوثق عرى إسلامنا قبل أن تنفصم، وأن نجدد شباب عروبتنا قبل أن يهرم، وأن نبث روح الفضيلة في جيلنا قبل أن يموت. . .

فشكراً لك يا سيدي الطنطاوي على نفثات قلمك. . . ولتمسك بيدك القوية الثابتة مع أيدي إخوانك من الرجال المُخلصين بأيدينا الناعمة المرتبكة؛ فقد كنتم معشر الرجال وما تزالون أقوى منا بأساً، وأشد منا ساعداً، وأثبت منا جناناً، وأربط منا جأشاً؛ غير أن الحياة لم تصلح في عهد من العهود إلا على يدين اثنتين: يد الجنس الخشن ويد الجنس اللطيف. وأما أنت يا سيدتي ذات السوار فاغتنمي هذه الفرصة التي هيأتها لك بالكتابة مرة أخرى إلى الأستاذ الطنطاوي معتذرة، واذكري ما عشت تلك التي استعارت اسمك المستعار.

يد ذات سوار رقم 2